الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَيَقُولُ الإنْسانُ أإذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا﴾ ﴿أوَلا يَذْكُرُ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِن قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهم والشَياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهم حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا﴾ ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أيُّهم أشَدُّ عَلى الرَحْمَنِ عِتِيًّا﴾ "الإنْسانُ" اسْمٌ لِلْجِنْسِ يُرادُ بِهِ الكافِرُونَ، ورُوِيَ أنَّ سَبَبَ هَذِهِ الآيَةِ هو أنَّ رِجالًا مِن قُرَيْشٍ كانُوا يَقُولُونَ هَذا ونَحْوَهُ، ورُوِيَ أنَّ القائِلَ هو أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، جاءَ إلى النَبِيِّ ﷺ بِعَظْمِ رُفاتٍ فَنَفَخَ فِيهِ وقالَ: أيُبْعَثُ هَذا؟ وكَذَّبَ وسَخِرَ، وقِيلَ: إنَّ القائِلَ هو العاصِي بْنُ وائِلٍ، وقَرَأ الأعْرَجُ، وأبُو عَمْرٍو: "أإذا" بِالِاسْتِفْهامِ الظاهِرِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "إذا" دُونَ ألِفِ اسْتِفْهامٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ هَذا مُسْتَوْعَبًا. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "مِتُّ" بِكَسْرِ المِيمِ، وقَرَأْتْ فِرْقَةٌ بِضَمِّها واللامُ في قَوْلِهِ: "لَسَوْفَ" مَجْلُوبَةٌ عَلى الحِكايَةِ لِكَلامٍ مُعْلِمْ بِهَذا المَعْنى، كَأنَّ قائِلًا قالَ لِلْكافِرِ: إذا مُتَّ يا فُلانُ لَسَوَفَ تُخْرَجُ حَيًّا، فَقَرَّرَهُ الكافِرُ عَلى جِهَةِ الِاسْتِبْعادِ، وكَرَّرَ الكَلامَ حِكايَةُ لِلْقَوْلِ الأوَّلِ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "أُخْرَجُ" بِضَمِّ الهَمْزَةِ، وقَرَأ الحَسَنُ - بِخِلافٍ - وأبُو حَيْوَةَ: "أخْرُجُ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وضَمِّ الراءِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَلا يَذْكُرُ الإنْسانُ﴾ الآيَةُ احْتِجاجٌ، خاطَبَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ رادًّا عَلى مَقالَةِ الكافِرِ. وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمْ، وابْنُ عامِرٍ: أوَلا يَذْكُرُ"، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "أوَلا يَذَّكَّرُ" بِشَدِّ الذالِ والكافِ، وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: " أوَلا يَتَذَكَّرُ"، والنَشْأةُ الأُولى والإخْراجُ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ أوضَحُ دَلِيلٍ عَلى جَوازِ البَعْثِ مِنَ القُبُورِ، ثُمْ قَرَّرَ ذَلِكَ وأوجَبَهُ السَمْعُ، وفي قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المَعْدُومَ لا يُسَمّى شَيْئًا، قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: أرادَ شَيْئًا مَوْجُودًا. (p-٥٤)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ نَزْعَةٌ اعْتِزالِيَّةٌ فَتَأمَّلْها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ﴾ الآيَةُ وعِيدٌ يَكُونُ مابَعْدَهُ عَلى أصْعَبِ وُجُوهِهِ، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿لَنَحْشُرَنَّهُمْ﴾، عائِدٌ لِلْكُفّارِ القائِلِينَ ما تَقَدَّمَ، ثُمْ أخْبَرَ أنَّهُ يَقْرِنُ بِهِمُ الشَياطِينَ المُغْوِينَ لَهُمْ، وقَوْلُهُ: ﴿جِثِيًّا﴾ جَمْعُ جاثٍ كَقاعِدٍ وقُعُودٍ وجالِسِ وجُلُوسٍ، وأصْلُهُ: جُثُووًا، ولَيْسَ في كَلامِ العَرَبِ واوٌ مُتَطَرِّفَةٌ قَبْلَها ضَمَّةٌ فَوَجَبَ أنْ تُعَلَّ، ولَمْ يُعْتَدَّ ها هُنا بِالساكِنِ الَّذِي بَيْنَهُما لِخِفَّتِهِ وقِلَّةِ حَوْلِهِ فَقُلِبَتْ ياءٌ فَجاءَ جُثُويًا، فاجْتَمَعَ الواوُ والياءُ وسُبِقَتْ إحْداهُما بِالسُكُونِ فَقُلِبَتْ ياءٌ، ثُمْ أُدْغِمَتِ الياءُ في الياءِ ثُمْ كُسِرَتِ الثاءُ لِلتَّناسُبِ بَيْنَ الكَسْرَةِ والياءِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ "جُثِيًّا" و"صُلِيًّا" بِضَمِّ الجِيمِ والصادِ، وقَرَأ ابْنُ وثّابُ والأعْمَشُ: "جِثِيًّا" و"صِلِيًّا" بِكَسْرِ الجِيمِ والصادِ. وأخْبَرَ اللهُ تَعالى أنَّهُ يُحْضِرُ هَؤُلاءِ المُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ مَعَ الشَياطِينِ فَيَجْثُونَ حَوْلَ جَهَنَّمَ، وهي قَعْدَةُ الخائِفِ الذَلِيلِ عَلى رُكْبَتَيْهِ كالأسِيرِ ونَحْوِهُ، قالَ قَتادَةُ: "جِثِيًّا" مَعْناهُ: عَلى رُكَبِهِمْ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الجِثِيُّ شَرُّ الجُلُوسِ. و"الشِيعَةُ": الفِرْقَةُ المُرْتَبِطَةُ بِمَذْهَبٍ واحِدٍ، المُتَعاوِنَةُ فِيهِ، كَأنَّ بَعْضَهم يُشِيعُ بَعْضًا، أيْ يُنَبِّهُ مِنهُ، ومِنهُ تَشْيِيعُ النارِ بِالحَطَبِ، وهو وقْدُها بِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، ومِنهُ قِيلَ لِلشُّجاعِ: مُشِيعُ القَلْبِ، فَأخْبَرَ اللهُ أنَّهُ يُنْزَعُ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أعْتاها وأولاها بِالعَذابِ فَتَكُونُ تِلْكَ مُقَدِّمَتَها إلى النارِ، قالَ أبُو الأحْوَصِ: المَعْنى: نَبْدَأُ بِالأكابِرِ جُرْمًا، ثُمْ أخْبَرَ تَعالى في الآيَةِ بَعْدُ أنَّهُ أعْلَمُ بِمُسْتَحِقِّي ذَلِكَ وأبْصَرُ؛ لِأنَّهُ لَمْ تَخْفَ عَلَيْهِ حالُهم مِن أوَّلِها إلى آخِرِها. وقَرَأ بَعْضُ الكُوفِيِّينَ، ومُعاذُ بْنُ مُسْلِمْ، وهارُونُ القارِئُ: "أيَّهُمْ" بِالنَصْبِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "أيُّهُمْ" بِالضَمِّ، إلّا أنَّ طَلْحَةَ والأعْمَشَ سَكَّنا مِيمَ "أيُّهُمْ"، واخْتَلَفَ الناسُ في وجْهِ رَفْعِ "أيُّ" - فَقالَ الخَلِيلُ: رَفْعُهُ عَلى الحِكايَةِ بِتَقْدِيرِ: الَّذِي يُقالُ فِيهِ مِن أجْلِ عُتُوِّهِ: أيُّهم أشَدُّ، وقَرَنَهُ بِقَوْلِ الشاعِرِ:(p-٥٥) ؎ ولَقَدْ أبِيتُ مِنَ الفَتاةِ بِمَنزِلٍ فَأبِيتُ لا حَرِجَ ولا مَحْرُومَ أيْ: فَأبِيتُ يُقالُ فِيَّ: لا حَرِجَ ولا مَحْرُومَ، ورَجَّحَ الزَجّاجُ قَوْلَ الخَلِيلِ، وذَكَرَ عنهُ النَحّاسُ أنَّهُ غَلَّطَ سِيبَوَيْهِ في هَذِهِ المَسْألَةِ، قالَ سِيبَوَيْهِ: ويَلْزَمُ عَلى هَذا أنْ يَجُوزَ: أضْرِبُ السارِقُ الخَبِيثُ، أيِ الَّذِي يُقالُ لَهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولَيْسَ بِلازِمٍ؛ مِن حَيْثُ هَذِهِ أسْماءٌ مُفْرَدَةٌ والآيَةُ جُمْلَةٌ، وتَسَلُّطُ الفِعْلِ عَلى المُفْرَدِ أعْظَمُ مِنهُ عَلى الجُمْلَةِ، ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّ "أيُّهُمْ" مَبْنِيٌّ عَلى الضَمِّ؛ إذْ هي أُخْتٌ لِـ "الَّذِي" ولِـ "ما"، وخالَفَتْهُما في جَوازِ الإضافَةِ فِيها فَأُعْرِبَتْ لِذَلِكَ، فَلَمّا حُذِفَ مِن صِلَتِها ما يَعُودُ عَلَيْها ضَعُفَتْ فَرَجَعَتْ إلى البِناءِ، وكانَ التَقْدِيرُ: أيُّهم هو أشَدُّ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: حُذِفَ ما الكَلامُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ فَوَجَبَ البِناءُ، وقالَ يُونُسُ: عُلِّقَ عنها الفِعْلُ فارْتَفَعَتْ بِالِابْتِداءِ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: مَعْنى ذَلِكَ أنَّهُ مُعْمَلٌ في مَوْضِعِ "مِن كُلِّ شِيعَةٍ" إلّا أنَّهُ مُلْغى لِأنَّهُ تَعَلَّقَ جُمْلَةً، إلّا أفْعالَ الشَكِّ كَظَنَنْتُ ونَحْوِها مِمّا لَمْ يَتَحَقَّقُ وُقُوعُهُ. وقالَ الكِسائِيُّ: ﴿لَنَنْزِعَنَّ﴾ مَعْناهُ: لِنُنادِيَنَّ، فَعُومِلَ مُعامَلَةَ الفِعْلِ المُرادِ فَلَمْ يَعْمَلْ في "أيُّ"، وقالَ المُبَرِّدُ: "أيُّهُمْ" مُتَعَلِّقٌ بِـ "شِيعَةٍ" فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ، والمَعْنى: مِنَ الَّذِينَ تَشايَعُوا أيُّهم أشَدُّ، كَأنَّهم يَتَبارَوْنَ إلى هَذا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَلْزَمُهُ أنْ يُقَدِّرَ مَفْعُولًا لِـ "نَنْزِعَنَّ" مَحْذُوفًا. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "أيُّهم أكْبَرُ". و"عِتِيًّا" مَصْدَرٌ، أصْلُهُ: عُتُووًا، وأُعِلَّ بِما أُعِلَّ بِهِ "جِثِيًّا"، ورَوى أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: «يَنْدَلِقُ عُنُقٌ مِنَ النارِ (p-٥٦)فَيَقُولُ: إنِّي أُمِرْتُ بِكُلِّ جَبّارٍ عَنِيدٍ، فَتَلْتَقِطُهم...» الحَدِيثُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب