الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا زَكَرِيّا إنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا﴾ ﴿قالَ رَبِّ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وكانَتِ امْرَأتِي عاقِرًا وقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا﴾ ﴿قالَ كَذَلِكَ قالَ رَبُّكَ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ ﴿قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألا تُكَلِّمَ الناسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا﴾ ﴿فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرابِ فَأوحى إلَيْهِمْ أنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وعَشِيًّا﴾ المَعْنى: قِيلَ لَهُ بِإثْرِ دُعائِهِ: إنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ يُولَدُ لَكَ اسْمُهُ يَحْيى، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "نُبَشِّرُكَ" بِفَتْحِ الباءِ وكَسْرِ الشِينِ مُشَدَّدَةً، وقَرَأ أصْحابُ ابْنُ مَسْعُودٍ: "نَبْشُرُكَ" بِسُكُونِ الباءِ وضَمِّ الشِينِ. قالَ قَتادَةُ: سُمِّيَ يَحْيى لِأنَّ اللهَ أحْياهُ بِالنُبُوءَةِ والإيمانِ، وقالَ بَعْضُهُمْ: سُمِّي بِذَلِكَ لِأنَّ اللهَ أحْيا بِهِ الناسَ بِالتَدَيُّنِ، وقَوْلُهُ: "سَمِيًّا" مَعْناهُ في اللُغَةِ: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مُشارِكًا في هَذا الِاسْمِ، أيْ: لَمْ يُسَمَّ قَبْلُ بِيَحْيى، وهَذا قَوْلُ قَتادَةَ، وابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ أسْلَمَ، والسُدِّيِّ، وقالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: "سَمِيًّا" مَعْناهُ: مَثَلًا ونَظِيرًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا كَأنَّهُ مِنَ المُساماةِ والسُمُوِّ، وفي هَذا بُعْدٌ؛ لِأنَّهُ لا يَفْضُلُ عَلى إبْراهِيمَ ومُوسى عَلَيْهِما السَلامُ إلّا أنْ يَفْضُلَ في خاصٍّ بِالسُؤُودِ والحَصْرِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: مَعْناهُ: لَمْ تَلِدِ العَواقِرُ مِثْلَهُ. وقَوْلُ زَكَرِيّا: "أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ" اخْتَلَفَ الناسُ فِيهِ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّما كانَ طَلَبَ الوَلِيَّ (p-١١)دُونَ تَخْصِيصِ ولَدٍ، فَلَمّا بُشِّرَ بِالوَلَدِ اسْتَفْهَمَ عن طَرِيقِهِ مَعَ هَذِهِ المَوانِعِ مِنهُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّما كانَ طَلَبَ الوَلَدَ وهو بِحالٍ يَرْجُو الوَلَدَ فِيها بِزَواجِ غَيْرِ العاقِرِ، أو بُشِّرَ ولَمْ تَقَعْ إجابَتُهُ إلّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ صارَ فِيها إلى حالِ مَن لا يُولَدُ لَهُ، فَحِينَئِذٍ اسْتَفْهَمَ وأخْبَرَ عن نَفْسِهِ بِالكِبَرِ والعُتُوِّ فِيهِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ طَلَبَ الوَلَدَ فَلَمّا بُشِّرَ بِهِ لِحِينِ الدَعْوَةِ تَفَهَّمَ عَلى جِهَةِ السُؤالِ لا عَلى جِهَةِ الشَكِّ. كَيْفَ طَرِيقُ الوُصُولِ إلى هَذا؟ وكَيْفَ نَفَذَ القَدَرُ بِهِ؟ لا أنَّهُ بَعُدَ عِنْدَهُ هَذا في قُدْرَةِ اللهِ. والعِتِيُّ والعُسِيُّ: المُبالَغَةُ في الكِبَرِ ويُبْسُ العُودِ أو شَيْبُ الرَأْسِ ونَحْوُ هَذا، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "عِتِيًّا" بِكَسْرِ العَيْنِ، والباقُونَ بِضَمِّها، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "عَتِيًّا" بِفَتْحِ العَيْنِ، وحَكى أبُو حاتِمْ أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأ: "عُسِيًّا" بِضَمِّ العَيْنِ وبِالسِينِ، وحَكاها الدانِي عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا، وحَكى الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّهُ قالَ: لا أدْرِي، أكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقْرَأُ في الظَهْرِ والعَصْرِ، ولا أدْرِي أكانَ يَقْرَأُ: "عِتِيًّا" أو "عُسِيًّا" بِالسِينِ، وحَكى الطَبَرِيُّ عَنِ السُدِّيِّ أنَّهُ قالَ: نادى جِبْرِيلُ زَكَرِيّاءَ "إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى"، فَلَقِيَهُ الشَيْطانُ فَقالَ لَهُ: إنَّ ذَلِكَ الصَوْتَ لَمْ يَكُنْ لِمَلَكٍ وإنَّما كانَ لِشَيْطانٍ، فَحِينَئِذٍ قالَ زَكَرِيّا: "أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ"؟ لِيُثْبِتَ أنَّ ذَلِكَ مِن عِنْدِ اللهِ. وقالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وزَكَرِيّا هو مِن ذُرِّيَّةِ هارُونَ عَلَيْهِ السَلامُ، وقالَ قَتادَةُ: جَرى لَهُ هَذا الأمْرُ وهو ابْنُ بِضْعٍ وسَبْعِينَ سَنَةً، وقِيلَ: ابْنُ سَبْعِينَ، وقالَ الزَجّاجُ: ابْنُ خَمْسٍ وسِتِّينَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَقَدْ كانَ غَلَبَ عَلى ظَنِّهِ أنَّهُ لا يُولَدُ لَهُ. وقَوْلُهُ: ﴿قالَ كَذَلِكَ﴾، قِيلَ: إنَّ المَعْنى: قالَ لَهُ المَلَكُ: كَذَلِكَ فَلْيَكُنِ الوُجُودُ، كَما قِيلَ لَكَ: قالَ رَبُّكَ: خَلْقُ الغُلامِ عَلَيَّ هَيِّنٌ، أيْ: غَيْرُ بِدْعٍ، وكَما خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وأخْرَجْتُكَ مِن عَدَمٍ إلى وُجُودٍ كَذَلِكَ أفْعَلُ الآنَ...... وقالَ الطَبَرِيُّ: مَعْنى قَوْلِهِ: "كَذَلِكَ" أيِ: الأمْرانِ اللَذانِ ذَكَرْتَ مِنَ المَرْأةِ العاقِرِ والكِبَرَةِ هو كَذَلِكَ ولَكِنْ قالَ رَبُّكَ. (p-١٢)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والمَعْنى عِنْدِي: قالَ المَلَكُ كَذَلِكَ، أيْ: عَلى هَذِهِ الحالِ قالَ رَبُّكَ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَقَدْ خَلَقْتُكَ"، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "وَقَدْ خَلَقْناكَ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾، أيْ: مَوْجُودًا. قالَ زَكَرِيّا: "رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً"، أيْ: عَلامَةً أعْرِفُ بِها صِحَّةَ هَذا وكَوْنَهُ مِن عِنْدِكَ، ورُوِيَ أنَّ زَكَرِيّاءَ عَلَيْهِ السَلامُ لَمّا عَرَفَ ثُمْ طَلَبَ الآيَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عاقَبَهُ اللهُ تَعالى بِأنْ أصابَهُ بِذَلِكَ السُكُوتُ عن كَلامِ الناسِ، وذَلِكَ وإنْ لَمْ يَكُنْ عن مَرَضٍ -خَرَسٍ أو نَحْوِهِ- فَفِيهِ عَلى كُلِّ حالٍ عِقابٌ ما، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أنَّ زَكَرِيّا لَمّا حَمَلَتْ زَوْجَةٌ مِنهُ يَحْيى أصْبَحَ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُكَلِّمْ أحَدًا، وهو مَعَ ذَلِكَ يَقْرَأُ التَوْراةَ، ويَذْكُرُ اللهَ، فَإذا أرادَ مُقاوَلَةَ أحَدٍ لَمْ يُطِقْهُ. ويُحْتَمَلُ عَلى هَذا أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ مَعْناهُ: عَلامَةً أعْرِفُ بِها أنَّ الحَمْلَ قَدْ وقَعَ، وبِذَلِكَ فَسَّرَ الزَجّاجُ. ومَعْنى قَوْلِهِ: "سَوِيًّا" فِيما قالَ الجُمْهُورُ: صَحِيحًا مِن غَيْرِ عِلَّةٍ ولا خَرَسٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أيْضًا: ذَلِكَ عائِدٌ عَلى اللَيالِي، أرادَ: كامِلاتٍ مُسْتَوِياتٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ﴾ [القصص: ٧٩]، المَعْنى أنَّ اللهَ تَعالى أظْهَرَ الآيَةَ بِأنْ خَرَجَ زَكَرِيّا مِن مِحْرابِهِ وهو مَوْضِعُ الصَلاةِ، و"المِحْرابُ" أرْفَعُ المَواضِعِ والمَبانِي؛ إذْ هي تُحارِبُ مَن ناوَأها، ثُمْ خُصَّ بِهَذا الِاسْمِ مَبْنى الصَلاةِ، وكانُوا يَتَّخِذُونَها فِيما ارْتَفَعَ مِنَ الأرْضِ، واخْتَلَفَ الناسُ في اشْتِقاقِهِ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: هو مَأْخُوذٌ مِنَ الحَرْبِ، كَأنَّ مُلازِمَهُ يُحارِبُ الشَيْطانَ والشَهَواتِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو مَأْخُوذٌ مِنَ الحَرَبِ -بِفَتْحِ الراءِ-، كَأنَّ مُلازِمَهُ يَلْقى مِنهُ حَرْبًا وتَعَبًا ونَصْبًا، وفي اللَفْظِ بَعْدَ هَذا نَظَرٌ. وقَوْلُهُ: "فَأوحى"، قالَ قَتادَةُ، وابْنُ مُنَبِّهٍ: كانَ ذَلِكَ بِإشارَةٍ، وقالَ مُجاهِدٌ: بَلْ بِأنْ كَتَبَهُ في التُرابِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وكِلا القَوْلَيْنِ وحْيٌّ. وقَوْلُهُ: ﴿أنْ سَبِّحُوا﴾، "أنْ" مُفَسِّرَةٌ، بِمَعْنى أيْ، (p-١٣)وَ "سَبِّحُوا" قالَ قَتادَةُ: مَعْناهُ: صَلُّوا، والسُبْحَةِ: الصَلاةُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ أمَرَهم بِذِكْرِ اللهِ وقَوْلِ: سُبْحانَ اللهِ، وقَرَأ طَلْحَةُ: "أنْ سَبِّحُوهُ" بِضَمِيرٍ، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب