الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أيُّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقامًا وأحْسَنُ نَدِيًّا﴾ ﴿وَكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِن قَرْنٍ هم أحْسَنُ أثاثًا ورِئْيًا﴾ ﴿قُلْ مَن كانَ في الضَلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَحْمَنُ مَدًّا﴾ قَرَأ الأعْرَجُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وأبُو حَيْوَةَ: "يُتْلى" بِالياءِ مِن تَحْتٍ. وسَبَبُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ لِما كانَ الرَجُلُ مِنهم يُكَلِّمُ المُؤْمِنَ في مَعْنى الدِينِ فَيَقْرَأُ المُؤْمِنُ عَلَيْهِ القُرْآنَ، ويَبْهَرُهُ بِآياتِ النَبِيِّ ﷺ، كانَ الكافِرُ مِنهم يَقُولُ: إنَّ اللهَ إنَّما يُحْسِنُ لِأحَبِّ الخَلْقِ إلَيْهِ، وإنَّما يُنْعِمْ عَلى أهْلِ الحَقِّ، ونَحْنُ قَدْ أنْعَمَ عَلَيْنا دُونَكُمْ، فَنَحْنُ أغْنِياءُ وأنْتُمْ فُقَراءُ، ونَحْنُ أحْسَنُ مَجْلِسًا وأجْمَلُ شارَةً، فَهَذا المَعْنى ونَحْوَهُ هو المَقْصُودُ بِالتَوْقِيفِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أيُّ الفَرِيقَيْنِ﴾ ؟ (p-٦٠)وَقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "مَقامًا" بِفَتْحِ المِيمِ، و"لا مَقامَ لَكُمْ" بِالفَتْحِ أيْضًا، وهو المَصْدَرُ مَن قامَ، أوِ الظَرْفُ مِنهُ في مَوْضِعِ القِيامِ. وهَذا يَقْتَضِي لَفْظَ المَقامُ، إلّا أنَّ المَعْنى في هَذِهِ الآيَةِ يُحْرِزُ أنَّهُ واقِعٌ عَلى الظَرْفِ فَقَطْ، وقَرَأ أبِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "فِي مُقامٍ أمِينٍ"، بِضَمِّ المِيمِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "مُقامًا" بِضَمِّ المِيمِ، وهو ظَرْفٌ مَن أقامَ، وكَذَلِكَ أيْضًا مِنَ المَصْدَرِ مِنهُ مِثْلَ "مَجْراها ومُرْساها" وقَرَأ: "فِي مَقامٍ أمِينٍ" و"لا مَقامَ لَكُمْ" بِالفَتْحِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، والكِسائِيُّ، وحَمْزَةُ، وأبُو بَكْرٍ عن عاصِمْ جَمِيعُهَنَّ بِالفَتْحِ، ورَوى حَفْصٌ عن عاصِمْ "لا مُقامَ لَكُمْ" بِالضَمِّ. و"النَدِيُّ" والنادِي: المَجْلِسُ فِيهِ الجَماعَةُ، ومِنهُ قَوْلُ حاتِمُ الطائِيِّ: ؎ ودُعِيَتُ في أُولى النَدِيِّ ولِمْ يُنْظَرْ إلَيَّ بِأعْيُنٍ خُزْرِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ﴾ مُخاطَبَةً مِنَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ كَسْرَ حُجَّتِهِمْ واحْتِقارَ أمْرِهِمْ؛ لَأنَّ التَقْدِيرَ: هَذا الَّذِي افْتَخَرُوا بِهِ لا قَدْرَ لَهُ عِنْدَ اللهِ، ولَيْسَ بِمُنْجٍ لَهُمْ، فَكَمْ أهْلَكَ اللهُ مِنَ الأُمَمِ لَمّا كَفَرُوا وهم أشَدُّ مِن هَؤُلاءِ وأكْثَرُ أمْوالًا وأجْمَلَ مَنظَرًا. و"القَرْنُ": الأُمَّةُ يَجْمَعُها العَصْرُ الواحِدُ، واخْتَلَفَ الناسُ في قَدْرِ المُدَّةِ الَّتِي إذا اجْتَمَعَتْ أُمَّةٌ سُمِّيَتْ تِلْكَ الأُمَّةُ قَرْنًا - فَقِيلَ: مِائَةُ سَنَةٍ، وقِيلَ: ثَمانُونَ سَنَةً، وقِيلَ: سَبْعُونَ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في هَذا غَيْرَ مَرَّةٍ. و"الأثاثُ": المالُ العَيْنُ والعَرَضُ والحَيَوانُ، وهو اسْمٌ عامٌّ، واخْتَلَفَ، هَلْ هو جَمْعٌ أو إفْرادٌ؟ فَقالَ الفَرّاءُ: هو اسْمُ جَمْعٍ لا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ كالمَتاعِ، وقالَ خَلَفُ الأحْمَرِ، هو جَمْعٌ واحِدُهُ أثاثَةٌ، كَحَمامَةٍ وحَمامٍ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:(p-٦١) ؎ أشاقَتْكَ الظَعائِنُ يَوْمَ بانُوا ∗∗∗ بِذِي الرِئِيِ الجَمِيلِ مِنَ الأثاثِ؟ وأنْشَدَ أبُو العَبّاسِ: ؎ لَقَدْ عَلِمَتْ عُرَيْنَةُ حَيْثُ كانُوا ∗∗∗ بِأنّا نَحْنُ أكْثَرُهم أثاثًا وقَرَأ نافِعٌ - بِخِلافٍ - وأهْلُ المَدِينَةِ: "وَرِيًّا" بِياءٍ مُشَدَّدَةٍ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ فِيما رُوِيَ عنهُ، وطَلْحَةُ: "وَرِيًا" بِياءٍ مُخَفَّفَةٍ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمْ، وحَمْزَةَ، والكِسائِيُّ: "وَرَءْيًا" بِهَمْزَةٍ بَعْدَها ياءٌ، عَلى وزْنِ رَعْيًا، ورُوِيَتْ عن نافِعٍ، وابْنُ عامِرٍ، رَواها أشْهَبُ عن نافِعٍ، وقَرَأ أبُو بَكْرٍ عن عاصِمْ: "وَرِيئًا" بِياءٍ ساكِنَةٍ بَعْدَها هَمْزَةٌ، وهو عَلى القَلْبِ، وزْنُهُ فَلِعًا، وكَأنَّهُ مِن راءَ، وقالَ الشاعِرُ: ؎ وكُلُّ خَلِيلٍ راءَنِي فَهو قائِلٌ ∗∗∗ مِن أجْلِكَ: هَذا هامَةُ اليَوْمِ أو غَدِ (p-٦٢)فَأمّا القِراءَتانِ المَهْمُوزَتانِ فَهُما مِن رُؤْيَةِ العَيْنِ، الرِئِيُ اسْمُ المَرْئِيِّ والظاهِرُ لِلْعَيْنِ كالطَحْنِ والسَقْيِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الرِئِيُ: المَنظَرُ، قالَ الحَسَنَ: ورِيًّا بِمَعْناهُ، وأمّا المُشَدَّدَةُ الياءِ فَقِيلَ: هي بِمَعْنى المَهْمُوزَةِ إلّا أنَّ الهَمْزَةَ خُفِّفَتْ لِتَسْتَوِيَ رُؤُوسِ الآيِ. وذَكَرَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ عن بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ أنَّهُ مِنَ الرَيِّ في السُقْيا، كَأنَّهُ أرادَ أنَّهم خَيْرٌ مِنهم بِلادًا وأطْيَبُ أرْضًا وأكْثَرُ نِعَمًا؛ إذْ جُمْلَةُ النِعَمِ إنَّما هي مِن والمَطَرِ، وأمّا القِراءَةُ المُخَفَّفَةُ الياءِ فَضَعِيفَةُ الوَجْهِ، وقَدْ قِيلَ: هي لَحْنٌ. وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ويَزِيدُ البَرْبَرِيِّ، وابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: "وَزِيًّا" بِالزايِ، وهو بِمَعْنى المَلْبَسُ وهَيْئَتُهُ، تَقُولُ: زُيِّيَتْ بِمَعْنى: زَيَّنَتْ. وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ مَن كانَ في الضَلالَةِ﴾ فَقَوْلٌ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَكُونَ بِمَعْنى الدُعاءِ والِابْتِهالِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: الأضَلُّ مِنّا أو مِنكم مَدَّ اللهُ لَهُ حَتّى يَؤُولُ ذَلِكَ إلى عَذابِهِ. والمَعْنى الآخَرُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى الخَبَرِ كَأنَّهُ يَقُولُ: مَن كانَ ضالًّا مِنَ الأُمَمِ فَعادَةُ اللهِ فِيهِ أنَّهُ يَمُدُّ لَهُ ولا يُعاجِلُهُ حَتّى يُفْضِيَ ذَلِكَ إلى عَذابِهِ في الآخِرَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فاللامُ في قَوْلِهِ تَعالى: "فَلْيَمْدُدْ" عَلى المَعْنى الأوَّلِ لامُ رَغْبَةٍ في صِيغَةِ الأمْرِ، وعَلى المَعْنى الثانِي لامُ أمْرٍ دَخَلَتْ في مَعْنى الخَبَرِ لِيَكُونَ أوكَدَ وأقْوى، وهَذا مَوْجُودٌ في كَلامِ العَرَبِ وفَصاحَتِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب