الباحث القرآني

(p-٥٦١)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الكَهْفِ هَذِهِ السُورَةُ مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ جَمِيعِ المُفَسِّرِينَ، ورُوِيَ عن فِرْقَةٍ أنَّ أوَّلَ السُورَةِ نَزَلَ بِالمَدِينَةِ، إلى قَوْلِهِ تَعالى: "جُرُزًا"، والأوَّلُ أصَحُّ. وهِيَ مِن أفْضَلِ سُوَرِ القُرْآنِ، ورُوِيَ أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: « "ألا أُخْبِرُكم بِسُورَةٍ (مَلَأ) عِظَمُها ما بَيْنَ السَماواتِ والأرْضِ، ولِمَن جاءَ بِها مِنَ الأجْرِ مِثْلُ ذَلِكَ"؟ قالُوا: أيُّ سُورَةٍ هي يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: "سُورَةُ الكَهْفِ، مَن قَرَأ بِها يَوْمَ الجُمْعَةِ غُفِرَ لَهُ ما بَيْنَ الجُمْعَةِ إلى الجُمْعَةِ الأُخْرى -وَزِيادَةُ ثَلاثَةِ أيّامٍ في رِوايَةِ أنَسٍ -، ومَن قَرَأ بِها أُعْطِيَ نُورًا بَيْنَ السَماءِ والأرْضِ، ووُقِيَ بِها فِتْنَةَ القَبْرِ".» قوله عزّ وجلّ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ ﴿قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَدُنْهُ ويُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصالِحاتِ أنَّ لَهم أجْرًا حَسَنًا﴾ ﴿ماكِثِينَ فِيهِ أبَدًا﴾ ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ ولَدًا﴾ ﴿ما لَهم بِهِ مِن عِلْمٍ ولا لآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِن أفْواهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلا كَذِبًا﴾ كانَ حَفْصٌ عن عاصِمٍ يَسْكُتُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: "عِوَجًا" سَكْتَةً خَفِيفَةً، وعِنْدَ "مَرْقَدِنا" في يَسِ، وسَبَبُ هَذِهِ البُداءَةِ في هَذِهِ السُورَةِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمّا سَألَتْهُ (p-٥٦٢)قُرَيْشٌ عَنِ المَسائِلِ الثَلاثِ: الرُوحِ والكَهْفِ وذِي القَرْنَيْنِ -حَسْبَما أمَرَتْهم بِهِنَّ يَهُودٌ- قالَ لَهم رَسُولُ اللهِ ﷺ: "غَدًا أُخْبِرُكم بِجَوابِ سُؤالِكُمْ"، ولَمْ يُقَلْ: "إنْ شاءَ اللهُ"، فَعاتَبَهُ اللهُ تَعالى بِأنْ أمْسَكَ عنهُ الوَحْيَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَأرْجَفَ بِهِ كُفّارُ قُرَيْشٍ، وقالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ تَرَكَهُ رَئِيُّهُ الَّذِي كانَ يَأْتِيهِ مِنَ الجِنِّ، وقالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ عَجَزَ عن أكاذِيبِهِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وبَلَغَ مِنهُ، فَلَمّا أنْ قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي أرادَ اللهُ تَعالى عِتابَ مُحَمَّدٍ ﷺ- عَلَيْهِ، جاءَ الوَحْيُ مِنَ اللهِ تَعالى بِجَوابِ الأسْئِلَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ، فافْتُتِحَ الوَحْيُ بِـ" الحَمْد للَّه الَّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ "، أيْ: بِزَعْمِكم أنْتُمْ يا قُرَيْشُ، كَما تَقُولُ لِرَجُلٍ يُحِبُّ مُساءَتَكَ فَلا يَرى إلّا نِعْمَتَكَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْعَمَ عَلَيَّ وفَعَلَ بِي كَذا، عَلى جِهَةِ النِعْمَةِ عَلَيْهِ. و"الكِتابُ" هو القُرْآنُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ أيْ: لَمْ يُزِلْهُ عن طَرِيقِ الِاسْتِقامَةِ، وُ "العِوَجُ" فَقْدُ الِاسْتِقامَةِ، وهو بِكَسْرِ العَيْنِ في الأُمُورِ والطُرُقِ وما لا يُحِسُّ مُنْتَصِبًا شَخْصًا، و"العَوَجُ" بِفَتْحِ العَيْنِ في الأشْخاصِ، كالعَصا والحائِطِ ونَحْوِهِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: ولَمْ يَجْعَلْهُ مَخْلُوقًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ يَعُمُّ هَذا وجَمِيعَ ما ذَكَرَ مِن أنَّهُ لا تَناقُضَ فِيهِ، ومِن أنَّهُ لا خَلَلَ ولا اخْتِلافَ فِيهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "قَيِّمًا" نُصِبَ عَلى الحالِ مِنَ "الكِتابِ"، فَهو بِمَعْنى التَقْدِيمِ مُؤَخَّرٌ في اللَفْظِ، أيْ: أنْزَلَ الكِتابَ قَيِّمًا، واعْتَرَضَ بَيْنَ الحالِ وذِي الحالِ قَوْلُهُ: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾. ذَكَرَ الطَبَرِيٌّ هَذا التَأْوِيلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ "مَنصُوبًا" بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: أنْزَلَهُ، أو جَعَلَهُ قَيِّمًا، وفي بَعْضِ مَصاحِفِ الصَحابَةِ: "وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا لَكِنْ جَعْلَهُ قَيِّمًا"، قالَهُ قَتادَةُ، ومَعْنى "قِيَمٍ" مُسْتَقِيمٌ، هَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، والضَحّاكُ، وقِيلَ: مَعْناهُ أنَّهُ قَيِّمٌ عَلى سائِرِ الكُتُبِ بِتَصْرِيفِها. ذَكَرَهُ المَهْدَوِيُّ. (p-٥٦٣)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا مُحْتَمَلٌ، ولَيْسَ مِنَ الِاسْتِقامَةِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْنى "قِيَمٍ" قِيامَهُ بِأمْرِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى عَلى العالَمِ، وهَذا المَعْنى يُؤَيِّدُهُ ما بَعْدَهُ مِنَ النِذارَةِ والبِشارَةِ اللَذَيْنِ عَمّا العالَمَ. و"البَأْسُ الشَدِيدُ": عَذابُ الآخِرَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَنْدَرِجَ مَعَهُ في النِذارَةِ عَذابُ الدُنْيا بِبَدْرٍ وغَيْرِها، ونَصْبُهُ عَلى المَفْعُولِ الثانِي، والمَعْنى: لِيُنْذَرَ العالَمَ، وقَوْلُهُ تَعالى: "مِن لَدُنْهُ" أيْ: مِن عِنْدِهِ ومِن قَبْلِهِ، والضَمِيرُ عائِدٌ عَلى اللهِ تَعالى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "مِن لَدُنْهُ" بِضَمِّ الدالِّ وسُكُونِ النُونِ وضَمِّ الهاءِ، وقَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ: "مِن لَدْنِهِ" بِسُكُونِ الدالِ وإشْمامِ الضَمِّ فِيها وكَسْرِ النُونِ والهاءِ. وفي "لَدُنْ" لُغاتٌ، يُقالُ: "لَدُنْ" مِثْلُ سَبُعْ، و"لَدْنُ" بِسُكُونِ الدالِ، و"لُدْنُ" بِضَمِّ اللامِ، و"لَدَنُ" بِفَتْحِ اللامِ والدالِ، وهي لَفْظَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُكُونِ، ويَلْحَقُها حَذْفُ النُونِ مَعَ الإضافَةِ، وقَرَأ عَبْدُ اللهِ، وطَلْحَةُ: "وَيَبْشُرُ" بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ الباءِ وضَمِّ الشِينِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنَّ لَهم أجْرًا﴾ تَقْدِيرُهُ: بِأنَّ لَهم أجْرًا، و"الأجْرُ الحَسَنُ": نَعِيمُ الجَنَّةِ، ويَتَقَدَّمُهُ خَيْرُ الدُنْيا. و"ماكِثِينَ" حالٌ مِنَ الضَمِيرِ في "لَهُمْ"، و"أبَدًا" ظَرْفٌ؛ لِأنَّهُ دالٌّ عَلى زَمَنٍ غَيْرِ مُتَناهٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَدْ أشَرْنا في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ إلى أمْرِ اليَهُودِ قُرَيْشًا بِسُؤالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَنِ المَسائِلِ الثَلاثِ، ويَنْبَغِي أنْ نَنُصَّ كَيْفَ كانَ ذَلِكَ. ذَكَرَ ابْنُ إسْحاقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما بِسَنَدٍ أنَّهُ قالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ النَضِرَ بْنَ الحارِثِ، وعُقْبَةَ بْنَ أبِي مُعَيْطٍ، إلى أحْبارِ يَهُودٍ بِالمَدِينَةِ، فَقالُوا لَهُما: سَلاهم عن مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ-، وصِفا لَهم صِفَتَهُ، فَإنَّهم أهْلُ الكِتابِ الأوَّلِ، وعِنْدَهم ما لَيْسَ عِنْدَنا مِن عِلْمِ الأنْبِياءِ، فَخَرَجا حَتّى أتَيا المَدِينَةَ، فَسَألا أحْبارَ اليَهُودِ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَتْ لَهُما أحْبارُ اليَهُودِ: سَلُوهُ عن ثَلاثٍ، فَإنْ أخْبَرَكم بِهِنَّ فَهو نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وإنْ لَمْ يَفْعَلْ فالرَجُلُ مُتَقَوِّلٌ فَرَوْا فِيهِ رَأْيَكُمْ، سَلُوهُ عن فِتْيَةٍ ذَهَبُوا في الدَهْرِ الأوَّلِ، وما كانَ مِن أمْرِهِمْ؟ فَإنَّهم كانَ لَهم حَدِيثٌ عَجِيبٌ، وسَلُوهُ عن رَجُلٍ طَوّافٍ بَلَغَ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها، ما كانَ نَبَؤُهُ؟ وسَلُوهُ عَنِ الرُوحِ، فَأقْبَلَ النَضِرُ وعُقْبَةُ إلى مَكَّةَ، وسَألُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ عن ذَلِكَ، وكانَ الأمْرُ ما ذَكَرْناهُ. (p-٥٦٤)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ ولَدًا﴾ الآيَةَ. أهْلُ هَذِهِ المَقالَةِ هم بَعْضُ اليَهُودِ في عُزَيْرٍ، والنَصارى في المَسِيحِ، وبَعْضُ العَرَبِ في المَلائِكَةِ. والضَمِيرُ في "بِهِ" يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى القَوْلِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ "قالُوا" المُتَقَدِّمُ، وتَكُونُ جُمْلَةُ قَوْلِهِ: ﴿ما لَهم بِهِ مِن عِلْمٍ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: قالُوا جاهِلِينَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى "الوَلَدِ"، أيْ: لا عِلْمَ لَهم بِهَذا الوَلَدِ الَّذِي ادَّعَوْهُ، فَتَكُونُ الجُمْلَةُ صِفَةً لِقَوْلِهِ: "وَلَدًا"، قالَهُ المَهْدَوِيُّ، وهو مُعْتَرِضٌ؛ لِأنَّهُ لا يَصِفُهُ إلّا القائِلُ، وهم لَيْسَ في قَصْدِهِمْ أنْ يَصِفُوهُ. والصَوابُ عِنْدِي أنَّهُ نَفْيٌ مُؤْتَنِفٌ، أخْبَرَ اللهُ تَعالى بِهِ بِجَهْلِهِمْ في ذَلِكَ، فَلا مَوْضِعَ لِلْجُمْلَةِ مِنَ الإعْرابِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى اللهِ تَعالى، وهَذا التَأْوِيلُ أذَمُّ لَهُمْ، وأقْضى بِالجَهْلِ التامِّ عَلَيْهِمْ، وهو قَوْلُ الطَبَرِيٌّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا لآبائِهِمْ﴾، يُرِيدُ الَّذِينَ أخَذَ هَؤُلاءِ هَذِهِ المَقالَةَ عنهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "كَبُرَتْ كَلِمَةً" بِنَصْبِ "كَلِمَةٍ"، كَما تَقُولُ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، وفَسَّرَ الكَلِمَةَ وصْفُها بِالخُرُوجِ مِن أفْواهِهِمْ، وقالَ بَعْضُهُمْ: نَصْبُها عَلى التَفْسِيرِ عَلى حَدِّ نَصْبِ قَوْلِهِ: ﴿وَساءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ [الكهف: ٢٩]، وقالَتْ فِرْقَةٌ: نَصْبُها عَلى الحالِ، والتَقْدِيرُ: كَبُرَتْ فِرْيَتُهم -أو نَحْوَ هَذا- كَلِمَةً، وسُمِّيَتْ هَذِهِ الكَلِماتُ كَلِمَةً مِن حَيْثُ هي مَقالَةٌ واحِدَةٌ، كَما يَقُولُونَ لِلْقَصِيدَةِ: كَلِمَةً. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ المَقالَةُ قائِمَةٌ في النَفْسِ مَعْنًى واحِدًا فَيَحْسُنُ أنْ تُسَمّى كَلِمَةً. وقَرَأ الحَسَنُ، ويَحْيى بْنُ يَعْمُرَ، وابْنُ مَحِيضٍ، والقَوّاسُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: "كَلِمَةٌ" بِالرَفْعِ عَلى أنَّها فاعِلَةٌ بِـ "كَبُرَتْ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ يَقُولُونَ إلا كَذِبًا﴾، أيْ: ما يَقُولُونَ إلّا كَذِبًا، فَهي النافِيَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب