الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا يَحْيى خُذِ الكِتابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾ ﴿وَحَنانًا مِن لَدُنّا وزَكاةً وكانَ تَقِيًّا﴾ ﴿وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ ولَمْ يَكُنْ جَبّارًا عَصِيًّا﴾ ﴿وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ المَعْنى: "فَوُلِدَ لَهُ، وقالَ اللهُ لِلْمَوْلُودِ: يا يَحْيى ". وهَذا اخْتِصارُ ما يَدُلُّ الكَلامُ عَلَيْهِ. و"الكِتابُ": التَوْراةُ بِلا اخْتِلافٍ؛ لِأنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ عِيسى ولَمْ يَكُنِ الإنْجِيلُ مَوْجُودًا عِنْدَ الناسِ، وقَوْلُهُ: "بِقُوَّةٍ"، أيِ: العِلْمُ بِهِ، والحِفْظُ لَهُ، والعَمَلُ بِهِ، والِالتِزامُ لِلَوازِمِهِ. ثُمْ أخْبَرَ اللهُ تَعالى فَقالَ: ﴿وَآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾، واخْتُلِفَ في "الحُكْمِ"، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: الأحْكامُ والمَعْرِفَةُ بِها، و "صَبِيًّا" يُرِيدُ: شابًا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الكُهُولِ، وقالَ الحَسَنُ رَحِمَهُ اللهُ: الحُكْمُ: النُبُوَّةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي لَفْظَةِ "صَبِيٍّ" -عَلى هَذا- تَجَوُّزٌ واسْتِصْحابُ حالٍ. وقالَتْ فِرْقَةُ: الحُكْمُ: الحِكْمَةُ، ورَوى مَعْمَرُ في ذَلِكَ أنَّ الصِبْيانَ دَعَوْهُ وهو طِفْلٌ إلى اللَعِبِ فَقالَ لَهُمْ: إنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِلَّعِبِ، فَتِلْكَ الحِكْمَةُ الَّتِي آتاهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ وهو صَبِيٌّ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: مَن قَرَأ القُرْآنَ مِن قَبْلِ أنْ يَحْتَلِمْ فَقَدْ أُوتِيَ الحُكْمُ صَبِيًّا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَحَنانًا مِن لَدُنّا﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: "الحُكْمَ"، و‎"‎زَكاةً" عَطْفٌ عَلَيْهِ، أُعْمِلَ في جَمِيعِ ذَلِكَ "آتَيْناهُ"، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ "وَحَنانًا" عَطْفٌ عَلى "صَبِيًّا"، أيْ: وبِحالِ حَنانٍ مِنّا وتَزْكِيَةٍ لَهُ. و "الحَنانُ": الرَحْمَةُ والشَفَقَةُ والمَحَبَّةُ، قالَهُ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ، وهو تَفْسِيرُ اللُغَةِ، وهو فِعْلٌ مِن أفْعالِ النَفْسِ، ويُقالُ: حَنانُكَ وحَنانَيْكَ، فَقِيلَ: هُما لُغَتانِ بِمَعْنًى واحِدٍ، وقِيلَ: حَنانَيْكَ تَثْنِيَةُ الحَنانِ. وقالَ عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ: "حَنانًا مِن لَدُنّا": تَعْظِيمًا مِن لَدُنّا. (p-١٤)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والحَنانُ في كَلامِ العَرَبِ أيْضًا ما عَظُمْ مِنَ الأُمُورِ في ذاتِ اللهِ تَعالى، ومِنهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ نُفَيْلٍ في خَبَرِ بِلالِ بْنِ رَباحٍ: واللهِ لَئِنْ قَتَلْتُمْ هَذا العَبْدَ لَأتَّخِذَنَّ قَبْرَهُ حَنانًا". وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: "واللهِ ما أدْرِي ما الحَنانُ". و"الزَكاةُ" التَطْهِيرُ والتَنْمِيَةُ في وُجُوهِ الخَيْرِ والبِرِّ، و"التَقِيُّ" فَعِيلٌ مِن تَقْوى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ورُوِيَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ مِن طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عَنِ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ أنَّهُ قالَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ ولَهُ ذَنْبٌ؛ إلّا ما كانَ مِن يَحْيى بْنِ زَكَرِيّا صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ»، وقالَ قَتادَةُ رَحِمَهُ اللهُ: إنَّ يَحْيى عَلَيْهِ السَلامُ لَمْ يَعْصِ اللهَ قَطُّ بِصَغِيرَةٍ ولا بِكَبِيرَةِ ولا هَمَّ بِامْرَأةٍ، وقالَ مُجاهِدٌ: كانَ طَعامُ يَحْيى العُشْبَ، وكانَ لِلدَّمْعِ في خَدِّهِ مَجارٍ ثابِتَةٍ. ومِنَ الشَواهِدِ في الحَنانِ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎ وتَمْنَحُها بَنُو شَمَجى بْنِ جِرْمٍ مُعِيزَهُمْ، حَنانَكَ ذا الحَنانِ (p-١٥)وَقَوْلُ النابِغَةِ: ؎ أبا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فاسْتَبَقِ بَعْضَنا ∗∗∗ حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَرِّ أهْوَنُ مِن بَعْضِ وقالَ الآخَرُ: ؎ فَقالَتْ: حَنانٌ ما أتى بِكَ ها هُنا؟ ∗∗∗ أذُو نَسَبٍ أمْ أنْتَ بِالحَيِّ عارِفُ؟ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ ولَمْ يَكُنْ جَبّارًا عَصِيًّا﴾، البَرُّ: الكَثِيرُ البِرِّ، و الجَبّارُ: المُتَكَبِّرُ، كَأنَّهُ يَجْبُرُ الناسَ عَلى أخْلاقِهِ، الجَبّارَةُ: النَخْلَةُ العالِيَةُ العَظِيمَةُ، و العَصِيُّ أصِلُهُ عَصُويٌ، فَعُولٌ بِمَعْنى فاعِلٌ، ورَوِيَ أنْ يَحْيى عَلَيْهِ السَلامُ لَمْ يُواقِعْ مَعْصِيَةً صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَسَلامٌ عَلَيْهِ﴾، قالَ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ: مَعْناهُ: أمانٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والأظْهَرُ عِنْدِي أنَّها التَحِيَّةُ المُتَعارَفَةُ، فَهي أشْرَفُ وأنْبَهُ مِنَ الأمانِ؛ لِأنَّ الأمانَ مُتَحَصِّلٌ لَهُ بِنَفْيِ العِصْيانِ، وهي أقَلُّ دَرَجاتِهِ، وإنَّما الشَرَفُ في أنْ سَلَّمَ اللهُ عَلَيْهِ وحَيّاهُ في المَواطِنِ الَّتِي الإنْسانُ فِيها في غايَةِ الضَعْفِ والحاجَةِ وقِلَّةِ الحِيلَةِ والفَقْرِ إلى اللهِ وعَظِيمِ الهَوْلِ. وذَكَرَ الطَبَرِيُّ عَنِ الحَسَنِ رَحِمَهُ اللهُ أنَّ عِيسى بْنَ مَرْيَمَ ويَحْيى بْنَ زَكَرِيّا صَلَواتُ اللهِ (p-١٦)عَلَيْهِما التَقَيا، وهُما ابْنا الخالَةِ، فَقالَ يَحْيى لِعِيسى: ادْعُ لِي فَأنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقالَ لَهُ عِيسى: بَلْ أنْتَ ادْعُ لِي فَأنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، سَلَّمَ اللهُ عَلَيْكَ وأنا سَلَّمْتُ عَلى نَفْسِي. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: قالَ لِي أبِي رَحِمَهُ اللهُ: انْتَزَعَ بَعْضُ العُلَماءِ مِن هَذِهِ الآيَةِ في التَسْلِيمِ فَضْلُ عِيسى بِأنْ قالَ: إذْلالُهُ في التَسْلِيمِ عَلى نَفْسِهِ ومَكانَتُهُ مِنَ اللهِ الَّتِي اقْتَضَتْ ذَلِكَ حِينَ قَرَّرَ وحَكى في مُحْكَمِ التَنْزِيلِ أعْظَمُ في المَنزِلَةِ مِن أنْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ. ولِكُلٍّ وجْهٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب