الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَما نَتَنَزَّلُ إلا بِأمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أيْدِينا وما خَلْفَنا وما بَيْنَ ذَلِكَ وما كانَ رَبِّكَ نَسِيًّا﴾ ﴿رَبُّ السَماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما فاعْبُدْهُ واصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ: "وَما نَتَنَزَّلُ" بِالنُونِ، كَأنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ عَنى نَفْسَهُ والمَلائِكَةَ، وقَرَأ الأعْرَجُ: "وَما يَتَنَزَّلُ" بِالياءِ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللهِ تَعالى أنَّ جِبْرِيلَ لا يَتَنَزَّلُ، قالَ هَذا التَأْوِيلَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، ويَرُدُّهُ قَوْلُهُ: ﴿لَهُ ما بَيْنَ أيْدِينا﴾ لِأنَّهُ لا يَطَّرِدُ مَعَهُ، وإنَّما يَتَّجِهُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا مِن جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ أنَّ القُرْآنَ لا يَتَنَزَّلُ إلّا بِأمْرِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى في الأوقاتِ الَّتِي يُقَدِّرُها، ورُوِيَتْ قِراءَةَ الأعْرَجِ بِضَمِّ الياءِ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ "إلّا بِقَوْلِ رَبِّكَ". وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما وغَيْرُهُ: سَبَبُ هَذِهِ الآيَةِ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ أبْطَأ عنهُ جِبْرِيلُ مَرَّةً، فَلَمّا جاءَهُ قالَ لَهُ: "يا جِبْرِيلُ قَدِ اشْتَقْتُ إلَيْكَ، أفَلا تَزُورُنا أكْثَرَ مِمّا تَزُورُنا؟" فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ». وقالَ مُجاهِدٌ، والضَحّاكُ: سَبَبُها «أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ تَأخَّرَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ عِنْدَ قَوْلِهِ في الأسْئِلَةِ المُتَقَدِّمَةِ في سُورَةِ الكَهْفِ: "غَدًا أُخْبِرُكُمْ" حَتّى فَرِحَ بِذَلِكَ المُشْرِكُونَ، واهْتَمَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمْ جاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» في ذَلِكَ المَعْنى، فَهي كالَّتِي في الضُحى. (p-٥٠)وَهَذِهِ الواوُ الَّتِي في قَوْلِهِ: ﴿وَما نَتَنَزَّلُ﴾ هي عاطِفَةٌ جُمْلَةَ كَلامٍ عَلى أُخْرى، وواصِلَةٌ بَيْنَ القَوْلَيْنِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مَعْناهُما واحِدًا، وحَكى النَقّاشُ عن قَوْمٍ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَما نَتَنَزَّلُ﴾ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ [مريم: ١٩]. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَهُ ما بَيْنَ أيْدِينا وما خَلْفَنا وما بَيْنَ ذَلِكَ﴾ لَفْظٌ يَحْتاجُ إلى ثَلاثِ مَراتِبَ، واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ فِيها - فَقالَ أبُو العالِيَةِ: ما بَيْنَ الأيْدِي: في الدُنْيا بِأسْرِها إلى النَفْخَةِ الأُولى، وما خَلْفَ: الآخِرَةُ مِن وقْتِ البَعْثِ، وما بَيْنَ ذَلِكَ: ما بَيْنَ النَفْخَتَيْنِ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ما بَيْنَ الأيْدِي هو ما مَرَّ مِنَ الزَمَنِ قَبْلَ إيجادِ مَن في الضَمِيرِ، وما خَلَفَ هو ما بَعْدَ مَوْتِهِمْ إلى اسْتِمْرارِ الآخِرَةِ، وما بَيْنَ ذَلِكَ هو مُدَّةَ الحَياةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والآيَةُ إنَّما المَقْصِدُ بِها الإشْعارَ بِمُلْكِ اللهِ تَعالى لِمَلائِكَتِهِ، وأنَّ قَلِيلَ تَصَرُّفِهِمْ وكَثِيرِهِ إنَّما هو بِأمْرِهِ، وانْتِقالِهِمْ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ إنَّما هو لِخِدْمَتِهِ؛ إذِ الأمْكِنَةُ لَهُ وهم لَهُ، فَلَوْ ذَهَبَ بِالآيَةِ إلى أنَّ المُرادَ بِما بَيْنَ الأيْدِي وما خَلَفَ الأمْكِنَةُ الَّتِي تَصَرُّفُهم فِيها، وأنَّ المُرادَ بِما بَيْنَ ذَلِكَ هم أنْفُسُهم ومَقاماتُهم - لَكانَ وجْهُها، كَأنَّهُ قالَ: نَحْنُ مُقَيَّدُونَ بِالقُدْرَةِ، لا نَنْتَقِلُ ولا نَتَتَزَّلُ إلّا بِأمْرِ رَبِّكَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ - فِيما رُوِيَ وما أراهُ صَحِيحًا عنهُما -: ما بَيْنَ الأيْدِي هي الآخِرَةُ، وما خَلَفَ هو الدُنْيا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا مُخْتَلُّ المَعْنى إلّا عَلى التَشْبِيهِ بِالمَكانِ، كَأنَّ ما بَيْنَ اليَدِ إنَّما هو ما تَقَدَّمَ (p-٥١)وَجُودُهُ في الزَمَنِ بِمَثابَةِ التَوْراةِ والإنْجِيلِ مِنَ القُرْآنِ، وقَوْلُ أبِي العالِيَةِ إنَّما يُتَصَوَّرُ في بَنِي آدَمَ، وهَذِهِ المَقالَةُ هي لِلْمَلائِكَةِ، فَتَأمَّلْهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ أيْ: مِمَّنْ يَلْحَقُهُ نِسْيانٌ لِبَعْثِنا إلَيْكَ في وقْتِ المَصْلَحَةِ بِهِ، فَإنَّما ذَلِكَ عن قَدْرٍ لَهُ، أيْ: فَلا تَطْلُبُ أنْتَ يا مُحَمَّدُ الزِيارَةَ أكْثَرَ مِمّا شاءَ اللهُ، هَذا ما تَقْتَضِيهِ قُوَّةُ الكَلامِ عَلى التَأْوِيلِ الواحِدِ، أو فَلا تَهْتَمُّ يا مُحَمَّدُ بِتَأْخِيرِي، ولا تَلْتَفِتُ إلى فَرَحِ المُشْرِكِينَ بِذَلِكَ عَلى التَأْوِيلِ الثانِي. و"نَسِيًّا" فَعِيلٌ مِنَ النِسْيانِ والذُهُولِ عَنِ الأُمُورِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: "نَسِيًّا" مَعْناهُ: تارِكًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي هَذا ضَعْفٌ لِأنَّهُ إنَّما نُفِيَ النِسْيانُ مُطْلَقًا، فَيَتَمَكَّنُ ذَلِكَ في النِسْيانِ الَّذِي هو نَصٌّ، وأمّا التَرْكُ فَلا يَنْتَفِي مُطْلَقًا، ألّا تَرى قَوْلَهُ تَبارَكَ تَعالى: ﴿وَتَرَكَهم في ظُلُماتٍ﴾ [البقرة: ١٧]، وقَوْلُهُ: ﴿وَتَرَكْنا بَعْضَهم يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ﴾ [الكهف: ٩٩]، فَلَوْ قالَ: نَسِيَكَ، أو نَحْوَهُ مِنَ التَقْيِيدِ لَهم يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلى التَرْكِ، ولا حاجَةَ بِنا أنْ نَقُولَ: إنَّ التَقْيِيدَ في النِيَّةِ لِأنَّ المَعْنى الآخَرَ أظْهَرُ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "وَما بَيْنَ ذَلِكَ وما نَسِيَكَ رَبُّكَ"، ورَوى أبُو الدَرْداءِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «ما أحَلَّ اللهُ في كِتابِهِ فَهو حَلالٌ، وما حَرَّمَ فَهو حَرامٌ، وما سَكَتَ عنهُ فَهي عافِيَتُهُ فاقْبَلُوا، ثُمْ تَلا هَذِهِ الآيَةَ.» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبُّ السَماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما﴾ الآيَةُ. "رَبُّ" بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ رَبُّكَ﴾، وقَوْلُهُ: ﴿فاعْبُدْهُ واصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ﴾ أمْرٌ بِحَمْلِ تَكالِيفِ الشَرْعِ وإشْعارٍ ما بِصُعُوبَتِها، كالجِهادِ والحَجِّ والصَدَقاتِ، فَهي شَرِيعَةٌ تَحْتاجُ إلى اصْطِبارٍ، أعانَنا اللهُ عَلَيْها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "هَلْ تَعْلَمُ" بِإظْهارِ اللامِ، وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ عن أبِي عَمْرٍو بِإدْغامِ اللامِ في التاءِ، وهي قِراءَةُ عِيسى، والأعْمَشُ، والحَسَنُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: سِيبَوَيْهِ يُجِيزُ إدْغامَ اللامِ في الطاءِ والتاءِ والذالِ والثاءِ والصادِ والزايِ والسِينِ، (p-٥٢)وَقَرَأ أبُو عَمْرٍو: "وَهَلْ ثُوِّبَ" بِإدْغامِها في الثاءِ وإدْغامِها في التاءِ أحَقُّ لِأنَّها أدْخَلُ مَعَها في الفَمِ، ومِن إدْغامِها في التاءِ ما رُوِيَ مِن قَوْلِ مُزاحِمُ العَقِيلِيِّ: ؎ فَذَرْ ذا ولَكِنْ هَتُّعِينُ مُتَيَّمًا عَلى ضَوْءِ بَرْقٍ آخَرَ اللَيْلِ ناصِبُ؟ وقَوْلُهُ: ﴿سَمِيًّا﴾، قالَ قَوْمٌ - وهو ظاهِرُ اللَفْظِ -:مَعْناهُ: مُوافِقًا في الِاسْمِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا يُحْسُنُ فِيهِ أنْ يُرِيدَ بِالِاسْمِ ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿رَبُّ السَماواتِ والأرْضِ﴾، أيْ: هَلْ تَعْلَمُ مَن يُسَمّى بِهَذا ويُوصَفُ بِهَذِهِ الصِفَةِ؟ وذَلِكَ أنَّ الأُمَمَ لا يُسَمُّونَ بِهَذا الِاسْمِ وثَنًا ولا شَيْئًا سِوى اللهِ تَعالى، وأمّا الأُلُوهِيَّةُ والقُدْرَةُ فَقَدْ يُوَجَّهَ السَمِيُّ فِيها، وذَلِكَ بِاشْتِراكٍ لا بِمَعْنًى واحِدٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما سَمِّيًّا مَعْناهُ: مَثِيلًا أو شَبِيهًا أو نَحْوَ ذَلِكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ حَسَنٌ، وكَأنَّ السَمِيَّ بِمَعْنى المُسامِي والمُضاهِي، فَهو مِنَ السُمُوِّ، وهَذا القَوْلُ يَحْسُنُ في هَذِهِ الآيَةِ ولا يَحْسُنُ فِيما تَقَدَّمَ في ذِكْرِ يَحْيى عَلَيْهِ السَلامُ. (p-٥٣)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب