الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فاخْتَلَفَ الأحْزابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لَكِنِ الظالِمُونَ اليَوْمَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿وَأنْذِرْهم يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ وهم في غَفْلَةٍ وهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿إنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ ومَن عَلَيْها وإلَيْنا يُرْجَعُونَ﴾ هَذا ابْتِداءُ خَبَرٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لِمُحَمَّدٍ ﷺ بِأنَّ بَنِي إسْرائِيلَ اخْتَلَفُوا أحْزابًا، أيْ: فِرَقًا، وقَوْلُهُ: ﴿مِن بَيْنِهِمْ﴾ مَعْناهُ أنَّ الِاخْتِلافَ لَمْ يَخْرُجْ عنهُمْ، بَلْ كانُوا المُخْتَلِفِينَ، ورُوِيَ في هَذا عن قَتادَةَ أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ جَمَعُوا مِن أنْفُسِهِمْ أرْبَعَةَ أحْبارٍ غايَةَ في المَكانَةِ والجَلالَةِ عِنْدَهُمْ، وطَلَبُوهم بِأنْ يُبَيِّنُوا أمْرَ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ، فَقالَ أحَدُهُمْ: عِيسى هو اللهُ نَزَلَ إلى الأرْضِ فَأحْيا مَن أحْيا وأماتَ ثُمْ صَعِدَ، فَقالَ لَهُ الثَلاثَةُ: كَذَبْتَ، واتَّبَعَهُ اليَعْقُوبِيَّةُ، ثُمْ قِيلَ لِلثَّلاثَةِ، فَقالَ أحَدُهُمْ: عِيسى ابْنُ اللهِ، فَقالَ لَهُ الِاثْنانِ: كَذَبْتَ، واتَّبَعَهُ النَسْطُورِيَّةُ، ثُمْ قِيلَ لِلِاثْنَيْنِ، فَقالَ أحَدُهُما: عِيسى أحَدُ ثَلاثَةٍ، عِيسى إلَهٌ، ومَرْيَمُ إلَهٌ، واللهُ إلَهٌ، فَقالَ لَهُ الرابِعُ: كَذَبْتَ، واتَّبَعَهُ الإسْرائِيلِيَّةُ، فَقِيلَ لِلرّابِعِ، فَقالَ: عِيسى رُوحُ اللهِ وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ، فاتَّبَعَ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الأرْبَعَةِ فَرِيقٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، ثُمُ اقْتَتَلُوا فَغُلِبَ المُؤْمِنُونَ وقُتِلُوا، وظَهَرَتِ اليَعْقُوبِيَّةُ عَلى الجَمِيعِ. (p-٣٤)وَرُوِيَ أنَّ في ذَلِكَ نَزَلَتْ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ ويَقْتُلُونَ النَبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ويَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ الناسِ فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١]. و"الوَيْلُ": الحُزْنُ والثُبُورُ، وقِيلَ: ويْلٌ وادٍ في جَهَنَّمَ، ومَشْهَدُ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو مَشْهَدُ يَوْمِ القِيامَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِـ ﴿مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ يَوْمَ قُتِلَ المُؤْمِنُونَ حِينَ اخْتَلَفَ الأحْزابُ، وقَدْ أشارَ إلى هَذا المَعْنى قَتادَةُ رَحِمَهُ اللهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ﴾، أيْ: ما أسْمَعَهم وأبْصَرَهم يَوْمَ يَرْجِعُونَ إلَيْنا ويَرَوْنَ ما نَصْنَعُ بِهِمْ مِنَ العَذابِ، فَإنَّ إعْراضَهم حِينَئِذٍ يَزُولُ، ويُقْبِلُونَ عَلى الحَقِيقَةِ حِينَ لا يَنْفَعُهُمُ الإقْبالُ عَلَيْها وهم في الدُنْيا صُمْ عُمْيٌ؛ إذْ لا يَنْفَعُهُمُ النَظَرُ مَعَ إعْراضِهِمْ، ثُمْ قالَ: لَكِنَّهُمُ اليَوْمَ في الدُنْيا في ضَلالٍ، وهو جَهْلُ المَسْلَكِ، و"المُبِينُ": البَيِّنُ في نَفْسِهِ وإنْ لَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ، وحَكى الطَبَرِيُّ عن أبِي العالِيَةِ أنَّهُ قالَ: "أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ" بِمَعْنى الأمْرِ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ ﷺ، أيْ: أسْمِعِ الناسَ اليَوْمَ وأبْصِرْهم بِهِمْ وبِحَدِيثِهِمْ، ماذا يُصْنَعُ بِهِمْ مِنَ العَذابِ إذا أتَوْا مَحْشُورِينَ مَغْلُوبِينَ. واخْتُلِفَ في ﴿يَوْمَ الحَسْرَةِ﴾ فَقالَ الجُمْهُورُ: هو يَوْمُ ذَبْحِ المَوْتِ، وفي هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وقَعَ في البُخارِيِّ وغَيْرِهِ «أنَّ المَوْتَ يُجاءُ بِهِ في صُورَةِ كَبْشٍ أمْلَحَ، وقالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: كَأنَّهُ دابَّةٌ، فَيُذْبَحُ عَلى الصِراطِ بَيْنَ الجَنَّةِ والنارِ، ويُنادى: يا أهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ لا مَوْتَ، ويا أهْلَ النارِ خُلُودٌ لا مَوْتَ. ويُرْوى أنَّ أهْلَ النارِ يَشْرَئِبُّونَ إلَيْهِ رَجاءَ أنْ يَخْرُجُوا مِمّا هم فِيهِ، وأنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَشْرَئِبُّونَ خَوْفًا عَلى ما هم فِيهِ، و"الأمْرُ المَقْضِيُّ" هو ذَبْحُ الكَبْشِ الَّذِي هو مِثالُ المَوْتِ»، وهَذا عِنْدَ حُذّاقِ العُلَماءِ كَما يُقالُ: (p-٣٥)تُدْفَنُ الغَوائِلُ ويُجْعَلُ التُرابُ تَحْتَ القَدَمِ ونَحْوُ ذَلِكَ، وعِنْدَ ذَلِكَ تُصِيبُ أهْلَ النارِ حَسْرَةٌ لا حَسْرَةَ مِثْلُها. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهُ: يَوْمَ الحَسْرَةِ هو يَوْمُ القِيامَةِ، وذَلِكَ أنَّ أهْلَ النارِ قَدْ حَصَلُوا مِن أوَّلِ أمْرِهِمْ في سُخْطِ اللهِ وأمارَتِهِ، فَهم في حالِ حَسْرَةٍ، و الأمْرُ المَقْضِيُّ - عَلى هَذا - هو الحَتْمُ عَلَيْهِمْ بِالعَذابِ وظُهُورُ إنْفاذِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: يَوْمُ الحَسْرَةِ حِينَ يَرى الكُفّارُ مَقاعِدَهُمُ الَّتِي فاتَتْهم في الجَنَّةِ لَوْ كانُوا مُؤْمِنِينَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ يَوْمُ الحَسْرَةِ اسْمَ جِنْسٍ لِأنَّ هَذِهِ حَسَراتٌ كَثِيرَةٌ في مَواطِنَ عِدَّةٍ، ومِنها يَوْمُ القِيامَةِ، ومِنها وقْتُ أخْذِ الكِتابِ بِالشِمالِ وغَيْرُ ذَلِكَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهم في غَفْلَةٍ﴾، يُرِيدُ: في الدُنْيا الآنَ وهم لا يُؤْمِنُونَ كَذَلِكَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ﴾ تَجَوُّزٌ وعِبارَةٌ عن فَناءِ المَخْلُوقاتِ وبَقاءِ الخالِقِ، فَكَأنَّها وِراثَةٌ، وقَرَأ عاصِمْ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، والحَسَنُ، والأعْمَشُ: "يُرْجَعُونَ" بِالياءِ، وقَرَأ الأعْرَجُ "تُرْجَعُونَ" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ، وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ، وابْنُ أبِي إسْحاقٍ، وعِيسى: "يَرْجِعُونَ" بِالياءِ مَفْتُوحَةً وكَسْرِ الجِيمِ، وحَكى عنهم أبُو عَمْرٍو: "تَرْجِعُونَ" بِالتاءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب