الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضاعُوا الصَلاةَ واتَّبَعُوا الشَهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ ﴿إلا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ ولا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾ ﴿جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدَ الرَحْمَنُ عِبادَهُ بِالغَيْبِ إنَّهُ كانَ وعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾ ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا إلا سَلامًا ولَهم رِزْقُهم فِيها بُكْرَةً وعَشِيًّا﴾ ﴿تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِن عِبادِنا مِن كانَ تَقِيًّا﴾ "الخَلَفُ" - بِفَتْحِ اللامِ -: القَرْنُ يَأْتِي بَعْدَ آخَرَ يَمْضِي، والِابْنُ بَعْدَ الأبِ، وقَدْ يُسْتَعْمَلُ في سائِرِ الأُمُورِ، "والخَلْفُ" - بِسُكُونِ اللامِ - إذا كانَ الآتِي مَذْمُومًا، هَذا مَشْهُورُ كَلامِ العَرَبِ، وقَدْ ذُكِرَ عن بَعْضِهِمْ أنَّ الخَلَفَ والخَلْفَ بِمَعْنًى واحِدٍ، وحُجَّةُ ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ لَنا القَدَمُ الأُولى إلَيْكَ وخَلْفُنا لِأوَّلِنا في طاعَةِ اللهِ تابِعُ (p-٤٦)وَقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿أضاعُوا الصَلاةَ﴾ بِالإفْرادِ، وقَرَأ الحَسَنُ: "أضاعُوا الصَلَواتِ" بِالجَمْعِ، وهو كَذَلِكَ في مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، والمُرادُ بِـ "الخَلْفِ" مَن كَفَرَ أو عَصى بَعْدُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، وقالَ مُجاهِدٌ: المُرادُ النَصارى، خَلَفُوا بَعْدَ اليَهُودِ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، ومُجاهِدٌ، وعَطاءٌ: هم قَوْمٌ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ في آخِرِ الزَمَنِ. أيْ: يَكُونُ في هَذِهِ الأُمَّةِ مَن هَذِهِ صِفَتُهُ، لا أنَّهُمُ المُرادُ بِهَذِهِ الآيَةِ، ورَوى أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ رَضِيَ اللهُ عنهُ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «يَكُونُ الخَلْفُ بَعْدَ سِتِّينَ سَنَةً». قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا عُرْفٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. واخْتَلَفَ الناسُ في "إضاعَةِ الصَلاةِ" مِنهُمْ، فَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ وغَيْرُهُ: كانَ إضاعَةَ كُفْرٍ وجَحْدٍ بِها، وقالَ القاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كانَتْ إضاعَةَ أوقاتِها، وعَدَمَ المُحافَظَةِ عَلى أوانِها، وذَكَرَهُ الطَبَرِيُّ عن عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عنهُ في حَدِيثٍ طَوِيلٍ. و"الشَهَواتُ" عُمُومٌ، وكُلُّ ما ذُكِرَ مِن ذَلِكَ فَمِثالٌ. (p-٤٧)وَ "الغَيُّ": الخُسْرانُ والحُصُولُ في الوَرَطاتِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ فَمَن يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدُ الناسُ أمْرَهُ ∗∗∗ ومَن يَغْوِ لا يَعْدَمُ عَلى الغَيِّ لائِمًا وبِهِ فَسَّرَ ابْنُ زَيْدٍ هَذِهِ رَحِمَهُ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. وقَدْ يَكُونُ الغَيُّ أيْضًا الضَلالَ، فَيَكُونُ هَذا هُنا حَذْفُ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: "يَلْقَوْنَ جَزاءَ الغَيِّ"، وبِهَذا فَسَّرَ الزَجّاجُ. وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الغَيُّ وادٍ في جَهَنَّمَ، وبِهِ وقَعَ التَوَعُّدُ في هَذِهِ الآيَةِ. وقِيلَ: «الغَيُّ والآثامُ نَهْرانِ في جَهَنَّمَ»، رَواهُ أبُو أُمامَةَ الباهِلِيُّ رَضِيَ اللهُ عنهُ عَنِ النَبِيِّ ﷺ. قَوْلُهُ: ﴿إلا مَن تابَ﴾ اسْتِثْناءٌ يُحْتَمَلُ الِاتِّصالُ والِانْفِصالُ، وقَوْلُهُ: ﴿وَآمَنَ﴾ يَقْتَضِي أنَّ الإضافَةَ أوَّلًا هي إضاعَةُ كُفْرٍ، هَذا مَعَ اتِّصالِ الِاسْتِثْناءِ، وعَلَيْهِ فَسَّرَ الطَبَرِيُّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يُدْخَلُونَ" بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الخاءِ، وقَرَأ الحَسَنُ كُلَّ ما في القُرْآنِ "يَدْخُلُونَ" بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الخاءِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿جَنّاتِ عَدْنٍ﴾، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "جَنّاتِ عَدْنٍ" بِنَصْبِ الجَنّاتِ عَلى البَدَلِ مِن قَوْلِهِ: ﴿يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ﴾، وقَرَأ الحَسَنُ، وعِيسى بْنُ عُمَرُ، وأبُو حَيْوَةَ بِرَفْعِها عَلى تَقْدِيرِ: ذَلِكَ، وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "جَنَّةَ" عَلى الإفْرادِ والنَصْبِ، وكَذَلِكَ في مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وقَرَأها الأعْمَشُ. و"العَدْنُ": الإقامَةُ المُسْتَمِرَّةُ، قَوْلُهُ: ﴿بِالغَيْبِ﴾ أيْ: أخْبَرَهم مِن ذَلِكَ بِما غابَ عنهُمْ، وفي هَذا مَدْحٌ لَهم عَلى سُرْعَةِ إيمانِهِمْ وقَرارِهِمْ إذْ لَمْ يُعايِنُوا، و"المَأْتِيُّ" مَفْعُولٌ عَلى بابِهِ، والآتِي هو (p-٤٨)الإنْجازُ والفِعْلُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الوَعْدُ، وكانَ إتْيانُهُ إنَّما يُقْصَدُ بِهِ الوَعْدُ الَّذِي تَقَدَّمَهُ، وقالَتْ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: هو مَفْعُولٌ في اللَفْظِ بِمَعْنى: آتٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا بَعِيدٌ، والنَظَرُ الأوَّلُ أصْوَبُ. و"اللَغْوُ"، السَقْطُ مِنَ القَوْلِ، وهو أنْواعٌ مُخْتَلِفَةٌ كُلُّها لَيْسَتْ في الجَنَّةِ، وقَوْلُهُ: ﴿إلا سَلامًا﴾، اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، المَعْنى: لَكِنْ يَسْمَعُونَ سَلامًا، هو تَحِيَّةُ المَلائِكَةِ لَهم في كُلِّ الأوقاتِ، وقَوْلُهُ: ﴿بُكْرَةً وعَشِيًّا﴾، يُرِيدُ في التَقْدِيرِ، أيْ: يَأْتِيهِمْ طَعامُهم مَرَّتَيْنِ في مِقْدارِ اليَوْمِ واللَيْلَةِ مِنَ الزَمانِ، ويُرْوى أنَّ أهْلَ الجَنَّةِ تَنْسَدُّ لَهُمُ الأبْوابُ بِقَدْرِ اللَيْلِ في الدُنْيا، فَهم يَعْرِفُونَ البُكْرَةَ عِنْدَ انْفِتاحِها والعَشِيَّ عِنْدَ انْسِدادِها، وقالَمُجاهِدٌ رَحِمَهُ اللهُ: لَيْسَ بُكْرَةً ولا عَشِيًّا، ولَكِنْ يُؤْتَوْنَ بِهِ عَلى ما كانُوا يَشْتَهُونَ في الدُنْيا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَدْ ذَكَرَ نَحْوَهُ قَتادَةُ، أنْ تَكُونَ مُخاطَبَةً بِما تَعْرِفُهُ العَرَبُ وتَسْتَغْرِبُهُ في رَفاهَةِ العَيْشِ، وجَعَلَ ذَلِكَ عِبارَةً عن أنَّ رِزْقَهم يَأْتِي عَلى أكْمَلِ وُجُوهِهِ. وقالَ الحَسَنُ: خُوطِبُوا عَلى ما كانَتِ العَرَبُ تَعْلَمُ مِن أفْضَلِ العَيْشِ، وذَلِكَ أنَّ كَثِيرًا مِنَ العَرَبِ إنَّما كانَ يَجِدُ الطَعامَ المَرَّةَ في اليَوْمِ، وهي غايَتُهُ، وكانَ عَيْشُ أكْثَرِهِمْ مِن شَجَرِ البَرِّيَّةِ، ومِنَ الحَيَوانِ، ونَحْوِهِ، ألا تَرى قَوْلَ الشاعِرِ: ؎ أو وجْبَةٌ مِن جَناةِ أشْكَلَةٍ ∗∗∗ إنْ لَمْ يُرِغْها بِالقَوْسِ لَمْ تُنَلِ الوَجْبَةُ: الأكْلَةُ في اليَوْمِ. (p-٤٩)وَقَرَأ الجُمْهُورُ: "نُورِثُ" بِسُكُونِ الواوِ، وقَرَأ الحَسَنُ، والأعْرَجُ، وقَتادَةُ: "نُوَرِّثُ" بِفَتْحِ الواوِ وشَدِّ الراءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب