الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا﴾ ﴿وَقالُوا أإذا كُنّا عِظامًا ورُفاتًا أإنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ ﴿قُلْ كُونُوا حِجارَةً أو حَدِيدًا﴾ ﴿أو خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ في صُدُورِكم فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكم أوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهم ويَقُولُونَ مَتى هو قُلِ عَسى أنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ ضَرْبُ المَثَلِ لَهُ هو قَوْلُهُمْ: مَسْحُورٌ، ساحِرٌ، مَجْنُونٌ، مُتَكَهِّنٌ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهم مُتَيَقِّنًا بِأحَدِ هَذِهِ، فَإنَّما كانَتْ مِنهم عَلى جِهَةِ التَشْبِيهِ، ثُمَّ رَأى الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةَ أنَّ أقْرَبَ هَذِهِ الأُمُورُ عَلى تَخَيُّلِ الطارِئِينَ عَلَيْهِمْ هو أنَّهُ ساحِرٌ، ثُمَّ حَكَمَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى عَلَيْهِمْ بِالضَلالِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا﴾ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: لا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهُدى والنَظَرِ المُؤَدِّي إلى الإيمانِ، فَتَجْرِي الآيَةُ مَجْرى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً﴾ [الإسراء: ٤٦] ونَحْوَ هَذا. والآخَرُ: لا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى إفْسادِ أمْرِكَ، (p-٤٩١)وَإطْفاءِ نُورِ اللهِ بِضَرْبِهِمُ الأمْثالَ لَكَ، واتِّباعِهِمْ كُلَّ حِيلَةٍ في جِهَتِكَ. وحَكى الطَبَرِيُّ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ وأصْحابِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالُوا أإذا كُنّا عِظامًا ورُفاتًا﴾. هَذِهِ الآيَةُ في إنْكارِهِمُ البَعْثَ، وهَذا مِنهم تَعَجُّبٌ وإنْكارٌ واسْتِبْعادٌ. و"الرُفاتُ" مِنَ الأشْياءِ: ما مَرَّ عَلَيْهِ الزَمَنُ حَتّى بَلَغَ بِهِ غايَةَ البِلى، وقَرَّبَهُ مِن حالَةِ التُرابِ، يُقالُ: رُفِتَ رَفْتًا فَهو مَرْفُوتٌ، وفُعالٌ بِناءُها لِهَذا المَعْنى، كالحُطامِ والفُتاتِ والرُضاضِ والدُقاقِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "رُفاتًا": غُبارًا، وقالَ مُجاهِدٌ: تُرابًا. واخْتَلَفَ القُرّاءُ في هَذَيْنِ الاسْتَفْهامَيْنِ، فَقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرُو: "أئَذا، أئَنا" جَمِيعًا بِالِاسْتِفْهامِ، غَيْرَ أنَّ أبا عَمْرُو يَمُدُّ الهَمْزَةَ، ثُمَّ يَأْتِي بِالياءِ ساكِنَةً، وابْنُ كَثِيرٍ يَأْتِي بِياءٍ ساكِنَةٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ مِن غَيْرِ مَدَّةٍ. وقَرَأ نافِعٌ الأُولى مِثْلَ أبِي عَمْرُو، واخْتَلَفَ عنهُ في المَدِّ، وقَرَأ الثانِيَةَ: "إنّا" مَكْسُورَةً عَلى الخَبَرِ، ووافَقَهُ الكِسائِيُ في اكْتِفائِهِ بِالِاسْتِفْهامِ الأوَّلِ مِنَ الثانِي، غَيْرَ أنَّهُ كانَ يَهْمِزُ بِهَمْزَتَيْنِ، وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ: "أئِذا كُنّا". "أئِنّا" بِهَمْزَتَيْنِ فِيهِما، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: "إذا كُنّا" مَكْسُورَةَ الألْفِ مِن غَيْرِ اسْتِفْهامٍ "آئِنّا" يَهْمِزُ ثُمَّ يَمُدُّ ثُمَّ يَهْمِزُ، ورُوِيَ عنهُ مِثْلُ قِراءَةِ حَمْزَةَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي سُورَةِ الرَعْدِ تَوْجِيهُ هَذِهِ القِراءاتِ و"جَدِيدٌ" صِفَةٌ لِما قَرُبَ حُدُوثُهُ مِنَ الأشْياءِ، وهَكَذا يُوصَفُ بِهِ المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ، فَيُقالُ: مِلْحَفَةٌ جَدِيدُ، وقَوْلُهُمْ: جَدِيدَةٌ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ، كَذا قالَ سِيبَوَيْهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ كُونُوا حِجارَةً أو حَدِيدًا﴾ الآيَةُ. المَعْنى: قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ: كُونُوا إنِ اسْتَطَعْتُمْ هَذِهِ الأشْياءَ الصَعْبَةَ المُمْتَنِعَةَ التَأتِّي لا بُدَّ مِن بَعْثِكم. وقَوْلُهُ: "كُونُوا" هو الَّذِي يُسَمِّيهِ المُتَكَلِّمُونَ التَعْجِيزَ، مِن أنْواعِ لَفْظَةِ: افْعَلْ، وبِهَذِهِ الآيَةِ مَثَّلَ بَعْضُهُمْ، وفي هَذا عِنْدِي نَظَرٌ، وإنَّما التَعْجِيزُ حَيْثُ يُقْضى بِالأمْرِ فِعْلُ ما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ المُخاطَبُ، (p-٤٩٢)كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فادْرَءُوا عن أنْفُسِكُمُ المَوْتَ﴾ [آل عمران: ١٦٨] ونَحْوَهُ، وأمّا هَذِهِ الآيَةُ فَمَعْناها: كُونُوا بِالتَوَهُّمِ والتَقْدِيرِ كَذا وكَذا، الَّذِي فَطَرَكم كَذَلِكَ هو يُعِيدُكُمْ، وقالَ مُجاهِدٌ: أرادَ بِالخَلْقِ الَّذِي يَكْبُرُ في الصُدُورِ السَماواتُ والأرْضُ والجِبالُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، والحَسَنُ وابْنُ جُبَيْرٍ، والضَحّاكُ: أرادَ المَوْتَ، وقالَ قَتادَةَ ومُجاهِدٌ: بَلْ أحالَ عَلى فِطْرَتِهِمْ عُمُومًا، ورَجَّحَهُ الطَبَرِيُّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا هو الأصَحُّ؛ لِأنَّهُ بَدَأ بِشَيْءٍ صُلْبٍ، ثُمَّ تَدَرَّجَ القَوْلُ إلى أقْوى مِنهُ، ثُمَّ أحالَ عَلى فِطْرَتِهِمْ إنْ شاءَ، وفي أشَدَّ مِنَ الحَدِيدِ فَلا وجْهَ لِلتَّخْصِيصِ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ. ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ عَزَّ وجَلَّ في الإعادَةِ بِالفِطْرَةِ الأُولى مِن حَيْثُ خَلَقَهم واخْتَرَعَهم مِن تُرابٍ، وكَذَلِكَ يُعِيدُهم إذا شاءَ، لا رَبَّ غَيْرُهُ. وقَوْلُهُ: "فَسَيُنْغِضُونَ" مَعْناهُ: يَرْفَعُونَ ويَخْفِضُونَ يُرِيدُ عَلى جِهَةِ التَكْذِيبِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: والِاسْتِهْزاءُ. قالَ الزَجّاجُ: تَحْرِيكُ مَن يُبْطِلُ الشَيْءَ ويَسْتَبْطِئُهُ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ أنَغْضَ نَحْوِي رَأسَهُ وأقْنَعا ∗∗∗ كَأنَّما أبْصَرَ شَيْئًا أطْمَعا ويُقالُ: نَغَضَتِ السِنُّ إذا تَحَرَّكَتْ، وقالَ ذُو الرُمَّةِ: ؎ ظَعائِنُ لَمْ يَسْكُنَّ أكْنافَ قَرْيَةٍ ∗∗∗ ∗∗∗ بِسَيْفٍ ولَمْ تَنْغُضْ بِهِنَّ القَناطِرُ قالَ الطَبَرِيُّ، وابْنُ سَلّامٍ: و"عَسى" مِنَ اللهِ واجِبَةٌ، فالمَعْنى: وهو قَرِيبٌ. (p-٤٩٣)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ إنَّما هي مِنَ النَبِيِّ ﷺ، ولَكِنَّها بِأمْرِ اللهِ تَعالى لَهُ، فَيُقَرِّبُها ذَلِكَ مِنَ الوُجُوبِ، ولِذَلِكَ قالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "بُعِثْتُ أنا والساعَةُ كَهاتَيْنِ"،» وفي ضِمْنِ اللَفْظَةِ تَوَعُّدٌ لَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب