الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿عَسى رَبُّكم أنْ يَرْحَمَكم وإنْ عُدْتُمْ عُدْنا وجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا﴾ ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ ويُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصالِحاتِ أنَّ لَهم أجْرًا كَبِيرًا﴾ ﴿وَأنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أعْتَدْنا لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ ﴿وَيَدْعُ الإنْسانُ بِالشَرِّ دُعاءَهُ بِالخَيْرِ وكانَ الإنْسانُ عَجُولا﴾ يَقُولُ اللهُ تَعالى لِبَقِيَّةِ بَنِي إسْرائِيلَ ﴿عَسى رَبُّكُمْ﴾ إنْ أطَعْتُمْ في أنْفُسِكم واسْتَقَمْتُمْ ﴿أنْ يَرْحَمَكُمْ﴾ و"عَسى" تَرَجٍّ في حَقِّهِمْ، وهَذِهِ العِدَةُ لَيْسَتْ بِرُجُوعِ دَوْلَةٍ، وإنَّما هي بِأنْ يَرْحَمَ المُطِيعَ مِنهُمْ، وكانَ مِنَ الطاعَةِ اتِّباعُهم لِعِيسى عَلَيْهِ السَلامُ، ولِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وعادُوا إلى الكُفْرِ والمَعْصِيَةِ، فَعادَ عِقابُ اللهِ تَعالى، فَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الذُلَّ وقَتَلَهُمْ، وأذَلَّهم بِيَدِ كُلِّ أُمَّةٍ، وهُنا قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: سَلَّطَ عَلَيْهِمْ ثَلاثَةَ مُلُوكٍ. و"الحَصِيرُ" فَعِيلٌ مِنَ الحَصْرِ، فَهي بِمَعْنى السَجْنِ، أيْ: تَحْصُرُهُمْ، وبِنَحْوِ هَذا فَسَّرَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ وغَيْرُهُما، ويُقالُ: الحَصِيرُ أيْضًا مِنَ الحَصْرِ لِلْمَلِكِ، ومِنهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: ؎ ومَقامَةِ غُلْبِ الرِقابِ كَأنَّهم ∗∗∗ جِنٌّ لَدى بابِ الحَصِيرِ قِيامُ (p-٤٤٦)وَيُقالُ لِجَنْبَيِ الإنْسانِ: حَصِيرانِ لَأنَّهُما يَحْصُرانِهِ، ومِنهُ قَوْلُ الطِرْماحِ: ؎ قَلِيلًا تَتَلّى حاجَةً ثُمَّ عُولِيَتْ ∗∗∗ ∗∗∗ عَلى كُلِّ مَعْرُوشِ الحَصِيرَيْنِ بادِنِ وقالَ الحَسَنُ: "الحَصِيرُ" في الآيَةِ أرادَ بِهِ ما يُفْتَرَشُ ويَبْسُطُ كالحَصِيرِ المَعْرُوفِ عندَ الناسِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وذَلِكَ الحَصِيرُ مَأْخُوذٌ مِنَ الحَصْرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَهْدِي﴾ الآيَةُ. "يَهْدِي" في هَذِهِ الآيَةِ بِمَعْنى: يُرْشِدُ، ويَتَوَجَّهُ فِيها أنْ تَكُونَ بِمَعْنى: يَدْعُو، و"الَّتِي" يُرِيدُ بِها الحالَةَ والطَرِيقَةَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: ﴿لِلَّتِي هي أقْوَمُ﴾ هي لا إلَهَ إلّا اللهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والأوَّلُ أعَمُّ، وكَلِمَةُ الإخْلاصِ وغَيْرَها مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ داخِلَةٌ في الحالِ الَّتِي هي أقْوَمُ مِن كُلِّ حالٍ تُجْعَلُ بِإزائِها، والِاخْتِصارُ عَلى "أقْوَمُ" ولَمْ يَذْكُرْ: "مِن كَذا" إيجازٌ، والمَعْنى مَفْهُومٌ، أيْ: لِلَّتِي هي أقْوَمُ مِن كُلِّ ما غايَرَها، فَهي النِهايَةُ في القِوامِ، وقَيَّدَ المُؤْمِنِينَ بِعَمَلِ الصالِحاتِ إذْ هو كَمالُ الإيمانِ وإنْ لَمْ يَكُنْ في نَفْسِهِ، والمُؤْمِنُ المُفْرِدُ في العَمَلِ لَهُ بِإيمانِهِ حَظٌّ في عَمَلِ الصالِحاتِ، و"الأجْرُ الكَبِيرُ": الجَنَّةُ، وكَذَلِكَ حَيْثُ وقَعَ في كِتابِ اللهِ تَعالى: "فَضْلٌ كَبِيرٌ وأجْرٌ كَبِيرٌ" فَهو الجَنَّةُ. (p-٤٤٧)وَقَوْلُهُ تَعالى: "أنَّ" الأُولى في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ "يُبَشِّرُ"، و"إنَّ" الثانِيَةَ عَطْفٌ عَلى الأُولى، وهي داخِلَةٌ في جُمْلَةِ بِشارَةِ المُؤْمِنِينَ. بَشَّرَهُمُ القُرْآنُ بِالجَنَّةِ، وأنَّ الكَفّارَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ، وذَلِكَ أنَّ عِلْمَ المُؤْمِنِينَ بِهَذا مَسَرَّةٌ لَهُمْ، وفي هَذِهِ البِشارَةِ وعِيدٌ لِلْكُفّارِ بِالمَعْنى، وهَذا الَّذِي تَقْتَضِيهِ ألْفاظُ الآيَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَيُبَشِّرُ" بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الباءِ وكَسْرِ الشِينِ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، ويَحْيى بْنُ وثّابٍ، وطُلْحَةُ: "وَيُبَشِّرُ" بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ الباءِ وضَمِّ الشِينِ. و"أعْتَدْنا" مَعْناهُ: أحْضَرْنا وأعْدَدْنا، ومِنهُ العَتادُ. و"الألِيمُ": المُوجِعُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَدْعُ الإنْسانُ بِالشَرِّ دُعاءَهُ بِالخَيْرِ﴾. سَقَطَتِ الواوُ مَن "يَدْعُ" في خَطِّ المُصْحَفِ لَأنَّهم كَتَبُوا المَسْمُوعَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، ومُجاهِدٌ: هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ ذامَّةً لِما يَفْعَلُهُ الناسُ مِنَ الدُعاءِ عَلى أمْوالِهِمْ وأولادِهِمْ في وقْتِ الغَضَبِ والضَجَرِ، فَأخْبَرَ اللهُ أنَّهم يَدْعُونَ بِالشَرِّ في ذَلِكَ الوَقْتِ كَما يَدْعُونَ بِالخَيْرِ في وقْتِ التَثَبُّتِ، فَلَوْ أجابَ اللهُ دُعاءَهم أهْلَكَهُمْ، ولَكِنَّ اللهَ تَعالى يَصْفَحُ ولا يُجِيبُ دُعاءَ الضَجِرِ المُسْتَعْجِلِ. ثُمَّ عَذَرَ بَعْضَ العُذْرِ في أنَّ الإنْسانَ لَهُ عَجَلَةٌ فِطْرِيَّةٌ، و"الإنْسانُ" هُنا، قِيلَ: يُرادُ بِهِ الجِنْسُ بِحَسْبِ ما في الخْلْقِ مِن ذَلِكَ. قالَهُ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ. وقالَ سَلْمانُ الفارِسِيُّ، وابْنُ عَبّاسٍ: إشارَتُهُ إلى آدَمَ عَلَيْهِ السَلامُ في أنَّهُ لَمّا نَفَخَ الرُوحَ في رَأْسِهِ عَطَسَ وأبْصَرَ، فَلَمّا مَشى الرُوحُ في بَدَنِهِ قَبْلَ ساقَيْهِ أعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَذَهَبَ يَمْشِي مُسْتَعْجِلًا لِذَلِكَ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَأشارَتْ ألْفاظُ هَذِهِ الآيَةِ إلى ذَلِكَ. والمَعْنى: فَأنْتُمْ ذَوُو عَجَلَةٍ مَوْرُوثَةٍ مِن أبِيكُمْ، ويُرْوى «أنَّ النَبِيَّ ﷺ جَعَلَ أسِيرًا في قَيْدٍ في بَيْتِ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، فَسَمِعَتْ سَوْدَةُ أنِينَهُ فَأشْفَقَتْ، فَقالَتْ لَهُ: ما بالُكَ؟ فَقالَ: ألَمُ القَيْدِ، فَقامَتْ فَأرْخَتْ مِن رَبْطِهِ فَسَكَتَ، ثُمَّ نامَتْ، فَتَحَيَّلَ في الِانْحِلالِ وفَّرَ، فَطَلَبَهُ النَبِيُّ ﷺ عِنْدَ الصُبْحِ فَأُخْبِرَ الخَبَرَ، فَقالَ: "قَطَعَ اللهُ يَدَيْها"، فَفَزِعَتْ سَوْدَةُ ورَفَعَتْ يَدَيْها نَحْوَ السَماءِ وهي تَخافُ الإجابَةَ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "إنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ دُعائِي في مِثْلِ هَذا رَحْمَةً عَلى المَدْعُوِّ لَهُ؛ لَأنِّي بَشَرٌ أغْضَبُ وأعَجَلُ، فَلْتَرُدَّ سَوْدَةُ يَدَيْها".» (p-٤٤٨)وَقالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ في شَأْنِ قُرَيْشٍ، قالُوا: ﴿اللهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِن السَماءِ﴾ [الأنفال: ٣٢] الآيَةُ، وكانَ الأُولى أنْ يَقُولُوا: "فاهْدِنا إلَيْهِ وارْحَمْنا بِهِ"، فَذَمَّهُمُ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ مُعاتَبَةُ الناسِ عَلى أنَّهم إذا نالَهم شَرٌّ وضُرٌّ دَعَوا ولَجُّوا في الدُعاءِ الَّذِي كانَ يَجِبُ أنْ يَدْعُوَهُ في حالَةِ الخَيْرِ ويَلْزَمَهُ الكُلُّ، مِن ذِكْرِ اللهِ تَعالى وحَمْدِهِ والرَغْبَةِ إلَيْهِ، لَكِنَّ الإنْسانَ يُقَصِّرُ حِينَئِذٍ، فَإذا مَسَّهُ الضُرُّ ألَحَّ واسْتَعْجَلَ الفَرَجَ، فالآيَةُ -عَلى هَذا- نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا مَسَّ الإنْسانَ الضُرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أو قاعِدًا أو قائِمًا فَلَمّا كَشَفْنا عنهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأنْ لَمْ يَدْعُنا إلى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾ [يونس: ١٢].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب