الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أولادَكم خَشْيَةَ إمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهم وإيّاكم إنَّ قَتْلَهم كانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِنا إنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلا﴾ ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلا بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ إنَّهُ كانَ مَنصُورًا﴾ قَرَأ الأعْمَشُ، وابْنُ وثّابٍ: "وَلا تُقَتِّلُوا" بِتَضْعِيفِ الفِعْلِ. وهَذِهِ الآيَةُ نَهْيٌ عَنِ الوَأْدِ الَّذِي كانَتِ العَرَبُ تَفْعَلُهُ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ﴾ [التكوير: ٨]، ويُقالُ: كانَ جَهْلُهم يَبْلُغُ إلى أنْ يُغِزَّ واحِدٌ مِنهم كَلْبَهُ ويَقْتُلَ ولَدَهُ، و"خَشْيَةَ" نَصْبٌ عَلى المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ، و"الإمْلاقُ": الفَقْرُ وعَدَمُ المالِ، أمْلَقَ الرَجُلُ: لَمْ يَبْقَ لَهُ إلّا المَلَقاتُ، وهي الحِجارَةُ العِظامُ المُلْسُ السُودُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "خِطْئًا" بِكَسْرِ الخاءِ وسُكُونِ الطاءِ، وبِالهَمْزِ والقَصْرِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: "خَطَأً" بِفَتْحِ (p-٤٦٩)الخاءِ والطاءِ والهَمْزَةُ مَقْصُورَةٌ، وهي قِراءَةُ أبِي جَعْفَرٍ، وهاتانِ قِراءَتانِ مَأْخُوذَتانِ مِن: خَطِئَ إذا أتى الذَنْبُ عَلى عَمَدٍ، فَهِيَ: كَحِذْرٍ وحَذَرَ ومِثْلٍ ومَثَلَ وشِبْهٍ وشَبَهَ اسْمٌ ومَصْدَرٌ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ الخِطْءُ فاحِشَةٌ والبَرُّ نافِلَةٌ ∗∗∗ كَعَجْوَةٍ غُرِسَتْ في الأرْضِ تُؤْتَبَرُ قالَ الزَجّاجُ: خُطِئَ الرَجُلُ يَخْطَأُ خِطْئًا، مِثْلُ: أثِمَ يَأْثَمُ إثْمًا، فَهَذا هو المَصْدَرُ، وخَطَأُ اسْمٌ مِنهُ، وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: خَطِئَ مَعْناهُ واقِعُ الذَنْبِ مَعَ التَعَمُّدِ، وأخْطَأ إذا واقَعَةُ مِن غَيْرِ تَعَمُّدٍ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أو أخْطَأْنا﴾ [البقرة: ٢٨٦]، وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: وقَدْ يَقَعُ هَذا مَوْضِعَ هَذا وهَذا مَوْضِعَ هَذا، فَأخْطَأ بِمَعْنى تَعَمَّدَ في قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ عِبادُكَ يُخْطِئُونَ وأنْتَ رَبٌّ ∗∗∗ ∗∗∗ كَرِيمٌ لا يَلِيقُ بِكَ الذُمُومُ وخُطِئَ بِمَعْنى لَمْ يَتَعَمَّدْ في قَوْلِ الآخَرِ: ؎ والناسُ يَلْحَوْنَ الأمِيرَ إذا هُمُ ∗∗∗ ∗∗∗ خَطِئُوا الصَوابَ ولا يُلامُ المُرْشِدُ (p-٤٧٠)وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "خَطْأ" بِفَتْحِ الخاءِ وسُكُونِ الطاءِ وهَمْزِهِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "خِطاءً" بِكَسْرِ الخاءِ وفَتْحِ الطاءِ ومَدِّ الهَمْزَةِ، وهي قِراءَةُ الأعْرَجِ بِخِلافٍ- وطَلْحَةَ، وشِبْلٍ، والأعْمَشِ، وعِيسى، وخالِدِ بْنِ إلْياسٍ، وقَتادَةَ، والحَسَنِ بِخِلافٍ-، قالَ النَحاسُ: ولا أعْرِفُ لِهَذِهِ القِراءَةِ وجْهًا، وكَذَلِكَ جَعَلَها أبُو حاتِمٍ غَلَطًا، قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: هي مَصْدَرٌ مِن خاطَأ يُخاطِئُ وإنْ كُنّا لَمْ نَجِدْ خاطَأ، ولَكِنْ وجَدْنا تَخاطَأ، وهو مُطاوِعُ خاطَأ، فَدَلَّنا عَلَيْهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ تَخَطَأتِ النَبْلُ أحْشاءَهُ ∗∗∗ ∗∗∗ وأخَّرَ يَوْمِي فَلَمْ أعْجَلِ وقَوْلُ الآخَرِ في صِفَةِ كَمْأةٍ: ؎ تَخاطَأهُ القَنّاصُ حَتّى وجَدْتُهُ ∗∗∗ ∗∗∗ وخُرْطُومُهُ في مِنقَعِ الماءِ راسِبُ فَكَأنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ أولادَهم يُخاطِئُونَ الحَقَّ والعَدْلَ. وقَرَأ الحَسَنُ -فِيما رُوِيَ عنهُ-: "خَطاءً" بِفَتْحِ الخاءِ والطاءِ والمَدِّ في الهَمْزَةِ. قالَ أبُو حاتِمٍ: لا يُعْرَفُ هَذا (p-٤٧١)فِي اللُغَةِ، وهو غَلَطٌ غَيْرُ جائِزٍ، ولَيْسَ كَما قالَ أبُو حاتِمٍ، قالَ أبُو الفَتْحِ: الخَطّاءُ مِن "أخْطَأتْ" بِمَنزِلَةِ العَطاءِ مِن "أعْطَيْتُ"، هو اسْمٌ بِمَعْنى المَصْدَرِ. وقَرَأ الحَسَنُ بِخِلافٍ-: "خَطَأ" بِفَتْحِ الخاءِ والطاءِ مُنَوَّنَةً مِن غَيْرِ هَمْزٍ. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ، والزَهْرِيُّ: "خِطًا" بِكَسْرِ الخاءِ وفَتْحِ الطاءِ كالَّتِي قَبْلَها، وهاتانِ مُخَفَّفَتانِ مِن: خَطَأً وخِطَأٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِنا﴾ تَحْرِيمٌ، والزَنِي يُمَدُّ ويُقْصَرُ، فَمِن قِصْرِهِ الآيَةُ، وهي لُغَةُ جَمِيعِ كِتابِ اللهِ، ومِن مَدِّهِ قَوْلُ الفَرَزْدَقَ: ؎ أبا حازِمٍ مَن يَزِنُ يُعْرَفْ زِناؤُهُ ∗∗∗ ∗∗∗ ومَن يَشْرَبُ الخُرْطُومَ يُصْبَحُ مُسَكَّرا ويُرْوى: أبا خالِدٍ، و"الفاحِشَةُ": ما يَسْتَتِرُ بِهِ مِنَ المَعاصِي لِقُبْحِهِ. و"سَبِيلًا" نَصْبٌ عَلى التَمْيِيزِ، التَقْدِيرُ: وساءَ سَبِيلُهُ سَبِيلًا، أيْ لِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى النارِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا﴾ وما تَقَدَّمَ قَبْلَهُ مِنَ الأفْعالِ جَزْمٌ بِالنَهْيِ. وذَهَبَ الطَبَرِيُّ إلى أنَّها عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وَقَضى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إلا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣]، والأوَّلُ أصْوَبُ وأبْرَعُ لِلْمَعْنى. والألِفُ واللامُ الَّتِي في "النَفْسَ" هي لِلْجِنْسِ، و"الحَقُّ" الَّذِي تُقْتَلُ بِهِ النَفْسُ هو ما فَسَّرَهُ النَبِيُّ ﷺ في قَوْلِهِ: « "لا يُحِلُّ دَمَ المُسْلِمِ إلّا إحْدى ثَلاثِ خِصالٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إيمانٍ، أو زِنى بَعْدَ إحْصانٍ، أو قَتْلُ نَفْسٍ أُخْرى".» (p-٢٧٢)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وتَتَّصِلُ بِها أشْياءٌ هي راجِعَةٌ إلَيْها، فَمِنها قَطْعُ الطَرِيقِ لِأنَّهُ في مَعْنى قَتْلِ النَفْسِ، وهي الحِرابَةُ، ومِن ذَلِكَ الزَنْدَقَةُ، ومَسْألَةُ تَرْكِ الصَلاةِ لِأنَّها في مَعْنى الكُفْرِ بَعْدَ الإيمانِ، ومِنهُ قَتْلُ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ مَنَعَةَ الزَكاةِ، وقَتْلُ مَنِ امْتَنَعَ في المُدُنِ مِن فُرُوضِ الكِفايَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "مَظْلُومًا" نُصِبَ عَلى الحالِ، ومَعْناهُ: بِغَيْرِ هَذِهِ الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ. و"الوَلِيُّ: القائِمُ بِالدَمِ وهو مَن ولَدَ المَيِّتَ، أو ولَدَهُ المَيِّتُ، أو جَمَعَهُ وإيّاهُ أبٌ، ولا مَدْخَلَ لِلنِّساءِ في وِلايَةِ الدَمِ عِنْدَ جَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ، ولَهُنَّ ذَلِكَ عِنْدَ أخِرَيْنِ. و"السُلْطانُ": الحُجَّةُ والمُلْكُ الَّذِي جَعَلَ إلَيْهِ مِنَ التَخْيِيرِ في قَبُولِ الدِيَةِ أوِ العَفْوِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والضَحًّاكُ. وقالَ قَتادَةُ: "السُلْطانُ": القَوْدُ. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرُو، وعاصِمٌ: "فَلا يُسْرِفُ" بِالياءِ، وهي قِراءَةُ الجُمْهُورِ، أيِ الوَلِيِّ، لا يَتَعَدّى أمْرَ اللهِ، والتَعَدِّي هو أنْ يَقْتُلَ غَيْرَ قاتِلٍ ولَيِّهِ مِن سائِرِ القَبِيلَةِ، أو يَقْتُلُ اثْنَيْنِ بِواحِدٍ، وغَيْرِ وذَلِكَ مِن وُجُوهِ التَعَدِّي، وهَذا كُلُّهُ كانَتِ العَرَبُ تَفْعَلُهُ، فَلِذَلِكَ وقَعَ التَحْذِيرُ مِنهُ، وقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "إنَّ مِن أعْتى الناسِ عَلى اللهِ ثَلاثَةٌ: رَجُلُ قُتِلَ غَيْرَ قاتِلٍ ولَيِّهِ، أو قُتِلَ بِدَحَنِ الجاهِلِيَّةِ، أو قُتِلَ في حَرَمِ اللهِ"،» وقالَتْ فِرْقَةٌ: المُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا يُسْرِفْ﴾ القاتِلُ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ الكَلامُ، والمَعْنى: فَلا يَكُنْ أحَدٌ مِنَ المُسْرِفِينَ بِأنْ يَقْتُلَ نَفْسًا، فَإنَّهُ يَحْصُلُ في سِياقِ هَذا الحُكْمِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "فَلا تُسْرِفُ" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ، وهي قِراءَةُ حُذَيْفَةَ، ويَحْيى بْنِ وثّابٍ، ومُجاهِدٍ -بِخِلافٍ والأعْمَشِ، وجَماعَةٍ. قالَ الطَبَرِيُّ: عَلى مَعْنى الخِطابِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ ولِأُمَتِهِ بَعْدَهُ، أيْ: فَلا تَقْتُلُوا غَيْرَ القاتِلِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَصِحُّ أنْ يُرادَ بِهِ الوَلِيُّ، أيْ: فَلا تُسْرِفُ أيُّها الوَلِيُّ في قَتْلِ أحَدٍ مُتَحَصِّلٍ في هَذا (p-٤٧٣)الحُكْمُ. وقَرَأ أبُو مُسْلِمٍ السَرّاجُ صاحِبُ الدَعْوَةِ العَبّاسِيَّةِ: "فَلا يُسْرِفُ" بِضَمِّ الفاءِ، عَلى مَعْنى الخَبَرِ لا عَلى مَعْنى النَهْيِ. والمُرادُ عَلى هَذا التَأْوِيلِ- الوَلِيُّ فَقَطْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي الِاحْتِجاجِ بِأبِي مُسْلِمٍ في القِراءَةِ نَظَرٌ. وفي قِراءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ "فَلا تُسْرِفُوا في القَتْلِ إنَّ ولِيَ المَقْتُولِ كانَ مَنصُورًا". والضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: "إنَّهُ" عائِدٌ عَلى الوَلِيِّ، وقِيلَ: عَلى المَقْتُولِ، وهو عِنْدِي أرْجَحُ الأقْوالِ؛ لِأنَّهُ المَظْلُومُ، ولَفْظَةُ النَصْرِ تُقابِلُ أبَدًا الظُلْمَ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "وَنَصْرُ المَظْلُومِ وإبْرارُ القَسَمِ"،» وكَقَوْلِهِ ﷺ: « "انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أو مَظْلُومًا"،» إلى كَثِيرٍ مِنَ الأمْثِلَةِ. وقِيلَ: عَلى القَتْلِ، وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: عَلى القاتِلِ؛ لِأنَّهُ إذا قُتِلَ في الدُنْيا وخَلَصَ بِذَلِكَ مِن عَذابِ الآخِرَةِ فَقَدْ نُصِرَ. (p-٤٧٤)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ بَعِيدُ المَقْصِدِ. وقالَ الضَحّاكُ: هَذِهِ أوَّلُ ما نَزَلْ مِنَ القُرْآنِ بِشَأْنِ القَتْلِ، وهي مَكِّيَّةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب