الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأمّا الغُلامُ فَكانَ أبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانًا وكُفْرًا﴾ ﴿فَأرَدْنا أنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْرًا مِنهُ زَكاةً وأقْرَبَ رُحْمًا﴾ ﴿وَأمّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المَدِينَةِ وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وكانَ أبُوهُما صالِحًا فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما ويَسْتَخْرِجا كَنْزَهُما رَحْمَةً مِن رَبُّكَ وما فَعَلْتُهُ عن أمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ تَقَدَّمَ القَوْلُ في الغُلامِ والخِلافُ في بُلُوغِهِ أو صِغَرِهِ، وفي الحَدِيثِ أنَّ ذَلِكَ الغُلامَ طُبِّعَ يَوْمَ طُبِعَ كافِرًا، وهَذا يُؤَيَّدُ ظاهِرُهُ أنَّهُ كانَ غَيْرُ بالِغٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا عنهُ مَعَ كَوْنِهِ بالِغًا، وقِيلَ: اسْمُ الغُلامِ جَيْسُورُ بِالراءِ، وقِيلَ: جَيْسُونُ بِالنُونِ، وهَذا أمْرٌ كُلُّهُ غَيْرُ ثابِتٍ. وقَرَأ أُبَيِّ بْنُ كَعْبٍ: "فَكانَ كافِرًا وكانَ أبَواهُ مُؤْمِنِينَ"، وقَرَأ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: "فَكانَ أبَواهُ مُؤْمِنانِ"، فَجَعَلَها "كانَ" الَّتِي فِيها الأمْرُ والشَأْنُ. وقَوْلُهُ: "فَخَشِينا" قِيلَ: هو في جِهَةِ الخِضْرِ، فَهَذا مُتَخَلِّصٌ، والضَمِيرُ عِنْدِي لِلْخِضْرِ وأصْحابِهِ الصالِحِينَ الَّذِينَ أهَمَّهُمُ الأمْرُ وتَكَلَّمُوا فِيهِ، وقِيلَ: هو في جِهَةِ اللهِ تَعالى وعَبَّرَ عنهُ الخِضْرُ. قالَ الطَبَرِيُّ: مَعْناهُ: فَعَلِمْنا، وقالَ غَيْرُهُ: فَكَرِهْنا. (p-٦٤٩)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والأظْهَرُ عِنْدِي في تَوْجِيهِ هَذا التَأْوِيلِ -وَإنْ كانَ اللَفْظُ يُدافِعُهُ- أنَّها اسْتِعارَةٌ، أيْ: عَلى ظَنِّ المَخْلُوقِينَ والمُخاطِبِينَ لَوْ عَلِمُوا حالَهُ لَوَقَعَتْ مِنهم خَشْيَةَ الرَهَقِ لِلْأبَوَيْنِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "فَخافَ رَبُّكُ"، وهَذا بَيِّنٌ في الِاسْتِعارَةِ، وهَذا نَظِيرَ ما يَقَعُ في القُرْآنِ في جِهَةِ اللهِ تَعالى مِن "لَعَلَّ وعَسى"، فَإنَّ جَمِيعَ ما في هَذا كُلِّهِ مِن تَرَجٍّ وتَوَقُّعٍ وخَوْفٍ وخَشْيَةٍ إنَّما هو بِحَسَبِكم أيُّها المُخاطِبُونَ. و"يُرْهِقَهُما" مَعْناهُ: يُحِثُّهُما ويُكَلِّفُهُما بِشِدَّةٍ، والمَعْنى أنْ يُلْقِيَهُما حُبُّهُما في اتِّباعِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "أنْ يُبَدِّلَهُما" بِفَتْحِ الباءِ وشَدِّ الدالِّ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، والحَسَنُ، وعاصِمٌ: "أنْ يُبَدِّلَهُما" بِسُكُونِ الباءِ وتَخْفِيفِ الدالِّ. و"الزَكاةُ": شَرَفُ الخُلُقِ والوَقارُ والسَكِينَةُ المُنْطَوِيَةُ عَلى خَيْرٍ، و"الرُحْمُ": الرَحْمَةُ، والمُرادُ -عِنْدَ فِرْقَةٍ- أيْ: يَرْحَمُهُما، وقِيلَ: أيْ: يَرْحَمانِهِ، ومِنهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ العَجّاجِ: ؎ يا مُنَزِلَ الرُحُمِ عَلى إدْرِيسا ∗∗∗ ومُنْزِلُ اللَعْنِ عَلى إبْلِيسَ وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: "رُحُمًا" بِضَمِّ الحاءِ، وقَرَأ الباقُونَ: "رُحْما" بِسُكُونِها، واخْتُلِفَ عن أبِي عَمْرُو. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "رُبُّهُما أزْكى مِنهُ وأقْرَبَ رُحْمًا"، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ "أنَّهُما بَدَّلا غُلامًا مُسْلِمًا"، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ "أنَّهُما بَدَّلا جارِيَةٍ"، وحَكى النَقّاشُ أنَّها وُلِدَتْ هي وذُرِّيَّتُها سَبْعِينَ نَبِيًّا، وذَكَرَهُ المَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما وهو بَعِيدٌ، ولا تُعْرَفُ كَثْرَةُ الأنْبِياءِ إلّا في بَنِي إسْرائِيلَ وهَذِهِ المَرْأةُ لَمْ تَكُنْ فِيهِمْ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنَّ أُمَّ الغُلامِ يَوْمَ قُتِلَ كانَتْ حامِلًا بِغُلامٍ مُسْلِمٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأمّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ﴾. هَذانَ الغُلامانِ صَغِيرانِ بِقَرِينَةِ وصَفِهِما بِاليُتْمِ، وقَدْ قالَ النَبِيُّ ﷺ: « "لا يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغٍ"،» هَذا الظاهِرُ، وقَدْ يُحْتَمَلُ أنْ يَبْقى (p-٦٥٠)عَلَيْهِما اليُتْمُ بَعْدَ البُلُوغِ، أيْ: كانا يَتِيمَيْنِ، عَلى مَعْنى التَشْفِيقِ عَلَيْهِما. واخْتَلَفَ الناسُ في الكَنْزِ، فَقالَ قَتادَةُ وعِكْرِمَةُ: كانَ مالًا جَسِيمًا، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: كانَ عَلَمًا في صُحُفٍ مَدْفُونَةٍ، وقالَ عُمْرَ مَوْلى غُفْرَةَ: كانَ لَوْحًا مِن ذَهَبٍ قَدْ كَتَبَ فِيهِ: "عَجَبًا لِلْمُوقِنِ بِالرِزْقِ يَتْعَبُ، وعَجَبًا لِلْمُوقِنِ بِالحِسابِ كَيْفَ يَغْفُلُ، وعَجَبًا لِلْمُوقِنِ بِالمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ"، ورُوِيَ نَحْوَ هَذا مِمّا هو في مَعْناهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكانَ أبُوهُما صالِحًا﴾، ظاهِرُ اللَفْظِ والسابِقُ مِنهُ أنَّهُ والِدُهُما دَنْيَةً، وقِيلَ: الأبُ السابِعُ، وقِيلَ: العاشِرُ فَحُفِظا فِيهِ وإنْ لَمْ يُذْكَرا بِصَلاحٍ، وفي الحَدِيثِ: « "إنَّ اللهَ تَعالى يَحْفَظُ الرَجُلَ الصالِحَ في ذُرِّيَّتِهِ".» وجاءَ في أنْباءِ الخِضْرِ عَلَيْهِ السَلامُ في أوَّلِ قِصَّةٍ ﴿فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها﴾ [الكهف: ٧٩]، وفي الثانِيَةِ ﴿فَأرَدْنا أنْ يُبْدِلَهُما﴾، وفي الثالِثَةِ ﴿فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا﴾، وإنَّما انْفَرَدَ أوَّلًا في الإرادَةِ لِأنَّها لَفْظَةُ عَيْبٍ فَتَأدَّبَ بِأنَّ لَمْ يُسْنِدِ الإرادَةَ فِيها إلّا لِنَفْسِهِ، كَما تَأدَّبَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ في قَوْلِهِ: ﴿وَإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠]، فَأسْنَدَ الفِعْلَ قَبْلَ وبَعْدَ إلى اللهِ تَعالى، وأسْنَدَ المَرَضَ إلى نَفْسِهِ؛ إذْ هو مَعْنى نَقْصٍ ومُصِيبَةٍ، وهَذا المَنزَعُ يُطْرَدُ في فَصاحَةِ القُرْآنِ كَثِيرًا، ألّا تَرى إلى تَقْدِيمِ فِعْلِ البَشَرِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥]، وتَقْدِيمِ فِعْلِ اللهِ تُبارِكُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ [التوبة: ١١٨]، وإنَّما قالَ الخِضْرُ في الثانِيَةِ: "فَأرَدْنا" لِأنَّهُ أمَلٌ قَدْ كانَ رَواهُ هو وأصْحابُهُ الصالِحُونَ، (p-٦٥١)وَتَكَلَّمَ فِيهِ في مَعْنى الخَشْيَةِ عَلى الوالِدَيْنِ وتَمَنّى التَبْدِيلَ لَهُما، وإنَّما أسْنَدَ الإرادَةَ في الثالِثَةِ إلى اللهِ تَعالى لِأنَّها في أمْرٍ مُسْتَأْنِفٍ في الزَمَنِ طَوِيلٍ غَيْبٍ مِنَ الغُيُوبِ، فَحَسُنَ إفْرادُ هَذا المَوْضِعِ بِذِكْرِ اللهِ تَعالى، وإنْ كانَ الخِضْرُ قَدْ أرادَ أيْضًا ذَلِكَ الَّذِي أعْلَمَهُ اللهُ تَعالى أنَّهُ يُرِيدُهُ، وهَذا تَوْجِيهُ فَصاحَةِ هَذِهِ العِبارَةِ بِحَسَبِ فَهْمِنا المُقَصِّرٍ، واللهُ أعْلَمُ. و"الأشُدُّ": كَمالُ الخُلُقِ والعَقْلِ، واخْتَلَفَ الناسُ في قَدْرِ ذَلِكَ مِنَ السِنِينَ، فَقِيلَ: خَمْسَةٌ وثَلاثُونَ، وقِيلَ: سِتَّةٌ وثَلاثُونَ، وقِيلَ: أرْبَعُونَ، وقِيلَ غَيْرُ هَذا مِمّا فِيهِ ضَعْفٌ. وقَوْلُ الخِضْرُ: ﴿وَما فَعَلْتُهُ عن أمْرِي﴾ يَقْتَضِي أنَّ الخِضْرَ نَبِيٌّ، وقَدِ اخْتَلَفَ الناسُ فِيهِ فَقِيلَ: هو نَبِيٌّ، وقِيلَ: هو عَبْدٌ صالِحٌ ولَيْسَ بِنَبِيٍّ. وكَذَلِكَ جُمْهُورُ الناسِ عَلى أنَّ الخِضْرَ ماتَ، وتَقُولُ فِرْقَةٌ: إنَّهُ حَيٌّ لِأنَّهُ شَرَبَ مِن عَيْنِ الحَياةِ، وهو باقٍ في الأرْضِ، وأنَّهُ يَحُجُّ البَيْتَ وغَيْرَ هَذا، وقَدْ أطْنَبَ النَقّاشُ في هَذا المَعْنى، وذَكَرَ في كِتابِهِ أشْياءَ كَثِيرَةً عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ وغَيْرِهِ، كُلُّها لا تَقُومُ عَلى ساقٍ، ولَوْ كانَ الخِضْرُ عَلَيْهِ السَلامُ حَيّا يَحُجُّ لَكانَ لَهُ في مِلَّةِ الإسْلامِ ظُهُورُ، واللهُ العَلِيمُ بِتَفاصِيلِ الأشْياءِ لا رَبَّ غَيْرُهُ. ومِمّا يَقْضِي بِمَوْتِ الخِضْرِ الآنَ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "أرَأيْتُكم لَيْلَتُكم هَذِهِ، فَإنَّهُ لا يَبْقى مِمَّنْ هو اليَوْمَ عَلى ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ".» وقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ﴾ أيْ مَآلُ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "تَسْتَطِعْ"، وقَرَأ الجُمْهُورٌ: "تَسْطَعُ"، قالَ أبُو حاتِمٍ: كَذا نَقْرَأُ، نَتَّبِعُ المُصْحَفَ. وانْتَزَعَ الطَبَرِيُّ مِنَ اتِّصالِ هَذِهِ القِصَّةِ بِقَوْلِهِ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهم بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذابَ بَلْ لَهُمُ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلا﴾ [الكهف: ٥٨] أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ إنَّما جُلِبَتْ عَلى مَعْنى المَثَلِ لِلنَّبِيِّ ﷺ في قَوْمِهِ، أيْ: لا تَهْتَمُّ بِإمْلاءِ اللهِ لَهُمْ، وإجْراءِ النِعَمِ لَهم عَلى ظاهِرِها، فَإنَّ البَواطِنَ سائِرَةٌ إلى الِانْتِقامِ مِنهُمْ، ونَحْوَ هَذا مِمّا هو مُحْتَمَلٌ لَكِنْ بِتَعَسُّفٍ ما، فَتَأمَّلْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب