الباحث القرآني

(p-٤٨٤)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنا في هَذا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وما يَزِيدُهم إلا نُفُورًا﴾ ﴿قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إذًا لابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلا﴾ ﴿سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَماواتُ السَبْعُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ وإنْ مِن شَيْءٍ إلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهم إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ: "صَرَّفْنا" بِتَشْدِيدِ الراءِ، عَلى مَعْنى: صَرَّفْنا فِيهِ الحِكَمَ والمَواعِظَ. وقَرَأ الحَسَنُ: "صَرَفْنا" بِتَخْفِيفِ الراءِ عَلى مَعْنى: صَرَفْنا فِيهِ الناسَ إلى الهُدى بِالدُعاءِ إلى اللهِ، وقالَ بَعْضُ مَن شَدَّدَ الراءَ: إنَّ قَوْلَهُ: "فِي" زائِدٌ، والتَقْدِيرُ: صَرَّفْنا هَذا القُرْآنَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "لِيَذَّكَّرُوا"، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "لِيَذْكُرُوا" بِسُكُونِ الذالِ وضَمِّ الكافِ، وهي قِراءَةُ طَلْحَةَ، ويَحْيى، والأعْمَشِ. وما في ضِمْنِ الآيَةِ مِن تَرَجٍّ وطَماعِيَةٍ فَهو في حَقِّ البَشَرِ وبِحَسَبِ ظَنِّهِمْ فِيمَن يَفْعَلُ اللهُ مَعَهُ هَذا. و"النُفُورُ" عِبارَةٌ عن شِدَّةِ الإعْراضِ، تَشْبِيهًا بِنُفُورِ الدابَّةِ، وهو في هَذِهِ الآيَةِ مَصْدَرٌ لا غَيْرَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ورُوِيَ أنَّ في الإنْجِيلِ في مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ: "يا بَنِي إسْرائِيلَ شَوَّقْناكم فَلَمْ تَشْتاقُوا، ونُحْنا لَكم فَلَمْ تَبْكُوا". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ﴾ الآيَةُ، إحْبارٌ بِالحُجَّةِ. واخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿لابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلا﴾ فَحَكى الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ مِنَ المُفَسِّرِينَ أنَّ مَعْناهُ: لِطَلَبِ هَؤُلاءِ الآلِهَةِ الزُلْفى إلى ذِي العَرْشِ، والقِرْبَةِ إلَيْهِ بِطاعَتِهِ، فَيَكُونُ "السَبِيلُ" -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- بِمَعْناها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن شاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلا﴾ [المزمل: ١٩]، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وأبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ، والنَقّاشُ وقالَهُ المُتَكَلِّمُونَ، أبُو مَنصُورُ وغَيْرُهُ-: إنَّ مَعْنى الكَلامِ: لابْتَغَوْا إلَيْهِ سَبِيلًا في إفْسادِ مُلْكِهِ ومُضاهاتِهِ في قُدْرَتِهِ. (p-٤٨٥)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وعَلى هَذا التَأْوِيلِ تَكُونُ الآيَةُ بَيانًا لِلتَّمانُعِ، وجارِيَةً مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلا اللهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: ٢٢]، وتَقْتَضِبُ شَيْئًا مِنَ الدَلِيلِ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى غَيْرُهُ، وذَلِكَ عَلى ما قالَ أبُو المَعالِي وغَيْرُهُ: إنّا لَوْ فَرَضْناهُ لِفَرْضِنا أنْ يُرِيدَ أحَدُهُما تَسْكِينَ جِسْمٍ، والآخِرُ تَحْرِيكَهُ، ومُسْتَحِيلٌ أنْ تَنْفُذَ الإرادَتانِ، ومُسْتَحِيلٌ ألّا تَنْفُذَ جَمِيعًا، فَيَكُونُ الجِسْمُ لا مُتَحَرِّكًا ولا ساكِنًا، فَإذا تَمَّتْ إرادَةُ أحَدِهِما دُونَ الآخَرِ فَإنَّ الَّذِي لَمْ تَتِمُّ إرادَتُهُ لَيْسَ بِإلَهٍ، فَإنْ قُلْنا نَفْرِضُهُما لا يَخْتَلِفانِ، قُلْنا: اخْتِلافُهُما جائِزٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا، والجائِزُ في حُكْمِ الواقِعِ. ودَلِيلٌ آخَرُ، إنَّهُ لَوْ كانَ الِاثْنانِ لَمْ يَمْتَنِعْ أنْ يَكُونُوا ثَلاثَةً، وكَذَلِكَ إلى ما لا نِهايَةَ لَهُ، ودَلِيلٌ آخَرُ: إنَّ الجُزْءَ الَّذِي لا يَتَجَزَّأُ مِنَ المُخْتَرَعاتِ لا تَتَعَلَّقُ بِهِ إلّا قُدْرَةٌ واحِدَةٌ لا يَصِحُّ فِيها اشْتِراكٌ، والآخَرُ كَذَلِكَ، والآخِرُ كَذَلِكَ دَأبًا، فَكُلُّ جُزْءٍ فِيها اشْتِراكٌ، والآخَرُ كَذَلِكَ، والآخِرُ كَذَلِكَ دَأبًا، فَكُلُّ جُزْءٍ يَخْتَرِعُهُ واحِدٌ، وهَذِهِ نُبْذَةٌ شَرْحُها بِحَسَبِ التَقَصِّي يَطُولُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وحَفَصٌ عن عاصِمٍ: "كَما يَقُولُونَ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "كَما تَقُولُونَ" بِالتاءِ. و"سُبْحانَهُ" مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَتْرُوكٌ إظْهارُهُ، فَهو بِمَعْنى التَنْزِيهِ، فَمَوْضِعُها هُنا مَوْضِعُ "تَنَزَّهَ"، فَلِذَلِكَ عُطِفَ الفِعْلُ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ: "وَتَعالى". و"التَعالِي" تَفاعُلٌ، أمّا في المُشاهِدِ في الأجْرامِ فَهو مِنَ اثْنَيْنِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ إذا صَعَدَ في مَنزِلِهِ أو في جَبَلٍ، فَكَأنَّ ذَلِكَ يُعالِيهِ، وهو يُعالِي ويَرْتَقِي، وأمّا في جِهَةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ فالتَعالِي هو بِالقَدَرِ لا بِالإضافَةِ إلى شَيْءٍ آخَرَ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وعاصِمٌ، وأبُو عَمْرُو: "عَمّا يَقُولُونَ" بِالياءِ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "عَمّا تَقُولُونَ" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ. و"عُلُوًّا" مَصْدَرٌ عَلى غَيْرِ الفِعْلِ، فَهو كَقَوْلِهِ سُبْحانُهُ ﴿واللهُ أنْبَتَكم مِنَ الأرْضِ نَباتًا﴾ [نوح: ١٧]، وهَذا كَثِيرٌ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَماواتُ السَبْعُ والأرْضُ﴾ الآيَةُ. المَعْنى: يُنَزِّهُهُ عن هَذِهِ المَقالَةِ الَّتِي لَكُمْ، والِاشْتِراكِ الَّذِي أنْتُمْ بِسَبِيلِهِ، السَماواتُ السَبْعُ والأرْضُ، ثُمَّ أعادَ عَلى السَماواتِ والأرْضِ ضَمِيرَ مَن يَعْقِلُ لَمّا أسْنَدَ إلَيْها فِعْلَ العاقِلِ وهو التَسْبِيحُ، وقَوْلُهُ: (p-٤٨٦)﴿وَمَن فِيهِنَّ﴾ يُرِيدُ المَلائِكَةَ والإنْسَ والجِنَّ، ثُمَّ عَمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الأشْياءَ كُلَّها في قَوْلِهِ: ﴿وَإنْ مِن شَيْءٍ إلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ أيْ: يُنَزِّهُ اللهَ ويَحْمَدُهُ ويُمَجِّدُهُ. واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في التَسْبِيحِ -فَقالَتْ فِرْقَةٌ: هو تَجُوُّزٌ، ومَعْناهُ إنْ كُلَّ شَيْءٍ تَبْدُو فِيهِ صَنْعَةُ الصانِعِ الدالَّةُ عَلَيْهِ، فَتَدْعُو رُؤْيَةُ ذَلِكَ إلى التَسْبِيحِ مِنَ المُعْتَبَرِ، ومِن حُجَّةِ هَذا التَأْوِيلِ قَوْلُهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿إنّا سَخَّرْنا الجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ﴾ [ص: ١٨]. وقالَتْ فِرْقَةٌ: "مِن شَيْءٍ" لَفْظُ عُمُومٍ، ومَعْناهُ الخُصُوصُ في كُلِّ حَيٍّ ونامٍ، ولَيْسَ ذَلِكَ في الجَماداتِ البَحْتَةِ، فَمِن هَذا قَوْلُ عِكْرِمَةَ: الشَجَرَةُ تُسَبِّحُ، والأُسْطُوانَةُ لا تُسَبِّحُ، وقالَ يَزِيدُ الرَقاشِي لِلْحَسَنِ وهُما في طَعامٍ، وقَدْ قُدِّمَ الخِوانُ: أيُسَبِّحُ هَذا الخِوانُ يا أبا سَعِيدٍ؟ قالَ: قَدْ كانَ يُسَبِّحُ مَرَّةً، يُرِيدُ أنَّ الشَجَرَةَ في زَمانِ نُمُوِّها واعْتِدالِها كانَتْ تُسَبِّحُ، فَمُذْ صارَتْ خِوانًا مَدْهُونًا أو نَحْوَهُ صارَتْ جَمادًا. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هَذا التَسْبِيحُ حَقِيقَةٌ، وكُلُّ شَيْءٍ عَلى العُمُومِ يُسَبِّحُ تَسْبِيحًا لا يَسْمَعُهُ البَشَرُ ولا يَفْقَهُونَهُ، ولَوْ كانَ التَسْبِيحُ ما قالَهُ الآخَرُونَ مِن أنَّهُ أثَرُ الصَنْعَةِ لَكانَ أمْرًا مَفْهُومًا، والآيَةُ تَنْطِقُ بِأنَّ هَذا التَسْبِيحَ لا يُفْقَهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَنْفَصِلُ عن هَذا الِاعْتِراضِ بِأنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿لا تَفْقَهُونَ﴾ الكُفّارَ والغَفَلَةَ، أيْ أنَّهم يُعْرِضُونَ عَنِ الِاعْتِبارِ فَلا يَفْقَهُونَ حِكْمَةَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى في الأشْياءِ. وقالَ الحَسَنُ: بَلَغَنِي أنَّ مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ في التَوْراةِ، ذَكَرَ فِيهِ ألْفَ شَيْءٍ مِمّا يُسَبِّحُ، سَبَّحَتْ لَهُ السَماواتُ، سَبَّحَتْ لَهُ الأرْضُ، سَبَّحَ كَذا، سَبَّحَ كَذا. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وعاصِمٌ -فِي رِوايَةٍ أبِي بَكْرٍ - وابْنِ عامِرٍ: "يُسَبِّحُ لَهُ" بِالياءِ، وقَرَأ أبُو عَمْرُو، وعاصِمٌ -فِي رِوايَةِ حَفْصٍ - وحَمْزَةَ والكِسائِيِّ: "تُسَبِّحُ لَهُ" بِالتاءِ. والقِراءَتانِ حَسَنَتانِ. وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ: "سَبَّحَتْ لَهُ السَماواتُ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى إمْلائِهِ لَهُمْ، وصَفْحِهِ عنهم في الدُنْيا، وإمْهالِهِ لَهُمْ، مَعَ شَنِيعِ هَذِهِ المَقالَةِ، أيْ: تَقُولُونَ قَوْلًا يُنَزِّهُهُ عنهُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ المَخْلُوقاتِ، إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا، فَلِذَلِكَ أمْهَلَكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب