الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ثُمَّ أتْبَعَ سَبَبًا﴾ ﴿حَتّى إذا بَلَغَ بَيْنَ السَدَّيْنِ وجَدَ مِن دُونِهِما قَوْمًا لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا﴾ ﴿قالُوا يا ذا القَرْنَيْنِ إنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ في الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلى أنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وبَيْنَهم سَدًّا﴾ ﴿قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأعِينُونِي بِقُوَّةٍ أجْعَلْ بَيْنَكم وبَيْنَهم رَدْمًا﴾ قَرَأتْ فِرْقَةٌ: "اتَّبَعَ" بِشَدِّ التاءِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ بِتَخْفِيفِها، وقَدْ تَقَدَّمَ. وهَذا يَقْتَضِي أنَّهُ لَمّا بَلَغَ مَطْلَعَ الشَمْسِ أتْبَعَ بَعْدَ ذَلِكَ سَبَبًا، أيْ: طَرِيقًا آخَرَ، فَهو -واللهُ أعْلَمُ- إمّا يُمْنَةً وإمّا يُسْرَةً مِن مَطْلَعِ الشَمْسِ. و"السَدّانِ" فِيما ذَكَرَ أهْلُ التَفْسِيرِ-: جَبَلانِ سَدّا مَسالِكَ تِلْكَ الناحِيَةِ مِنَ الأرْضِ، وبَيْنَ طَرِيقَيِ الجَبَلَيْنِ فَتْحٌ هو مَوْضِعُ الرُومِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: الجَبَلانِ اللَذانِ بَيْنَهُما السَدُّ أرْمِينِيَّةُ وأذْرَبِيجانِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هُما مِن وراءِ بِلادِ التُرْكِ، ذَكَرَهُ المَهْدَوِيُّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا كُلُّهُ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ، وإنَّما هُما في طَرَفِ الأرْضِ مِمّا يَلِي المَشْرِقَ، ويَظْهَرُ مِن ألْفاظِ التَوارِيخِ أنَّهُما إلى ناحِيَةِ الشَمالِ، وأمّا تَعْيِينُ مَوْضِعٍ فَضَعِيفٌ. وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ: "السُدَّيْنِ" بِضَمِّ السِينِ، وكَذَلِكَ "سُدًّا" حَيْثُ وقَعَ، وقَرَأ حَفْصٌ عن عاصِمٍ بِفَتْحِ ذَلِكَ كُلِّهِ مِن جَمِيعِ القِراءاتِ، وهي قِراءَةُ مُجاهِدٍ، وعِكْرِمَةَ، وإبْراهِيمَ النَخْعِيِّ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "السَدَّيْنِ" بِفَتْحِ السِينِ، وضَمِّ "سُدًّا" في (يَسِ). (p-٦٥٩)واخْتُلِفَ بَعْدُ فَقالَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ: الضَمُّ هو الِاسْمُ، والفَتْحُ المَصْدَرُ، وقالَ الكِسائِيُّ: الضَمُّ والفَتْحُ لُغَتانِ بِمَعْنًى واحِدٍ، وقالَ عِكْرِمَةُ، وأبُو عَمْرُو بْنُ العَلاءِ، وأبُو عُبَيْدَةَ: ما كانَ مِن خِلْقَةِ اللهِ تَعالى لَمْ يُشارِكْ فِيهِ أحَدٌ بِعَمَلٍ فَهو بِالضَمِّ، وما كانَ مِن صُنْعِ البَشَرِ فَهو بِالفَتْحِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَلْزَمُ أهْلُ هَذِهِ المَقالَةِ أنْ نَقْرَأ: "بَيْنَ السَدَّيْنِ" بِالضَمِّ، وبَعْدَ ذَلِكَ "سَدًّا" بِالفَتْحِ، وهي قِراءَةُ حَمْزَةَ، والكِسائِيِّ. وحَكى أبُو حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةَ عَكْسَ ما قالَ أبُو عُبَيْدَةَ، وقالَ ابْنُ أبِي إسْحاقٍ: ما رَأتْهُ عَيْناكَ فَهو "سُدٌّ" بِضَمِّ السِينِ، وما لا يَرى فِيهِ "سَدٌّ" بِالفَتْحِ. والضَمِيرُ في "دُونِهِما" عائِدٌ عَلى الجَبَلَيْنِ، أيْ: وجَدَهم في الناحِيَةِ الَّتِي تَأْتِي إلى المَغْرِبِ. واخْتُلِفَ في "القَوْمِ"، فَقِيلَ: هم بَشَرٌ، وقِيلَ: جِنٌّ، والأوَّلُ أصَحُّ مِن وُجُوهٍ. وقَوْلُهُ: ﴿لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا﴾ عِبارَةٌ عن بُعْدِ لِسانِهِمْ عن ألْسِنَةِ الناسِ، لَكِنَّهم فَقَهُوا أو فَهَمُوا بِالتَرْجَمَةِ ونَحْوَها. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "يَفْقَهُونَ" مِن أفْقَهَ، وقَرَأ الباقُونَ: "يَفْقَهُونَ" مِن فَقِهَ. والضَمِيرُ في "قالُوا" لِلْقَوْمِ الَّذِينَ مِن دُونِ السَدَّيْنِ، ويَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ قَبِيلَتانِ مِن بَنِي آدَمَ، لَكِنَّهم يَنْقَسِمُونَ أنْواعًا كَثِيرَةً اخْتُلِفَ في عَدَدِها، فاخْتَصَرْتُ ذِكْرَهُ لِعَدَمِ الصِحَّةِ، وفي خَلْقِهِمْ تَشْوِيهِ، مِنهُمُ المُفْرِطُ الطُولِ، ومِنهُمُ المُفْرِطُ القَصْرِ عَلى قَدْرِ الشِبْرِ وأقَلُّ وأكْثَرُ، ومِنهم صِنْفٌ عَظِيمُ الآذانِ، الأُذُنُ الواحِدَةُ وبَرَةٌ والأُخْرى زَعْراءُ، يُصَيِّفُ بِالواحِدَةِ ويَشْتُو في الأُخْرى وهي تَعُمُّهُ. واخْتَلَفَ القُرّاءُ -فَقَرَأ عاصِمُ وحْدَهُ: "يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ" بِالهَمْزِ، وقَرَأ الباقُونَ بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَأمّا مِن هَمْزَ فاخْتُلِفَ فِيهِ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: هو أعْجَمِيٌّ، عِلَّتُهُ في مَنعِ الصَرْفِ التَعْرِيفُ والتَأْنِيثُ، وأمّا مَن لَمْ يَهْمِزْ فَإمّا أنْ يَراهُما اسْمَيْنِ أعْجَمِيَّيْنِ، وإمّا أنْ يُسَهِّلَ مِنَ الهَمْزِ، وقَرَأ رُؤْبَةُ بْنُ العَجّاجِ: "آجُوجُ ومَأْجُوجُ" بِهَمْزَةٍ بَدَلِ الياءِ. واخْتَلَفَ الناسُ في إفْسادِهِمُ الَّذِي وصَفُوهم بِهِ -فَقالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدُ العَزِيزِ: إفْسادُهم أكْلُ بَنِي آدَمَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: إفْسادُهم إنَّما عِنْدُهم مُتَوَقِّعًا، أيْ: سَيُفْسِدُونَ فَطَلَبُوا وجْهَ التَحَرُّزِ مِنهُمْ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: إفْسادُهم هو الظُلْمُ والغَشْمُ والقَتْلُ وسائِرُ وُجُوهِ الإفْسادِ المَعْلُومِ مِنَ البَشَرِ، وهَذا أظْهَرُ الأقْوالِ؛ لِأنَّ الطائِفَةَ الشاكِيَةَ إنَّما (p-٦٦٠)شَكَتْ مَن ضُرٍّ قَدْ نالَهم. وقَوْلُهُمُ ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا﴾ اسْتِفْهامٌ عَلى جِهَةِ حُسْنِ الأدَبِ. و"الخَرْجُ": المُجْبى، وهو الخَراجُ، وقالَ قَوْمٌ: "الخُرْجُ": المالُ يَخْرُجُ مَرَّةً، و"الخَراجُ": المُجْبى المُتَكَرِّرُ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ أنْ يَجْمَعُوا لَهُ أمْوالًا يُقِيمُ بِها أمْرَ السَدِّ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "خَرْجًا" أجْرًا. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرُو، وعاصِمٌ: "خَرَجا"، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "خَراجًا"، وهي قِراءَةُ طَلْحَةَ بْنِ مَصْرِفٍ، والأعْمَشِ، والحَسَنِ -بِخِلافِ عنهُ-، ورُوِيَ في أمَرِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ أنَّ أرْزاقَهم هي مِنَ التِنِّينِ يُرْزَقُونَها ويُمْطِرُونَها، ونَحْوَ هَذا مِمّا لَمْ يَصِحُّ، ورُوِيَ أيْضًا أنَّ الذَكَرَ مِنهم لا يَمُوتُ حَتّى يُولَدَ لَهُ ألْفُ ولَدٍ، والأُنْثى لا تَمُوتُ حَتّى يَخْرُجَ مَن بَطْنِها ألْفٌ، فَهم لِذَلِكَ إذا بَلَغُوا العَدَدَ ماتُوا، ورُوِيَ أيْضًا أنَّهم يَتَناكَحُونَ في الطُرُقِ كالبَهائِمِ، وأخْبارُهم تَضِيقُ بِها الصُحُفُ فاخْتَصَرْتُها لِضَعْفِ صِحَّتِها. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأعِينُونِي بِقُوَّةٍ أجْعَلْ بَيْنَكم وبَيْنَهم رَدْمًا﴾، المَعْنى: قالَ لَهم ذُو القَرْنَيْنِ: ما بَسَطَ اللهُ لِي مِنَ القُدْرَةِ والمُلْكِ خَيْرٌ مِن خُرْجِكم وأمْوالِكُمْ، ولَكِنْ أعِينُونِي بِقُوَّةِ الأبْدانِ، وبِعَمَلٍ مِنكم بِالأيْدِي. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحْدَهُ: "ما مَكَّنَنِي" بِنُونَيْنِ، وقَرَأ الباقُونَ "ما مَكَّنِّي" بِإدْغامِ النُونِ الأُولى في الثانِيَةِ. وهَذا: مِن تَأْيِيدِ اللهِ تَعالى لِذِي القَرْنَيْنِ، فَإنَّهُ تَهَدّى في هَذِهِ المُحاوَرَةِ إلى الأنْفَعِ والأنْزَهِ، فَإنَّهم لَوْ جَمَعُوا لَهُ خَرَجًا ومالًا لَمْ يُعِنْهُ مِنهم أحَدٌ ولَوَكَلَوُهُ إلى البُنْيانِ، ومَعُونَتُهم بِالقُوَّةِ أجْمَلُ بِهِ، وأمَرٌ يُطاوِلُ مُدَّةَ العَمَلِ، ورُبَّما أرْبى عَلى الخَرْجِ. و"الرَدْمُ" أبْلَغُ مِنَ "السَدِّ"؛ إذِ السَدُّ كُلُّ ما يُسَدُّ بِهِ، والرَدْمُ وضْعُ الشَيْءِ عَلى الشَيْءِ مِن حِجارَةٍ أو تُرابٍ أو نَحْوَهُ حَتّى يَقُومَ مِن ذَلِكَ حِجابٌ مَنِيعٌ، ومِنهُ: رَدَمَ ثَوْبَهُ إذا رَقَعَهُ بِرِقاعٍ مُتَكاتِفَةٍ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، ومِنهُ قَوْلُ عنتَرَةَ: ؎ هَلْ غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ؟ أيْ: مِن قَوْلٍ يَرْكَبُ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب