الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ سَرَبًا﴾ ﴿فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِن سَفَرِنا هَذا نَصَبًا﴾ ﴿قالَ أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصَخْرَةِ فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وما أنْسانِيهُ إلا الشَيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ عَجَبًا﴾ ﴿قالَ ذَلِكَ ما كُنّا نَبْغِ فارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا﴾ ﴿فَوَجَدا عَبْدًا مِن عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ الضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "بَيْنِهِما" لِلْبَحْرَيْنِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وقِيلَ: هو لِمُوسى والخِضْرِ، والأوَّلُ أصْوَبُ. وقَرَأ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمٍ: "مَجْمِعَ" بِكَسْرِ المِيمِ الثانِيَةِ: وقالَ: "نَسِيا" وإنَّما كانَ النِسْيانُ مِنَ الفَتى وحْدَهُ، نَسِيَ أنْ يُعْلِمَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ بِما رَأى مِن حالِهِ مِن حَيْثُ كانَ لَهُما زادًا، وكانَ بِسَبَبٍ مِنهُ، فَنَسَبَ فِعْلَ الواحِدِ فِيهِ إلَيْهِما، وهَذا كَما يُقالُ: فَعَلَ بَنُو فُلانٍ الأمْرَ، إنَّما فَعَلَهُ مِنهم بَعْضٌ. ورُوِيَ في الحَدِيثِ أنْ يُوشِعَ رَأى الحُوتَ قَدْ حُشِرَ مِنَ المَكْتَلِ إلى البَحْرِ، فَرَآهُ قَدِ اتَّخَذَ السِرْبَ، وكانَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ نائِمًا، فَأشْفَقَ أنْ يُوقِظَهُ، وقالَ: أُؤَخِّرُ حَتّى يَسْتَيْقِظَ، فَلَمّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ يُوشِعُ أنْ يُعْلِمَهُ، ورَحَلا حَتّى جاوَزا، و"السَبِيلُ": المَسْلَكُ، و"السَرْبُ": المَسْلَكُ في جَوْفِ الأرْضِ، فَشَبَّهَ بِهِ مَسْلَكَ الحُوتِ في الماءِ حِينَ لَمْ يَنْطَبِقُ الماءُ بَعْدَهُ كالطاقِ وهَذا الَّذِي ورَدَ في الحَدِيثِ عَنِ النَبِيِّ ﷺ، وقالَهُ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ، إنَّ الحُوتَ بَقِيَ مَوْضِعَ سُلُوكِهِ ماءً جامِدًا، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: صارَ مَوْضِعُ سُلُوكِهِ (p-٦٣٢)حَجَرًا صَلْدًا، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: إنَّما اتَّخَذَ سَبِيلَهُ سَرَبًا في البَرِّ حَتّى وصَلَ إلى البَحْرِ ثُمَّ عامَ عَلى العادَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَؤُلاءِ يَتَأوَّلُونَ "سَرَبًا" بِمَعْنى: تَصَرُّفًا وجَوَلانًا، مِن قَوْلِهِمْ: فَحْلٌ سارِبٌ أيْ مُهْمَلٌ يَرْعى حَيْثُ يَشاءُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَسارِبٌ بِالنَهارِ﴾ [الرعد: ١٠]، أيْ مُتَصَرِّفٌ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: اتَّخَذَ سَرَبًا في التُرابِ مِنَ المَكْتَلِ إلى البَحْرِ، وصادَفَ في طَرِيقِهِ حَجَرًا فَنَقَبَهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وظاهِرُ الأمْرِ أنَّ السَرَبَ إنَّما كانَ في الماءِ، ومِن غَرِيبٍ ما رُوِيَ في البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما في قَصَصِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الحُوتَ إنَّما حَيِيَ لِأنَّهُ مَسَّهُ ماءُ عَيْنٍ هُناكَ تُدْعى عَيْنُ الحَياةِ، ما مَسَّتْ قَطُّ شَيْئًا إلّا حَيِيَ. ومِن غَرِيبِهِ أيْضًا أنَّ بَعْضَ المُفَسِّرِينَ ذَكَرَ أنَّ مَوْضِعَ سُلُوكِ الحُوتِ عادَ حَجَرًا طَرِيقًا، وأنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ مَشى عَلَيْهِ مُتَّبِعًا لِلْحُوتِ حَتّى أفْضى ذَلِكَ الطَرِيقَ إلى الجَزِيرَةِ في البَحْرِ، وفِيها وجَدَ الخِضْرَ عَلَيْهِ السَلامُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللهِ: وظاهِرُ الكِتابِ والرِواياتِ أنَّهُ إنَّما وجَدَ الخِضْرَ في ضَفَّةِ البَحْرِ، يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا﴾، ورُوِيَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا جاوَزا﴾ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ نَزَلَ عِنْدَ شَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ في ضَفَّةِ البَحْرِ فَنَسِيَ يُوشَعُ الحُوتَ هُنالِكَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ مُوسى، ورَحَلا مَرْحَلَةَ بَقِيَّةِ اللَيْلِ وصَدْرِ يَوْمِهِما، فَجاعَ مُوسى ولَحِقَهُ تَعَبُ الطَرِيقِ فاسْتَدْعى الغَداءَ. قالَ لِي أبِي رَضِيَ اللهُ عنهُ: وسَمِعْتُ أبا الفَضْلِ الجَوْهَرِيِّ يَقُولُ في وعْظِهِ: مَشى مُوسى إلى المُناجاةِ فَبَقِيَ أرْبَعِينَ يَوْمًا لَمْ يَحْتَجْ إلى طَعامٍ، ولِمّا مَشى إلى بَشَرٍ لِحِقَهُ الجُوعُ في بَعْضِ يَوْمٍ. و"النَصْبُ": التَعَبُ والمَشَقَّةُ. وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: "نَصْبًا" بِضَمِّ النُونِ والصادِ، ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ جَمْعُ "نَصْبٍ"، وهو تَخْفِيفُ "نَصَبٍ". قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا﴾ الآيَةُ. حَكى الطَبَرِيُّ عن فِرْقَةٍ أنَّها قالَتِ: الصَخْرَةُ (p-٦٣٣)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الخِلافِ في مَوْضِعِ هَذِهِ القِصَّةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿نَسِيتُ الحُوتَ﴾، يُرِيدُ: نَسِيتُ ذِكْرَ ما جَرى فِيهِ لَكَ، وأمّا الكِسائِيُّ وحْدَهُ "أنْسانِيهُ". وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ في الوَصْلِ: "أنْسانِيهِي" بِياءٍ بَعْدَ الهاءِ، وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ: "وَما أنْسانِيهُ أنْ أذْكُرَ لَهُ إلّا الشَيْطانُ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ أذْكُرَهُ﴾ بَدَلٌ مِنَ الحُوتَ بَدَلُ اشْتِمالٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ عَجَبًا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلٍ يُوشِعُ لِمُوسى عَلَيْهِ السَلامُ أيِ: اتَّخَذَ الحُوتُ سَبِيلَهُ عَجَبًا لِلنّاسِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ﴾ تَمامُ الخَبَرِ، فاسْتَأْنَفَ التَعَجُّبَ فَقالَ -مِن قِبَلِ نَفْسِهِ-: "عَجَبًا" لِهَذا الأمْرِ، ومَوْضِعُ العَجَبِ أنْ يَكُونَ الحُوتُ قَدْ ماتَ وأُكِلَ شِقَّهُ الأيْسَرُ، ثُمَّ حَيِيَ بَعْدَ ذَلِكَ، قالَ أبُو شُجاعٍ في كِتابِ الطَبَرِيِّ: رَأيْتُهُ، أُوتِيتُ بِهِ فَإذا هو شِقُّهُ حُوتٌ وعَيْنٌ واحِدَةُ، وشَقٌّ آخَرُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وأنا رَأيْتُهُ، والشِقُّ الَّذِي فِيهِ شَيْءٌ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ يَشُفُّ تَحْتَها شَوْكَهُ وشِقَّهُ الآخَرَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ عَجَبًا﴾ إخْبارٌ مِنَ اللهِ تَعالى، وذَلِكَ عَلى وجْهَيْنِ: إمّا أنْ يُخْبِرَ عن مُوسى أنَّهُ اتَّخَذَ سَبِيلَ الحُوتِ مِنَ البَحْرِ عَجَبًا، أيْ: تَعَجَّبَ مِنهُ، وإمّا أنْ يُخْبِرَ عَنِ الحُوتِ أنَّهُ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ عَجَبًا لِلنّاسِ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "واتِّخاذِ سَبِيلِهِ"، فَهَذا مَصْدَرٌ مَعْطُوفٌ عَلى الضَمِيرِ في "أنْ أذْكُرَهُ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ ذَلِكَ ما كُنّا نَبْغِ﴾ الآيَةُ. المَعْنى: قالَ مُوسى لِفَتاهُ: أمْرُ الحُوتِ وفَقْدُهُ هو الَّذِي كُنّا نَطْلُبُ، فَإنَّ الرَجُلَ الَّذِي جِئْنا لَهُ ثُمَّ، فَرَجَعا يَقُصّانِ أثَرَهُما لِئَلّا يُخْطِئانِ طَرِيقَهُما. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "نَبْغِي" بِثُبُوتِ الياءِ، وقَرَأ عاصِمٌ وقَوْمٌ: "نَبَغَ" دُونَ ياءٍ، وكانَ الحَسَنُ يُثْبِتُها إذا وصَلَ ويَحْذِفُها إذا وقَفَ. و"قَصُّ الأثَرِ": اتِّباعُهُ وتَطَلُّبُهُ في مَوْضِعِ خِفايَةٍ. (p-٦٣٤)وَ "العَبْدُ" هو الخَضْرُ في قَوْلِ الجُمْهُورِ بِمُقْتَضى الأحادِيثِ، وخالَفَ مَن لا يَعْتَدُّ بِقَوْلِهِ فَقالَ: لَيْسَ صاحِبُ مُوسى بِالخِضْرِ، بَلْ هو عالَمٌ آخَرُ، والخُضَرُ نَبِيٌّ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وقِيلَ: هو عَبْدٌ صالِحٌ غَيْرُ نَبِيٍّ. والآيَةُ تَشْهَدُ بِنُبُوَّتِهِ؛ لِأنَّ بَواطِنَ أفْعالِهِ هَلْ كانَتْ إلّا بِوَحْيِ اللهِ؟ ورُوِيَ في الحَدِيثِ أنَّ مُوسى وجَدَ الخِضْرَ عَلَيْهِما السَلامُ مُسَجّى في ثَوْبِهِ مُسْتَلْقِيًا عَلى الأرْضِ، فَقالَ لَهُ: السَلامُ عَلَيْكَ، فَرَفَعَ الخِضْرُ رَأسَهُ وقالَ: وأنّى بِأرْضِكَ السَلامُ؟ ثُمَّ قالَ لَهُ: مَن أنْتَ؟ قالَ: أنا مُوسى، قالَ: مُوسى بَنِي إسْرائِيلَ قالَ: نَعَمْ، قالَ لَهُ: ألَمْ يَكُنْ لَكَ في بَنِي إسْرائِيلَ ما يَشْغَلُكَ عَنِ السَفَرِ إلى هُنا؟ قالَ: بَلى، ولَكِنِّي أحْبَبْتُ لِقاءَكَ وأنْ أتَعَلَّمَ مِنكَ، قالَ لَهُ: إنِّي عَلى عِلْمٍ مَن عَلْمِ اللهِ عَلِمَنِيهِ ولا تَعْلَمُهُ أنْتَ، وأنْتَ عَلى عِلْمٍ مَن عَلْمِ اللهِ عَلَّمَكَهُ اللهُ لا أعْلَمُهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: كانَ عَلْمُ الخِضْرِ مَعْرِفَةَ بَواطِنٍ قَدْ أُوحِيَتْ إلَيْهِ لا تُعْطِي ظَواهِرُ الأحْكامِ أفْعالَهُ بِحَسْبِها، وكانَ عِلْمُ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ عِلْمَ الأحْكامِ والفُتْيا بِظاهِرِ أقْوالِ الناسِ وأفْعالِهِمْ. ورُوِيَ أنَّ مُوسى وجَدَ الخِضْرُ قاعِدًا عَلى ثَيَجِ البَحْرِ، وسُمِّي الخَضْرُ خِضْرًا لِأنَّهُ جَلَسَ عَلى فَرْوَةٍ يابِسَةٍ فاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْراءَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ، و"الرَحْمَةُ" -فِي هَذِهِ الآيَةِ- النُبُوَّةُ. وقَدْ ذَكَّرْنا الحَدِيثُ المُضَمَّنُ أنَّ سَبَبَ هَذِهِ القِصَّةِ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ قِيلَ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ أحَدًا أعْلَمُ مِنكَ؟ قالَ: لا. وحَكى الطَبَرِيُّ حَدِيثًا آخَرَ، مُضَمَّنَهُ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ قالَ مِن قِبَلِ نَفْسِهِ: أيْ رَبِّ، أيُّ عِبادُكُ أعْلَمُ؟ قالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ الناسِ إلى عِلْمِهِ عَسى أنْ يُصِيبَ كَلِمَةَ خَيْرٍ تُهْدِيهِ، قالَ: رَبِّ، فَهَلْ في الأرْضِ أحَدٌ؟ قالَ: نَعَمْ، فَسَألِ السَبِيلَ إلى لُقِيِّهِ. (p-٦٣٥)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والحَدِيثُ الأوَّلُ في صَحِيحِ البُخارِيِّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "مِن لَّدُنّا" بِتَشْدِيدِ النُونِ، وقَرَأ أبُو عَمْرُو: "مِن لُدَنا" بِضَمِّ الدالِّ وتَخْفِيفِ النُونِ، قالَ أبُو حاتِمٍ: هُما لُغَتانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب