الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فانْطَلَقا حَتّى إذا لَقِيا غُلامًا فَقَتَلَهُ قالَ أقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ ﴿قالَ ألَمْ أقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ﴿قالَ إنْ سَألْتُكَ عن شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَدُنِّي عُذْرًا﴾ ﴿فانْطَلَقا حَتّى إذا أتَيا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أهْلَها فَأبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ فَأقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرًا﴾ ﴿قالَ هَذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ "انْطَلَقا" في مَوْضِعِ نُزُولِهِما مِنَ السَفِينَةِ، فَمَرّا بِغِلْمانٍ يَلْعَبُونَ، فَعَمَدَ الخِضْرُ إلى غُلامٍ حَسَنِ الهَيْئَةِ وضِيءٍ فاقْتَلَعَ رَأْسَهُ، ويُقالُ: رَضَّها بِحَجَرٍ، ويُقالُ: ذَبَحَهُ، وقالَ بَعْضُ الناسِ: كانَ الغُلامُ لَمْ يَبْلُغِ الحُلُمِ، ولِذَلِكَ قالَ مُوسى: "زَكِيَّةً"، أيْ: لَمْ تُذْنِبْ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ كانَ غُلامًا شابًّا، والعَرَبُ تُبْقِي عَلى الشابِّ اسْمَ الغُلامِ، ومِنهُ قَوْلُ لَيْلى الأخْيَلِيَّةِ: ؎ غُلامٌ إذا هَزَّ القَناةَ سَقاها (p-٦٣٩)وَهَذا في صِفَةِ الحُجّاجِ. وفي الخَبَرِ أنَّ هَذا الغُلامَ كانَ يُفْسِدُ في الأرْضِ ويُقْسِمُ لِأبَوَيْهِ ما فَعَلَ فَيُقْسِمانِ عَلى قَسَمِهِ ويَحْمِيانِهِ مِمَّنْ يَطْلُبُهُ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والأعْرَجُ، وأبُو جَعْفَرٍ، ونافِعٌ، والجُمْهُورُ: "زاكِيَةً" وقَرَأ الحَسَنُ، وعاصِمٌ، والجَحْدَرِيُّ: "زَكِيَّةً"، والمَعْنى واحِدٌ، وقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلى الفَرْقِ، ولَيْسَ بِبَيِّنٍ وقَوْلُهُ: ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ يَقْتَضِي أنَّهُ لَوْ كانَ عن قَتْلِ نَفْسٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، وهَذا يَدُلُّ عَلى كِبَرِ الغُلامِ؛ وإلّا فَلَوْ كانَ لَمْ يَحْتَلِمْ لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ بِنَفْسٍ ولا بِغَيْرِ نَفْسٍ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "نُكْرًا"، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ عن عاصِمٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ: "نُكُرًا" بِضَمِّ الكافِ، واخْتَلَفَ عن نافِعٍ، ومَعْناهُ: شَيْئًا يُنْكَرُ. واخْتَلَفَ الناسُ أيُّهُما أبْلَغُ؟ قَوْلُهُ: "إمْرًا" أو قَوْلُهُ: "نُكْرًا" -فَقالَتْ فِرْقَةٌ: هَذا قَتْلٌ بَيِّنٌ وهُنالِكَ مُتَرَقَّبٌ، و"نُكْرًا" أبْلَغُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هَذا قَتْلُ واحِدٍ وذَلِكَ قَتْلُ جَماعَةٍ، فَـ "إمْرًا" أبْلَغُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وعِنْدِي أنَّهُما لِمَعْنَيَيْنِ: قَوْلُهُ: "إمْرًا" أفْظَعُ وأهْوَلُ مِن حَيْثُ هو مُتَوَقَّعٌ عَظِيمٌ، و"نُكْرًا" أبْيَنُ في الفَسادِ لِأنَّ مَكْرُوهَهُ قَدْ وقَعَ. "وَنِصْفُ القُرْآنِ بَعْدَ الحَرْفِ "ن" أو يَنْتَهِي إلى النُونِ مِن قَوْلِهِ: "نُكْرًا".". وقَوْلُهُ: ﴿قالَ ألَمْ أقُلْ لَكَ﴾ فِيهِ زَجْرٌ وإغْلاظٌ لَيْسَ في قَوْلِهِ أوَّلًا: ﴿ألَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٧٢]، وقَوْلُهُ: "بَعْدَها" يُرِيدُ: بَعْدَ هَذِهِ القِصَّةِ، فَأعادَ الضَمِيرَ عَلَيْها وإنْ كانَتْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَها ذِكْرٌ صَرِيحٌ مِن حَيْثُ كانَتْ في ضِمْنِ القَوْلِ. (p-٦٤٠)وَقَرَأ الجُمْهُورُ: "فَلا تُصاحِبُنِي"، ورَواها أُبَيٌّ عَنِ النَبِيِّ ﷺ، وقَرَأ عِيسى، ويَعْقُوبُ: "فَلا تَصْحَبْنِي"، وقَرَأ عِيسى أيْضًا: "فَلا تُصْحِبُنِي" بِضَمِّ التاءِ وكَسْرِ الحاءِ، ورَواها سَهْلٌ عن أبِي عَمْرُو، والمَعْنى: فَلا تُصْحِبُنِي عِلْمَكَ، وقَرَأ الأعْرَجُ: "فَلا تَصْحَبَنِّي" بِفَتْحِ التاءِ والباءِ وشَدِّ النُونِ. وقَوْلُهُ: "قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا"، أيْ: قَدْ أعْذَرْتُ إلَيَّ وبَلَغْتَ إلى العُذْرِ مِن قِبَلِي. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُشْبِهُ أنَّ تَكُونَ هَذِهِ القِصَّةُ أصْلًا لِلْآجالِ في الأحْكامِ الَّتِي هي ثَلاثَةُ أيّامٍ، وأيّامُ التَلَوُّمِ ثَلاثَةٌ، فَتَأمَّلْهُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرُو، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ: "مِن لَّدُنِّي" بِفَتْحِ اللامِ وضَمِّ الدالِّ وشَدَّ النُونِ، وهي "لَدُنِ" اتَّصَلَتْ بِها نُونُ الكِنايَةِ الَّتِي في "ضَرَبَنِي" ونَحْوَهُ، فَوَقَعَ الإدْغامُ، وهي قِراءَةُ النَبِيِّ ﷺ، وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ: "مِن لَدُنِي" كالأُولى إلّا أنَّ النُونَ مُخَفَّفَةٌ، فَهي "لَدُنَ" اتَّصَلَتْ بِها ياءُ المُتَكَلِّمِ الَّتِي في "غُلامِي" وكُسِرِ ما قَبْلَ الياءِ كَما كُسِرَ في هَذِهِ، وقَرَأ أبُو بَكْرٍ عن عاصِمٍ: "مِن لَدْنِي" بِفَتْحِ اللامِ وسُكُونِ الدالِ وتَخْفِيفِ النُونِ، وهي تَخْفِيفٌ "لَدُنِي" الَّتِي ذَكَرْناها قَبْلَ هَذِهِ، ورُوِيَ عن عاصِمٍ: "مِن لُدْنِي" بِضَمِّ اللامِ وسُكُونِ الدالِ، قالَ مُجاهِدٌ: وهي غَلَطٌ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: هَذا التَغْلِيطُ يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ مِن جِهَةِ الرِوايَةِ، فَأمّا عَلى قِياسِ العَرَبِيَّةِ فَهي صَحِيحَةٌ. وقَرَأ الحَسَنُ: "مِن لَدْنِي" بِفَتْحِ اللامِ وسُكُونِ الدالِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "عُذْرا"، وقَرَأ أبُو عَمْرُو، وعِيسى: "عُذُرا" بِضَمِّ الدالِّ، وحَكى الدانِي أنَّ أُبَيًّا رَوى عَنِ النَبِيِّ ﷺ "عُذْرِي" بِكَسْرِ الراءِ وياءٍ بَعْدَها، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إذا دَعا لِأحَدٍ بَدَأ بِنَفْسِهِ، فَقالَ يَوْمًا: "رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْنا، وعَلى مُوسى، لَوْ صَبَرَ عَلى صاحِبِهِ لَرَأى العَجَبَ، ولَكِنَّهُ قالَ: ﴿فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَدُنِّي عُذْرًا﴾ "». (p-٦٤١)وَفِي البُخارِيِّ عَنِ النَبِيِّ ﷺ: « "يَرْحَمُ اللهُ مُوسى، لَوَدِدْنا أنَّهُ صَبَرَ حَتّى يَقُصَّ عَلَيْنا مِن أمْرِهِما".» ورُوِيَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ اللهَ تَعالى جَعَلَ هَذِهِ الأمْثِلَةَ الَّتِي وقَعَتْ لِمُوسى مَعَ الخِضْرِ حُجَّةً عَلى مُوسى وعَجَبًا لَهُ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا أنْكَرَ أمْرَ خَرْقِ السَفِينَةِ نُودِيَ: يا مُوسى أيْنَ كانَ تَدْبِيرُكَ هَذا وأنْتَ في التابُوتِ مَطْرُوحًا في اليَمِّ؟ فَلَمّا أنْكَرَ أمْرَ الغُلامِ قِيلَ لَهُ: أيْنَ إنْكارُكَ هَذا مِن وكْرِكَ لِلْقِبْطِيِّ وقَضائِكَ عَلَيْهِ؟ فَلَمّا أنْكَرَ إقامَةَ الجِدارِ نُودِيَ: أيْنَ هَذا مِن رَفْعِكَ حَجَرِ البِئْرِ لِبَناتِ شُعَيْبٍ دُونَ أجْرٍ؟ وقَوْلُهُ: "فانْطَلَقا"، يُرِيدُ: انْطَلَقَ الخِضْرُ ومُوسى يَمْشِيانِ لِارْتِيادِ الخِضْرِ أمْرًا يَنْفُذُ فِيهِ ما عِنْدَهُ مِن عِلْمِ اللهِ تَعالى، فَمَرّا بِقَرْيَةٍ فَطَلَبا مِن أهْلِها أنْ يُطْعِمُوهُما فَأبَوْا. وفي الحَدِيثِ أنَّهُما كانا يَمْشِيانِ عَلى مَجالِسِ أُولَئِكَ القَوْمِ يَسْتَطْعِمانِهِمْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ عِبارَةٌ مُصَرِّحَةٌ بِهَوانِ الدُنْيا عَلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ. واخْتَلَفَ الناسُ في القَرْيَةِ، فَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينِ: هي الأُبُلَّةُ، وهي أبْخَلُ قَرْيَةٍ وأبْعَدُها مِنَ السَماءِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي أنْطاكِيَةُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي بُرْقَةُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي بِجَزِيرَةِ الأنْدَلُسِ، رُوِيَ ذَلِكَ عن أبِي هُرَيْرَةَ وغَيْرُهُ، ويُذْكَرُ أنَّها الجَزِيرَةُ الخَضْراءُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي أبُو حُورانِ، وهي بِناحِيَةِ أذْرَبِيجانَ. (p-٦٤٢)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا كُلُّهُ بِحَسَبِ الخِلافِ في أيِّ ناحِيَةٍ مِنَ الأرْضِ كانَتْ قِصَّةُ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، واللهُ أعْلَمُ بِحَقِيقَةٍ ذَلِكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يُضَيِّفُوهُما" بِفَتْحِ الضادِ وشَدِّ الياءِ، وقَرَأ أبُو رَجاءٍ "يُضِيِّفُوهُما" بِكَسْرِ الضادِ وسُكُونِ الياءِ، وهي قِراءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، والزُبَيْرِ، وأبِي رَزِينٍ. و"الضَيْفُ" مَأْخُوذٌ مِن: ضافَ إلى المَكانِ إذا مالَ إلَيْهِ، ومِنهُ الإضافَةُ وهي إمالَةُ شَيْءٍ إلى شَيْءٍ وقَرَأ الأعْمَشُ: "فَأبَوْا أنْ يُطْعِمُوهُما". وقَوْلُهُ تَعالى في الجِدارِ: ﴿يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ﴾ اسْتِعارَةٌ، وجَمِيعُ الأفْعالِ الَّتِي حَقُّها أنْ تَكُونَ لِلْحَيِّ الناطِقِ مَتى أُسْنِدَتْ إلى جَمادٍ أو بَهِيمَةٍ فَإنَّما هي اسْتِعارَةٌ، أيْ: لَوْ كانَ مَكانَ الجَمادِ إنْسانٌ لَكانَ مُمْتَثِلًا لِذَلِكَ الفِعْلِ، فَمِن ذَلِكَ قَوْلُ الأعْشى: ؎ هَلْ تَنْتَهُونَ؟ ولا يَنْهى ذَوِي شَطَطٍ ∗∗∗ ∗∗∗ كالطَعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَيْتُ والفُتُلُ فَأسْنَدَ النَهْيَ إلى الطَعْنِ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ يُرِيدُ الرُمْحُ صَدْرَ أبِي بَراءٍ ∗∗∗ ∗∗∗ ويَرْغَبُ عن دِماءِ بَنِي عُقَيْلِ (p-٦٤٣)وَمِنهُ قَوْلُ عنتَرَةَ: ؎ وشَكا إلَيَّ بِعِبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ وفَسَّرَ هَذا المَعْنى بِقَوْلِهِ: لَوْ كانَ يَدْرِي ما المُحاوَرَةُ اشْتَكى... البَيْتُ. ومِنهُ قَوْلُ الناسِ: "دارِي تَنْظُرُ إلى دارِ فُلانٍ"، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "لا تَراءى نارُهُما"» وهَذا كَثِيرٌ جِدًّا. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يَنْقَضُّ"، أيْ: يَسْقُطُ. «وَقَرَأ النَبِيُّ ﷺ -فِيما رُوِيَ عنهُ- "أنْ يُنْقَضَ" بِضَمِّ المِيمِ وتَخْفِيفِ الضادِ،» وهي قِراءَةُ أُبَيِّ، وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وعِكْرِمَةُ: "أنْ يَنْقاصَ" بِالصادِّ غَيْرَ مَنقُوطَةٍ، بِمَعْنى: يَنْشَقُّ طُولًا، يُقالُ: انْقاصَ الجِدارُ وطَيُّ البِئْرِ، وانْقاصَتِ السِنُّ إذا انْشَقَّتْ طُولًا، وقِيلَ: إذا تَصَدَّعَتْ كَيْفَ (p-٦٤٤)كانَ، ومِنهُ قَوْلُ أبِي ذُؤَيْبٍ: ؎ فِراقٌ كَقَيْصِ السِنِّ فالصَبْرَ إنَّهُ ∗∗∗ ∗∗∗ لِكُلِّ أُناسٍ عَثْرَةٌ وجُبُورُ ويُرْوى: عِبْرَةٌ وحُبُورُ؛ بِالباءِ والحاءِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، والأعْمَشُ: "يُرِيدُ لِيَنْقَضَّ". واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في قَوْلِهِ: "فَأقامَهُ" -فَقالَتْ فِرْقَةٌ: هَدَمَهُ وقَعَدَ يَبْنِيهِ، ووَقَعَ هَذا في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ويُؤَيِّدُ هَذا التَأْوِيلَ قَوْلُ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرًا﴾ ؛ لِأنَّهُ فَعْلٌ يَسْتَحِقُّ أجْرًا. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بَلْ مَسَحَهُ بِيَدِهِ وأقامَهُ فَقامَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ورُوِيَ في هَذا حَدِيثٌ، وهو الأشْبَهُ بِأفْعالِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَلامُ. فَقالَ مُوسى لِلْخِضْرِ: ﴿لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرًا﴾ أيْ: طَعامًا نَأْكُلُهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "لاتَّخَذْتَ"، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرُو: "لَتَخِذْتُ"، وهي قِراءَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، وأدْغَمَ بَعْضُ القُرّاءِ الذالَ في التاءِ، ولَمْ يُدْغِمْها بَعْضُهُمْ، ومِن قَوْلِهِمْ: "تَخِذَ" قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ وقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي إلى جَنْبِ غَرْزِها ∗∗∗ ∗∗∗ نَسِيفًا كَأُفْحُوصِ القَطاةِ المُطَرَّقِ (p-٦٤٥)وَفِي حَرْفِ أُبَيِّ: "لَوْ شِئْتُ لَأُوتِيتَ عَلَيْهِ أجْرًا". ثُمَّ قالَ الخِضْرُ لِمُوسى بِحَسَبِ شَرْطِهِما: ﴿هَذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ﴾، واشْتَرَطَ الخِضْرُ، وأعْطاهُ مُوسى ألّا يَقَعَ سُؤالٌ عن شَيْءٍ، والسُؤالُ أقَلُّ وُجُوهِ الِاعْتِراضاتِ، فالإنْكارُ والتَخْطِئَةُ أعْظَمُ مِنهُ، وقَوْلُهُ: ﴿لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرًا﴾ -وَإنْ لَمْ يَكُنْ سُؤالًا- فَفي ضِمْنِهِ الإنْكارُ لِفِعْلِهِ والقَوْلُ بِتَصْوِيبِ أخْذِ الأجْرَ، وفي ذَلِكَ تَخْطِئَةُ تَرْكِ الأجْرِ، وأمّا فَصْلُهُ وتَكْرِيرُهُ ﴿بَيْنِي وبَيْنِكَ﴾ وعُدُولُهُ عن "بَيْنِنا" فَلِمَعْنى التَأْكِيدِ، والسِينُ في قَوْلِهِ: "سَأُنَبِّئُكَ" مُفَرِّقَةٌ بَيْنَ المُحاوَرَتَيْنِ والصُحْبَتَيْنِ، ومُؤْذِنَةٌ بِأنَّ الأُولى قَدِ انْقَطَعَتْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب