الباحث القرآني

(p-٤٩٨)قوله عزّ وجلّ: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُرِّ عنكم ولا تَحْوِيلا﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهم أقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ إنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا﴾ ﴿وَإنْ مِن قَرْيَةٍ إلا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ أو مُعَذِّبُوها عَذابًا شَدِيدًا كانَ ذَلِكَ في الكِتابِ مَسْطُورًا﴾ ﴿وَما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إلا أنْ كَذَّبَ بِها الأوَّلُونَ وآتَيْنا ثَمُودَ الناقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وما نُرْسِلَ بِالآياتِ إلا تَخْوِيفًا﴾ الَّذِينَ أُمِرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنْ يَقُولَ لَهم في هَذِهِ الآيَةِ لَيْسُوا عَبَدَةَ الأصْنامِ، وإنَّما هم عَبَدَةُ مَن يَعْقِلُ، واخْتُلِفَ في ذَلِكَ -فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هي في عَبَدَةِ العُزَيْرِ والمَسِيحِ وأمِّهِ ونَحْوَهُمْ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: هي في عَبَدَةِ الشَمْسِ والقَمَرِ والكَواكِبِ وعُزَيْزِ والمَسِيحِ وأُمِّهِ ونَحْوَهُمْ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، وابْنُ مَسْعُودٍ: هي في عَبَدَةِ المَلائِكَةِ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أيْضًا: هي في عَبَدَةِ شَياطِينَ كانُوا في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأسْلَمَ أُولَئِكَ الشَياطِينُ، و بَقِيَ عَبَدَتُهم يَعْبُدُونَهُمْ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ]. فَمَعْنى الآيَةِ: قُلْ لِهَؤُلاءِ الكَفَرَةِ: ادْعُوا عِنْدَ الشَدائِدِ والضُرِّ هَؤُلاءِ المَعْبُودِينَ، فَإنَّهم لا يَمْلِكُونَ كَشْفَهُ ولا تَحْوِيلَهُ عنكُمْ، ثُمَّ أخْبَرَهم -عَلى قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وقَتادَةَ: (p-٤٩٩)"تَدْعُونَ" بِالتاءِ-، أو أخْبَرَ النَبِيُّ ﷺ -عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ: "يَدَّعُونَ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ- أنَّ هَؤُلاءِ المَعْبُودِينَ يَطْلُبُونَ التَقَرُّبَ إلى اللهِ والتَزَلُّفَ إلَيْهِ، وأنَّ هَذِهِ حَقِيقَةَ حالِهِمْ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "إلى رَبِّكَ". والضَمِيرُ في "رَبِّهِمُ" لِلْمُتَّبَعِينَ أو لِلْجَمِيعِ. و"الوَسِيلَةُ" هي القُرْبَةُ وسَبَبُ الوُصُولِ إلى البُغْيَةِ، وتَوَسُّلُ الرَجُلِ إذا طُلِبَ الدُنُوِّ والنَيْلَ لِأمْرٍ ما، وقالَ عنتَرَةُ: إنَّ الرِجالَ لَهم إلَيْكَ وسِيلَةٌ ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "مَن سَألَ اللهَ لِي الوَسِيلَةَ... الحَدِيثُ"». و"أيُّهُمُ" ابْتِداءٌ، و"أقْرَبُ" خَبَرُهُ، و"أُولَئِكَ" يُرادُ بِهِ المَعْبُودُونَ. وهو ابْتِداءٌ خَبَرُهُ "يَبْتَغُونَ" والضَمِيرُ في "يَدْعُونَ" لِلْكُفّارِ، وفي "يَبْتَغُونَ" لِلْمَعْبُودِينَ، والتَقْدِيرُ: نَظَرُهم ووَكْدُهم أيُّهم أقْرَبُ، وهَذا كَما قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ في حَدِيثِ الرايَةِ بِخَيْبَرٍ: "فَباتَ الناسُ يُدُوكُونَ أيُّهم يُعْطاها"، أيْ: يَتَبارَوْنَ في طَلَبِ القُرْبِ، وطَفَّفَ الزَجّاجُ في هَذا المَوْضِعِ فَتَأمَّلْهُ. (p-٥٠٠)وَقالَ ابْنُ فَوْرِكِ، وغَيْرُهُ: إنَّ الكَلامَ مِن قَوْلِهِ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ راجِعٌ إلى النَبِيِّينَ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ، و"يَدْعُونَ" -عَلى هَذا- مِنَ الدُعاءِ بِمَعْنى الطَلَبَةِ إلى اللهِ تَعالى، والضَمائِرُ لَهم في "يَدْعُونَ" وفي "يَبْتَغُونَ". وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ مِن قَرْيَةٍ﴾ الآيَةُ. أخْبَرَ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لَيْسَ مَدِينَةٌ مِنَ المُدُنِ إلّا هي هالِكَةٌ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ بِالمَوْتِ والفَناءِ، هَذا مَعَ السَلامَةِ وأخَذَها جُزْءًا، أو هي مُعَذَّبَةٌ مَأْخُوذَةٌ مَرَّةٌ واحِدَةٌ، فَهَذا عُمُومٌ في كُلِّ مَدِينَةٍ، و"مِن" لِبَيانِ الجِنْسِ، وقِيلَ: المُرادُ الخُصُوصُ، [والتَقْدِيرُ] وإنْ مِن قَرْيَةٍ ظالِمَةٍ. وحَكى النَقّاشُ أنَّهُ وُجِدَ في كِتابِ الضَحّاكِ بْنِ مُزاحِمٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ اسْتِقْراءُ البِلادِ المَعْرُوفَةِ اليَوْمَ، وذَكَرَ لِهَلاكِ كُلِّ قُطْرٍ مِنها صِفَةً، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ عنوَهْبِ بْنِ مُنَبَّهَ، فَذَكَرَ فِيهِ أنَّ هَلاكَ الأنْدَلُسِ وخَرابَها يَكُونُ بِسَنابِكِ الخَيْلِ واخْتِلافِ الجُيُوشِ فِيها، وتَرَكَتْ سائِرَها لِعَدَمِ الصِحَّةِ في ذَلِكَ، والمَعْلُومُ أنَّ كُلَّ قَرْيَةٍ تَهْلَكُ إمّا مِن جِهَةِ القُحُوطِ والخَسْفِ غَرَقًا، وإمّا مِن جِهَةِ الفِتَنِ، أو مِنهُما، وصِوَرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لا يَعْلَمُها إلّا اللهُ تَعالى، فَأمّا ما هَلَكَ بِالفِتْنَةِ فَمِن ظُلْمٍ ولا بُدَّ، إمّا في كُفْرٍ أو مَعاصٍ أو تَقْصِيرٍ في دِفاعٍ، وأمّا القَحْطُ فَيُصِيبُ اللهُ بِهِ مَن يَشاءُ وكَذَلِكَ الخَسْفُ. وقَوْلُهُ تَعالى: "مُهْلِكُوها" الضَمِيرُ لَها وفي ضِمْنِ ذَلِكَ الأهْلُ. وقَوْلُهُ: ﴿أو مُعَذِّبُوها﴾ هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، فَإنَّهُ لا يُعَذِّبُ (p-٥٠١)إلّا الأهْلُ. وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فِي الكِتابِ﴾ يُرِيدُ: في سابِقِ القَضاءِ وما خَطَّهُ القَلَمُ في اللَوْحِ المَحْفُوظِ. و"المَسْطُورُ": المَكْتُوبُ أسْطارًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ﴾ الآيَةُ. هَذِهِ العِبارَةُ في "مَنعِنا" هي عَلى ظاهِرِ ما تَفْهَمُ العَرَبُ، فَسَمّى سَبْقَ قَضائِهِ بِتَكْذِيبِ مَن كَذَّبَ وتَعْذِيبِهِ مَنعًا. و"أنِ" الأُولى في مَوْضِعِ نَصْبٍ، والثانِيَةُ في مَوْضِعِ رَفْعِ، والتَقْدِيرُ: وما مَنَعْنا الإرْسالَ إلّا التَكْذِيبُ. وسَبَبُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ قُرَيْشًا اقْتَرَحُوا عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ أنْ يُجْعَلَ لَهُمُ الصَفا ذَهَبا، واقْتَرَحَ بَعْضُهم أنْ يُزِيلَ عنهُمُ الجِبالَ حَتّى يَزْرَعُوا الأرْضَ، فَأوحى اللهُ تَعالى إلى مُحَمَّدٍ ﷺ: إنْ شِئْتَ أنْ أفْعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَإنْ تَأخَّرُوا عَنِ الإيمانِ عاجَلَتْهُمُ العُقُوبَةُ، وإنْ شِئْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ، عَسى أنْ أجْتَبِيَ مِنهم مُؤْمِنِينَ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "بَلْ تَسْتَأْنِي بِهِمْ يا رَبُّ"، فَأخْبَرَ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُ مِن إرْسالِ الآياتِ المُقْتَرَحَةِ إلّا الاسْتِيناءُ؛ إذْ أنَّهُ قَدْ سَلَفَتْ عادَتُهُ بِمُعاجَلَةِ الأُمَمِ الَّذِينَ جاءَتْهُمُ الآيَةُ المُقْتَرَحَةُ فَلَمْ يُؤْمِنُوا. قالَ الزَجّاجُ: أخْبَرَ تَعالى أنَّ مَوْعِدَ كَفّارِ هَذِهِ الأُمَّةِ الساعَةُ، لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿بَلِ الساعَةُ مَوْعِدُهُمْ﴾ [القمر: ٤٦]، فَهَذِهِ الآيَةُ تَنْظُرُ إلى ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعالى أمْرَ ثَمُودَ احْتِجاجًا إنَّ قالَ مِنهم قائِلٌ: نَحْنُ كُنّا نُؤْمِنُ لَوْ جاءَتْنا آيَةٌ اقْتَرَحْناها ولا نَكْفُرُ بِوَجْهٍ، فَذِكْرَ اللهُ تَعالى ثَمُودَ، بِمَعْنى: لا تَأْمَنُونَ أنْ تَظْلِمُوا بِالآيَةِ كَما ظَلَمَتْ ثَمُودُ بِالناقَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "ثَمُودَ" بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، قالَ هارُونُ: أهْلُ الكُوفَةِ يُنَوِّنُونَ (ثَمُودًا) في كُلِّ وجْهٍ، قالَ أبُو حاتِمٍ: لا تُنَوِّنُ العامَّةُ والعُلَماءُ بِالقِراءاتِ "ثَمُودَ" في وجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وفي أرْبَعَةُ مُواطِنَ ألِفٌ مَكْتُوبَةٌ، ونَحْنُ نَقْرَؤُها بِغَيْرِ ألِفٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: "مُبْصِرَةً" عَلى جِهَةِ النَسَبِ، أيْ: مَعَها إبْصارٌ، كَما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿وَجَعَلْنا آيَةَ النَهارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ١٢]، أيْ: مَعَها إبْصارٌ مِمَّنْ يَنْظُرُ، وهَذا عِبارَةٌ عن بَيانِ أمْرِها ووُضُوحِ إعْجازِها. وقَرَأ قَوْمٌ: "مُبْصَرَةً" بِضَمِّ المِيمِ وفَتْحِ الصادِ، حَكاهُ الزَجّاجُ، ومَعْناهُ: مُتَبَيَّنَةً، وقَرَأ قَتادَةُ: "مَبْصَرَةٌ" بِفَتْحِ المِيمِ والصادِ، وهي مَفْعَلَةٌ مِنَ البَصَرِ، ومِنهُ قَوْلُهُ عنتَرَةَ:(p-٥٠٢) ؎ والكُفْرُ مَخْبَثَةٌ لِنَفْسِ المُنْعِمِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَظَلَمُوا بِها﴾، أيْ: وضَعُوا الفِعْلَ غَيْرَ مَوْضِعِهِ، أيْ: بِعَقْرِها، وقِيلَ: بِالكُفْرِ في أمْرِها. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ إنَّما يُرْسِلُ بِالآياتِ غَيْرِ المُقْتَرَحَةِ تَخْوِيفًا لِلْعِبادِ، وهي آياتٌ مَعَها إمْهالٌ لا مُعاجَلَةٌ فَمِن ذَلِكَ الكُسُوفُ والرَعْدُ والزَلْزَلَةُ وقَوْسُ قُزَحٍ وغَيْرُ ذَلِكَ. قالَ الحَسَنُ: والمَوْتُ الذَرِيعُ، ورُوِيَ أنَّ الكُوفَةَ رَجَفَتْ في مُدَّةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقالَ: أيُّها الناسُ، إنَّ رَبَّكم يَسْتَعْتِبُكم فَأعْتِبُوهُ، ومِن هَذا «قَوْلِ النَبِيِّ ﷺ في الكُسُوفِ: "فافْزَعُوا إلى الصَلاةِ"» الحَدِيثُ، وآياتُ اللهِ المُعْتَبَرُ بِها ثَلاثَةُ أقْسامٍ: فَقِسْمٌ عامٌّ في كُلِّ شَيْءٍ؛ إذْ حَيْثُما وضَعْتَ نَظَرَكَ وجَدْتَ آيَةً، وهُنا فِكْرَةُ العُلَماءِ، وقِسْمٌ مُعْتادٌ غِبًّا كالرَعْدِ والكُسُوفِ ونَحْوَهُ، وهُنا فِكْرَةُ الجَهَلَةِ فَقَطْ، وقِسْمٌ خارِقٌ لِلْعادَةِ، وقَدِ انْقَضى بِانْقِضاءِ النُبُوَّةِ، وإنَّما يُعْتَبَرُ بِهِ تَوَهَّما لِما سَلَفَ مِنهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب