الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿واذْكُرْ في الكِتابِ مَرْيَمَ إذِ انْتَبَذَتْ مِن أهْلِها مَكانًا شَرْقِيًّا﴾ ﴿فاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجابًا فَأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا﴾ ﴿قالَتْ إنِّي أعُوذُ بِالرَحْمَنِ مِنكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ ﴿قالَ إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ ﴿قالَتْ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ولَمْ أكُ بَغِيًّا﴾
هَذِهِ ابْتِداءُ قِصَّةٍ لَيْسَتْ مِنَ الأُولى، والخِطابُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ. و"الكِتابُ": القُرْآنُ، و"مَرْيَمُ" ابْنَةُ عِمْرانَ أُمْ عِيسى أُخْتُ أُمْ يَحْيى. واخْتَلَفَ الناسُ، لِمُ انْتَبَذَتْ، والِانْتِباذُ: التَنَحِّي. فَقالَ السُدِّيُّ: انْتَبَذَتْ لِتَطْهُرَ مِن حَيْضٍ، وقالَ غَيْرُهُ: لِتَعْبُدَ اللهَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا أحْسَنُ؛ وذَلِكَ أنَّ مَرْيَمَ كانَتْ وقْفًا عَلى سَدانَةِ المُتَعَبَّدِ وخِدْمَتِهِ والعِبادَةِ فِيهِ، فَتَنَحَّتْ مِنَ الناسِ لِذَلِكَ، وقَوْلُهُ: ﴿مَكانًا شَرْقِيًّا﴾ يُرِيدُ في جِهَةِ الشَرْقِ مِن مَساكِنِ أهْلِها، وسَبَبُ كَوْنِهِ في الشَرْقِ أنَّهم كانُوا يُعَظِّمُونَ جِهَةَ المَشْرِقِ ومِن حَيْثُ تُطْلَقُ الأنْوارُ، وكانَتِ الجِهاتُ الشَرْقِيَّةُ مَن كُلِّ شَيْءٍ أفْضَلَ مِن سِواها، حَكاهُ الطَبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ.
وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: إنِّي لَأعْلَمُ الناسُ لِمُ اتَّخَذَ النَصارى المَشْرِقَ قِبْلَةً؛ لِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿إذِ انْتَبَذَتْ مِن أهْلِها مَكانًا شَرْقِيًّا﴾، فاتَّخَذُوا مِيلادَ عِيسى قِبْلَةً. وقالَ بَعْضُ الناسِ: الحِجابُ هي اتَّخَذَتْهُ لِتَسْتَتِرَ بِهِ عَنِ الناسِ لِعِبادَتِها، فَقالَ السُدِّيُّ: كانَ مِن جُدُراتٍ، وقِيلَ: مِن ثِيابٍ، وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: اتَّخَذَتِ المَكانَ بِشَرْقِيِّ المِحْرابِ.
و"الرُوحُ": جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ، وقِيلَ: عِيسى، حَكى الزَجّاجُ القَوْلَيْنِ، فَمَن قالَ (p-١٧)إنَّهُ جِبْرِيلُ قَدَّرَ الكَلامَ: فَتَمَثَّلَ هو لَها، ومَن قالَ إنَّهُ عِيسى قَدَّرَ الكَلامَ: فَتَمَثَّلَ المَلَكُ لَها. قالَ النَقّاشُ: ومَن قَرَأ: "رُوحَنّا" بِتَشْدِيدِ النُونِ جَعَلَهُ اسْمَ مَلَكٍ مِنَ المَلائِكَةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ولَمْ أرَ هَذِهِ القِراءَةَ لِغَيْرِهِ.
واخْتَلَفَ الناسُ في نُبُوَّةِ مَرْيَمَ فَقِيلَ: كانَتْ نَبِيَّةً بِهَذا الإرْسالِ وبِالمُحاوَرَةِ لِلْمَلَكِ، وقِيلَ: لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً، وإنَّما كَلَّمَها مِثالُ بَشَرٍ، ورُؤْيَتُها لِمَلَكٍ كَما رُئِيَ جِبْرِيلُ في صِفَةِ دِحْيَةَ، وفي سُؤالِهِ عَنِ الإسْلامِ، والأوَّلُ أظْهَرُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَتْ إنِّي أعُوذُ بِالرَحْمَنِ مِنكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾، المَعْنى: قالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلَكِ الَّذِي تَمَثَّلَ لَها بَشَرًا لَمّا رَأتْهُ قَدْ خَرَقَ الحِجابَ الَّذِي اتَّخَذَتْهُ فَأساءَتْ بِهِ الظَنَّ، قالَتْ: إنِّي أعُوذُ بِالرَحْمَنِ مِنكَ إنْ كُنْتَ ذا تُقًى، قالَ أبُو وائِلٍ: عَلِمَتْ أنَّ التَقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ، وقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: تَعْنِي اسْمَ رَجُلٍ فاجِرٍ كانَ في ذَلِكَ الزَمَنِ في قَوْمِها، فَلَمّا رَأتْهُ مُتَسَوِّرًا عَلَيْها ظَنَّتْهُ إيّاهُ فاسْتَعاذَتْ بِالرَحْمَنِ مِنهُ، حَكى هَذا مَكِّيٌّ رَحِمَهُ اللهُ وغَيْرُهُ. وهو ضَعِيفٌ ذاهِبٌ مَعَ التَخَرُّصِ. فَقالَ لَها جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ﴾، جَعَلَ الهِبَةَ مِن قِبَلِهِ لَمّا كانَ الإعْلامُ بِها مِن قِبَلِهِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: "لِأهَبَ لَكِ" كَما تَقَدَّمَ، وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو: "لِيَهَبَ لَكِ" بِالياءِ، أيْ: لِيَهَبَ لَكِ اللهُ، واخْتُلِفَ عن نافِعٍ رَحِمَهُ اللهُ، وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "لِيَهَبَ اللهُ لَكِ".
فَلَمّا سَمِعَتْ مَرْيَمُ ذَلِكَ واسْتَشْعَرَتْ ما طَرَأ عَلَيْها، اسْتَفْهَمَتْ عن طَرِيقِهِ، وهي لَمْ يَمَسَّها بَشَرٌ بِنِكاحٍ ولَمْ تَكُنْ زانِيَةً. و"البَغِيُّ": المُجاهِرَةُ المُشْتَهِرَةُ في الزِنى، فَهي طالِبَةٌ لَهُ، بَغُوىٌ عَلى وزْنِ فَعُولٍ كَبَتُولٍ، ولَوْ كانَتْ فَعِيلًا لَقَوِيَ أنْ يَلْحَقَها هاءُ التَأْنِيثِ فَيُقالُ: بَغِيَّةٌ.
(p-١٨)
{"ayahs_start":16,"ayahs":["وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مَرۡیَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانࣰا شَرۡقِیࣰّا","فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابࣰا فَأَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرࣰا سَوِیࣰّا","قَالَتۡ إِنِّیۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِیࣰّا","قَالَ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَـٰمࣰا زَكِیࣰّا","قَالَتۡ أَنَّىٰ یَكُونُ لِی غُلَـٰمࣱ وَلَمۡ یَمۡسَسۡنِی بَشَرࣱ وَلَمۡ أَكُ بَغِیࣰّا"],"ayah":"فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابࣰا فَأَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرࣰا سَوِیࣰّا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق