الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِي مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ ﴿قالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ ﴿قالَ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللهُ صابِرًا ولا أعْصِي لَكَ أمْرًا﴾ ﴿قالَ فَإنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْألْنِي عن شَيْءٍ حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنهُ ذِكْرًا﴾ ﴿فانْطَلَقا حَتّى إذا رَكِبا في السَفِينَةِ خَرَقَها قالَ أخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا﴾ ﴿قالَ ألَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ﴿قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ ولا تُرْهِقْنِي مِن أمْرِي عُسْرًا﴾ هَذِهِ مُخاطَبَةُ المُسْتَنْزِلِ المُبالَغِ في حُسْنِ الأدَبِ. المَعْنى: هَلْ يَتَّفِقُ لَكَ ويُخْفَ عَلَيْكَ؟ وهَذا كَما في الحَدِيثِ: "هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَتَوَضَّأُ؟" وعَلى بَعْضِ التَأْوِيلاتِ يَجِيءُ كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَماءِ﴾ [المائدة: ١١٢] "؟ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وعاصِمٌ: "رُشْدًا" بِتَخْفِيفِ الشِينِ، وهي قِراءَةُ حَمْزَةَ، والكِسائِيِّ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: "رُشُدا"، وقَرَأ أبُو عَمْرُو: "رَشَدًا" بِفَتْحِ الراءِ والشِينِ. ونَصَبَهُ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثانِيًا بِـ "تُعَلِّمَنِي"، والآخَرُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَمِيرِ في قَوْلِهِ: "أتَّبِعُكَ". ثُمَّ قالَ الخِضْرُ: ﴿إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾، أيْ: إنَّكَ يا مُوسى لا تُطِيقُ أنْ تَصْبِرَ عَلى ما تَراهُ مِن عَمَلِي؛ لِأنَّ الظَواهِرَ الَّتِي عَلَّمَكَ لا تُعْطِيهِ، وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى (p-٦٣٦)ما تَراهُ خَطَأً ولَمْ تُخْبَرْ بِوَجْهِ الحِكْمَةِ فِيهِ ولا وجْهَ الصَوابِ؟ فَقَرَّبَ لَهُ مُوسى الأمْرَ بِوَعْدِهِ أنَّهُ سَيَجِدُهُ صابِرًا، ثُمَّ اسْتَثْنى حِينَ حَكَمَ عَلى نَفْسِهِ بِأمْرٍ، فَقَوّى الخِضْرُ وُصاتَهُ، وأمْرَهُ بِالإمْساكِ عَنِ السُؤالِ والإكْنانِ لِما يَراهُ حَتّى يَبْتَدِئَهُ الخِضْرُ لِشَرْحَ ما يَجِبُ شَرْحُهُ. وقَرَأ نافِعٌ: "فَلا تَسْألَنِّيَّ" بِفَتْحِ اللامِ وتَشْدِيدِ النُونِ وإثْباتِ الياءِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ حَذَفَ الباءَ فَقالَ: "فَلا تَسْألَنَّ"، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرُو، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: " فَلا تَسَأْلُنِي" بِسُكُونِ اللامِ وثُبُوتِ الياءِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "خُبُرا" بِسُكُونِ الباءِ، وقَرَأ الأعْرَجُ: "خُبُرًا" بِضَمِّها. وقَوْلُهُ تَعالى: "فانْطَلَقا"، رُوِيَ عَنِ النَبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وألَّهَ وسَلَّمَ أنَّهُما انْطَلَقا ماشِيَيْنِ عَلى سَيْفِ البَحْرِ حَتّى مَرَّتْ بِهِما سَفِينَةٌ، فَعُرِفَ الخِضْرُ فَحُمِلا بِغَيْرِ نَوْلٍ إلى مَقْصِدِ أُمَّةِ الخَضْرِ. وعُرِّفَتِ السَفِينَةِ بِالألِفِ واللامِ تَعْرِيفَ الجِنْسِ لا لِعَهْدِ عَيْنِها. فَلَمّا رَكِبا عَمَدَ الخِضْرُ إلى وتَدٍ فَجَعَلَ يَضْرِبُ في جَنْبِ السَفِينَةِ حَتّى بَلَغَ بِهِ -فِيما رُوِيَ- لَوْحَيْنِ مِن ألْواحِها، فَذَلِكَ هو مَعْنى "خَرَقَها"، فَلَمّا رَأى ذَلِكَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ غَلَبَهُ ظاهِرُ الأمْرِ عَلى الكَلامِ حِينَ رَأى فِعْلًا يُؤَدِّي إلى غَرَفِ جَمِيعِ مَن في السَفِينَةِ، فَوَقَّفَهُ بِقَوْلِهِ: "أخَرَقْتَها"؟ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرُو، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ: "لِتُغْرِقَ أهْلَها" بِالتاءِ، وقَرَأ أبُو رَجاءٍ: "لِتُغَرِّقَ أهْلَها" بِشَدِّ الراءِ وفَتْحِ الغَيْنِ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "لِيَغْرَقَ أهْلُها" بِرَفْعِ الأهْلِ وإسْنادِ الفِعْلِ إلَيْهِمْ. و"الإمْرُ": الشَنِيعُ مِنَ الأُمُورِ كالداهِيَةِ والإدِّ ونَحْوَهُ. ومِنهُ "أمِرَ أمْرُ ابْنِ أبِي كَبْشَةَ"، ومِنهُ: "أمِرَ القَوْمُ" إذا كَثُرُوا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: و"الإمْرُ أخَصُّ مِنَ المُنْكَرِ". فَقالَ الخِضْرُ مُجاوِبًا لِمُوسى: ﴿ألَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾، فَتَنَبَّهَ مُوسى لِما أتى مَعَهُ فاعْتَذَرَ بِالنِسْيانِ، وذَلِكَ أنَّهُ نَسِيَ العَهْدَ الَّذِي كانَ بَيْنَهُما، هَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ، وفي كِتابِ التَفْسِيرِ مِن صَحِيحِ البُخارِيِّ أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: « "كانَتِ الأُولى مِن (p-٦٣٧)مُوسى نِسْيانًا"،» وفِيهِ عن مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: « "كانَتِ الأُولى نِسْيانًا، والثانِيَةُ شَرْطًا، والثالِثَةُ عَمْدًا".» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ومَعْنى هَذا القَوْلِ صَحِيحٌ، والطَبَرِيُّ لَمْ يُبَيِّنْهُ، ووَجْهُهُ عِنْدِي أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ إنَّما رَأى العَهْدَ في أنْ يَسْألَ، ولَمْ يَرَ إنْكارَ هَذا الفِعْلِ الشَنِيعِ سُؤالًا، بَلْ رَآهُ واجِبًا، فَلَمّا رَأى الخِضْرُ قَدْ أخَذَ العَهْدَ عَلى أعَمِّ وُجُوهِهِ فَضَمَّنَهُ السُؤالَ والمُعارَضَةَ والإنْكارَ وكُلَّ اعْتِراضٍ -إذِ السُؤالُ أخَفُّ مِن هَذِهِ كُلِّها- أخَذَ مَعَهُ في بابِ المَعارِيضِ الَّتِي هي مَندُوحَةٌ عَنِ الكَذِبِ، فَقالَ لَهُ: ﴿لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ﴾، ولَمْ يَقِلْ لَهُ: "إنِّي نَسِيتُ العَهْدَ"، بَلْ قالَ لَفْظًا يُعْطِي لِلْمُتَأوِّلِ أنَّهُ نَسِيَ العَهْدَ، ويَسْتَقِيمُ أيْضًا تَأْوِيلُهُ وطَلَبُهُ، مَعَ أنَّهُ لَمْ يَنْسَ العَهْدَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ﴾ كَلامُ جَيِّدٌ طَلَبَهُ، ولَيْسَ فِيهِ لِلْعَهْدِ ذِكْرٌ، هَلْ نَسِيَهُ أمْ لا، وفِيهِ تَعْرِيضٌ أنَّهُ نَسِيَ العَهْدَ، فَجَمَعَ في هَذا اللَفْظِ بَيْنَ العُذْرِ والصِدْقِ وما يُخِلُّ بِهَذا القَوْلِ إلّا أنَّ الَّذِي قالَهُ وهو أُبَيٌّ رَوى عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "كانَتِ الأُولى نَسْيًا".» و"تُرْهِقْنِي" مَعْناهُ تُكَلِّفُنِي وتُضِيِّقُ عَلَيَّ. ومِمّا قُصَّ مِن أمْرِهِما، أنَّهُما لَمّا رَكِبا السَفِينَةَ وجَرَتْ نَزَلَ عُصْفُورٌ عَلى جَنْبِ السَفِينَةِ، فَنَقَرَ في الماءِ نَقْرَةً، فَقالَ الخِضْرُ لِمُوسى: ماذا تَرى هَذا العُصْفُورَ نَقْصَ مِن ماءِ البَحْرِ؟ قالَ مُوسى: قَلِيلًا، فَقالَ: يا مُوسى، ما نَقَصَ عِلْمِي وعِلْمُكَ مِن عِلْمِ اللهِ إلّا ما نَقَصَ هَذا العُصْفُورُ مِن ماءِ البَحْرِ. (p-٦٣٨)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَقِيلَ: مَعْنى هَذا الكَلامِ وضْعُ العِلْمِ مَوْضِعَ المَعْلُوماتِ، وإلّا فَعِلْمُ اللهِ تَبارَكَ تَعالى لا يُشَبَّهُ بِمُتَناهٍ، إذْ لا يَتَناهى، والبَحْرُ لَوْ فُرِضَتْ لَهُ عَصافِيرُ عَلى عَدَدِ نُقَطِهِ لانْتَهى، وعِنْدِي أنَّ الِاعْتِراضَ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: مِن عِلْمِ اللهِ الَّذِي أعْطاهُ العُلَماءَ قَبْلَهُما وبَعْدَهُما إلى يَوْمِ القِيامَةِ، فَتَجِيءُ نِسْبَةُ عِلَمِهِ إلى عِلْمِ البَشَرِ نِسْبَةُ تِلْكَ النُقْطَةِ إلى البَحْرِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ حَسَنٌ لَوْلا أنْ في بَعْضِ طُرُقِ الحَدِيثِ: "ما عِلْمِي وعِلْمُكَ وعِلْمُ الخَلائِقِ في عِلْمِ اللهِ إلّا كَنَقْرَةِ هَذا العُصْفُورِ"، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ هَذا إلّا أنْ يَكُونَ التَشْبِيهُ بِتَجَوُّزٍ، إذْ لا يُوجَدُ في المَحْسُوساتِ أقْوى في القِلَّةِ مِن نُقْطَةٍ بِالإضافَةِ إلى البَحْرِ، فَكَأنَّها لا شَيْءَ؛ إذْ لا يُوجَدُ لَها إلى البَحْرِ نِسْبَةٌ مَعْلُومَةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب