الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَما مَنَعَ الناسَ أنْ يُؤْمِنُوا إذْ جاءَهُمُ الهُدى ويَسْتَغْفِرُوا رَبَّهم إلا أنْ تَأْتِيَهم سُنَّةُ الأوَّلِينَ أو يَأْتِيَهُمُ العَذابُ قُبُلا﴾ ﴿وَما نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إلا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ ويُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ واتَّخَذُوا آياتِي وما أُنْذِرُوا هُزُوًا﴾ ﴿وَمَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأعْرَضَ عنها ونَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا وإنْ تَدْعُهم إلى الهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إذًا أبَدًا﴾
هَذِهِ آيَةُ تَأسُّفٍ عَلَيْهِمْ، وتَنْبِيهٍ عَلى فَسادِ حالِهِمْ؛ لِأنَّ هَذا المَنعَ لَمْ يَكُنْ بِقَصْدٍ مِنهم أنْ يَمْتَنِعُوا لِيَجِيئَهُمُ العَذابُ، وإنَّما امْتَنَعُوا هم مَعَ اعْتِقادِهِمْ أنَّهم مُصِيبُونَ، لَكِنَّ الأمْرَ في نَفْسِهِ يَسُوقُهم إلى هَذا، فَكَأنَّ حالَهم يَقْتَضِي التَأسُّفَ عَلَيْهِمْ، و"الناسُ" يُرادُ بِهِ كُفّارُ عَصْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الَّذِينَ تَوَلَّوْا دَفْعَ الشَرِيعَةِ وتَكْذِيبَها و"الهُدى" هو شَرْعُ اللهِ تَعالى، والبَيانُ الَّذِي جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، و"الِاسْتِغْفارُ" هُنا طَلَبُ المَغْفِرَةِ عَلى فارِطِ الذَنْبِ كُفْرًا وغَيْرَهُ. و﴿سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾ هي عَذابُ الأُمَمِ المَذْكُورَةِ مِنَ الغَرَقِ والصَيْحَةِ والظُلَّةِ والرِيحِ وغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أو يَأْتِيَهُمُ العَذابُ قُبُلا﴾، أيْ: مُقابِلَةً عِيانًا، والمَعْنى عَذابًا غَيْرَ المَعْهُودِ، فَتَظْهَرُ فائِدَةُ التَقْسِيمِ، وكَذَلِكَ صَدَقَ هَذا الوَعِيدُ في بَدْرٍ. وقالَ مُجاهِدٌ:
"قُبُلًا" مَعْناهُ: فَجْأةً. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرُو، وابْنُ عامِرٍ، ومُجاهِدٌ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ: "قِبَلا" بِكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباءِ، وقَرَأ عاصِمٌ، والكِسائِيُّ، وحَمْزَةُ، (p-٦٢٥)والحَسَنُ، والأعْرَجُ: "قُبُلا" بِضَمِّ القافِ والباءِ، ويَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَكُونَ بِمَعْنى: "قِبَلَ"؛ لِأنَّ أبا عِيسى حَكاهُما بِمَعْنًى واحِدٍ في المُقابَلَةِ، والآخَرُ أنْ يَكُونَ جَمْعُ "قُبَيْلٍ"، أيْ: يَجِيئُهُمُ العَذابُ أنْواعًا وألْوانًا. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ، والحَسَنُ أيْضًا: "قُبْلا" بِضَمِّ القافِ وسُكُونِ الباءِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ﴾ الآيَةُ. كَأنَّهُ لَمّا تَفَجَّعَ عَلَيْهِمْ وعَلى ضَلالِهِمْ ومَصِيرِهِمْ بِآرائِهِمْ إلى الخَسارِ، قالَ: ولَيْسَ الأمْرُ كَما ظَنُّوا، والرُسُلُ لَمْ نَبْعَثْهم لِيُجادِلُوا، ولا لِتُتَمَنّى عَلَيْهِمُ الِاقْتِراحاتُ، وإنَّما بَعَثْناهم مُبَشِّرِينَ مَن آمَنَ بِالجَنَّةِ، ومُنْذِرِينَ مَن كَفَرَ بِالنارِ. و"يُدْحِضُوا" مَعْناهُ: يَزْهَقُوا، والدَحْضُ: الطِينُ الَّذِي يُزْلَقُ فِيهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ رَدِيتُ ونَجّى اليَشْكُرِيَّ جِذارُهُ ∗∗∗ وحادَ كَما حادَ البَعِيرُ عَنِ الدَحْضِ
وفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّخَذُوا﴾ إلى آخَرِ الآيَةِ تَوَعُّدٌ. و"الآياتُ" تَجْمَعُ آياتِ القُرْآنِ والعَلاماتِ الَّتِي تَظْهَرُ عَلى لِسانِ مُحَمَّدٍ ﷺ. وقَوْلُهُ: ﴿وَما أُنْذِرُوا هُزُوًا﴾ يُرِيدُ: مِنَ عَذابِ الآخِرَةِ، والتَقْدِيرُ: وما أُنْذِرُوهُ، فَحَذَفَ الضَمِيرَ. و"الهُزْءُ": السَخْرُ والِاسْتِخْفافُ، كَقَوْلِهِمْ: "أساطِيرُ الأوَّلِينَ"، وقَوْلُهُمْ: "لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذا".
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن أظْلَمُ﴾ اسْتِفْهامٌ بِمَعْنى التَقْرِيرِ، وهَذا مِن أفْصَحِ التَقْرِيرِ، أنْ يُوقَّفَ المَرْءُ عَلى ما لا جَوابَ لَهُ فِيهِ إلّا الَّذِي يُرِيدُ خَصْمُهُ، فالمَعْنى: لا أحَدَ أظْلَمُ مِمَّنْ (p-٦٢٦)هَذِهِ صَفَتُهُ، أنْ يُعْرِضَ عَنِ الآياتِ بَعْدَ الوُقُوفِ عَلَيْها بِالتَذْكِيرِ، ويَنْسى ويَطَّرَحُ كَبائِرَهُ الَّتِي أسْلَفَها، هَذِهِ غايَةُ الإهْمالِ. ونَسَبُ السَيِّئاتِ إلى اليَدَيْنِ مِن حَيْثُ كانَتِ اليَدانِ آلَةَ التَكَسُّبِ في الأُمُورِ الجِرْمِيَّةِ، فَجُعِلَتْ كَذَلِكَ في المَعانِي اسْتِعارَةٌ.
ثُمَّ أخْبَرَ اللهُ تَعالى عنهم وعن فِعْلِهِ بِهِمْ جَزاءً عَلى اعْتِراضِهِمْ وتَكَسُّبِهِمِ القَبِيحَ بِأنَّ اللهَ تَعالى جَعَلَ عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً، وهي جَمْعُ كِنانٍ، وهو الغِلافُ الساتِرُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
واخْتَلَفَ الناسُ في هَذا وما أشْبَهَهُ مِنَ الخَتْمِ والطَبْعِ ونَحْوَهُ، هَلْ هو حَقِيقَةٌ أو مَجازٌ؟ والحَقِيقَةُ في هَذا غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ، والتَجَوُّزُ أيْضًا فَصِيحٌ، أيْ: لِما كانَتْ هَذِهِ المَعانِي مانِعَةً في الأجْسامِ وحائِلَةً اسْتُعِيرَتْ لِلْقُلُوبِ الَّتِي قَدْ أنْساها اللهُ تَعالى وأقْصاها عَنِ الخَيْرِ. وأمّا "الوَقْرُ في الآذانِ" فاسْتِعارَةٌ بَيِّنَةٌ لِأنَّ الكَفَرَةَ يَسْمَعُونَ الدُعاءَ إلى الشَرْعِ سَماعًا تامًّا، ولَكِنْ لَمّا كانُوا لا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِيهِمْ إلّا كَما يُؤَثِّرُ في الَّذِي بِهِ وقْرٌ فَلا يَسْمَعُ، شُبِّهُوا بِهِ، وكَذَلِكَ العَمى والصَمَمِ والبُكْمِ كُلُّها اسْتِعاراتٌ، وإنَّما الخِلافُ في أوصافِ القَلْبِ، هَلْ هي حَقِيقَةٌ أو مَجازٌ؟ و"الوَقْرُ": الثِقَلُ في السَمْعِ.
ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عنهم أنَّهم وإنْ دُعُوا إلى الهُدى فَإنَّهم لا يَهْتَدُونَ أبَدًا، وهَذا يَخْرُجُ عَلى أحَدِ تَأْوِيلَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَكُونَ هَذا اللَفْظُ العامُ يُرادُ بِهِ الخاصُّ مِمَّنْ حَتَّمَ اللهُ عَلَيْهِ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ ولا يَهْتَدِي أبَدًا، ويَخْرُجُ عَنِ العُمُومِ كُلُّ مَن قَضى اللهُ بِهُداهُ في ثانِي حالٍ، والآخَرُ أنْ يُرِيدَ: وإنْ تَدَعُهم إلى الهُدى جَمِيعًا فَلَنْ يُؤْمِنُوا جَمِيعًا أبَدًا، أيْ: أنَّهم رُبَّما آمَنَ مِنهُمُ الأفْرادُ، ويَضْطَرُّنا إلى أحَدِ هَذَيْنِ التَأْوِيلَيْنِ أنّا نَجْدُ المُخْبِرَ عنهم بِهَذا الخَبَرِ قَدْ آمَنَ مِنهم واهْتَدى كَثِيرٌ.
{"ayahs_start":55,"ayahs":["وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن یُؤۡمِنُوۤا۟ إِذۡ جَاۤءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَیَسۡتَغۡفِرُوا۟ رَبَّهُمۡ إِلَّاۤ أَن تَأۡتِیَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِینَ أَوۡ یَأۡتِیَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلࣰا","وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِینَ إِلَّا مُبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَۚ وَیُجَـٰدِلُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِٱلۡبَـٰطِلِ لِیُدۡحِضُوا۟ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ وَٱتَّخَذُوۤا۟ ءَایَـٰتِی وَمَاۤ أُنذِرُوا۟ هُزُوࣰا","وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِیَ مَا قَدَّمَتۡ یَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن یَفۡقَهُوهُ وَفِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرࣰاۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن یَهۡتَدُوۤا۟ إِذًا أَبَدࣰا"],"ayah":"وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن یُؤۡمِنُوۤا۟ إِذۡ جَاۤءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَیَسۡتَغۡفِرُوا۟ رَبَّهُمۡ إِلَّاۤ أَن تَأۡتِیَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِینَ أَوۡ یَأۡتِیَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق