الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَجَعَلْنا اللَيْلَ والنَهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَيْلَ وجَعَلْنا آيَةَ النَهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِن رَبِّكم ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِنِينَ والحِسابَ وكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلا﴾ ﴿وَكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنشُورًا﴾ ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ "الآيَةُ": العَلامَةُ المَنصُوبَةُ لِلنَّظَرِ والعِبْرَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "فَمَحَوْنا"، قالَتْ فِيهِ فِرْقَةٌ: سَبَبُ تَعْقِيبِ الفاءِ أنَّ اللهَ تَعالى خَلَقَ الشَمْسَ والقَمَرَ مُضِيئَيْنِ، فَمَحا بَعْدَ ذَلِكَ القَمَرَ، مَحاهُ جِبْرِيلُ بِجَناحَيْهِ ثَلاثَ مَرّاتٍ، فَمِن هُنالِكَ كَلَفُهُ وكَوْنُهُ مُنِيرًا فَقَطْ وقالَتْ فِرْقَةٌ -وَهُوَ الظاهِرُ-: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: "فَمَحَوْنا" إنَّما يُرِيدُ: في أصْلِ خِلْقَتِهِ، وهَذا كَما تَقُولُ: "بَنَيْتُ دارِي فَبَدَأتْ بِالأُسِّ ثُمَّ تابَعَتْ"، فَلا تُرِيدُ بِالفاءِ التَعْقِيبَ، وظاهِرُ لَفْظِ الآيَةِ يَقْتَضِي أرْبَعَ آياتٍ، لا سِيَّما لِمَن بَنى عَلى أنَّ القَمَرَ هو المَمْحُوُّ، والشَمْسُ هي المُبْصِرَةُ، فَأمّا إنْ قَدَّرَ المَمْحُوَّ في ظَلامِ اللَيْلِ والإبْصارَ في ضَوْءِ النَهارِ أمْكَنَ أنْ تَتَضَمَّنَ الآيَةُ آيَتَيْنِ فَقَطْ، عَلى أنْ يَكُونَ فِيها طَرَفٌ مِن إضافَةِ الشَيْءِ إلى نَفْسِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "مُبْصِرَةً" مِثْلَ قَوْلِكَ: "لَيْلٌ نائِمٌ وقائِمٌ"، أيْ: يُنامُ فِيهِ ويُقامُ فِيهِ، وكَذَلِكَ: "آيَةٌ مُبْصِرَةٌ" أيْ: يُبْصِرُ فِيها ومَعَها. وحَكى الطَبَرِيُّ عن بَعْضِ الكُوفِيِّينَ أنَّهُ قالَ: قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: (p-٤٤٩)سَلُوا عَمّا شِئْتُمْ، فَقالَ ابْنُ الكَوّاءِ: ما السَوادُ الَّذِي في القَمَرِ؟ فَقالَ لَهُ عَلَيٌّ: قاتَلَكَ اللهُ، هَلّا سَألَتْ عن أمْرِ دِينِكَ وآخِرَتِكَ؟ ذَلِكَ مَحْوُ اللَيْلِ. وجَعَلَ اللهُ تَعالى النَهارَ مُبْصِرًا لِيَبْتَغِيَ الناسُ الرِزْقَ وفَضْلَ اللهِ، وجَعَلَ القَمَرُ مُخالِفًا لِحالِ الشَمْسِ لِيُعْلَمَ بِهِ العَدَدَ مِنَ السِنِينَ والحِسابَ لِلْأشْهَرِ والأيّامِ، ومَعْرِفَةُ ذَلِكَ في الشَرْعِ إنَّما هو مِن جِهَةِ القَمَرِ لا مِن جِهَةِ الشَمْسِ. وقَوْلُهُ تَعالى: " كُلَ شَيْءٍ " مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظاهِرُ، تَقْدِيرُهُ: وفَصَّلْنا كُلَّ شَيْءٍ تَفْصِيلًا، وقِيلَ: "وَكُلَّ" عَطْفٌ عَلى "والحِسابَ"، فَهو مَعْمُولُ "لِتَعْلَمُوا"، و"التَفْصِيلُ": البَيانُ بِأنَّ تُذْكَرَ فُصُولُ ما بَيْنَ الأشْياءِ وتُزالُ أسْبابُها حَتّى يَتَمَيَّزَ الصَوابُ مِنَ الشُبْهَةِ العارِضَةِ فِيهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي﴾ الآيَةُ. قَوْلُهُ: "كُلَّ" مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو رَجاءٍ، وابْنُ مُجاهِدٍ "طَيْرَهُ في عُنُقِهِ". قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "طائِرَهُ": ما قُدِّرَ عَلَيْهِ ولَهُ، وخاطَبَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى العَرَبَ في هَذِهِ الآيَةِ بِما تَعْرِفُ، وذَلِكَ أنَّهُ كانَ مِن عادَتِها التَيَمُّنُ والتَشاؤُمُ بِالطَيْرِ في كَوْنِها سانِحَةً وبارِحَةً، وكَثُرَ ذَلِكَ حَتّى فَعَلَتْهُ بِالظِباءِ وحَيَوانِ الفَلَواتِ، وسَمَّتْ كُلَّ ذَلِكَ تَطَيُّرًا، وكانَتْ تَعْتَقِدُ أنَّ تِلْكَ الطِيرَةَ قاضِيَةٌ بِما يَلْقى الإنْسانُ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ، فَأخْبَرَهُمُ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ في أوجَزِ لَفْظٍ وأبْلَغِ إشارَةٍ أنَّ جَمِيعَ ما يَلْقى الإنْسانُ مِن خَيْرٍ أو شَرٍّ قَدْ سَبَقَ بِهِ القَضاءُ، وأُلْزِمَ حَظُّهُ وعَمَلُهُ وتَكَسُّبُهُ في عُنُقِهِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ﴾، فَعَبَّرَ عَنِ الحَظِّ والعَمَلِ -إذْ هُما مُتَلازِمانِ- بِالطائِرِ)، قالَهُ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ، بِحَسَبِ مُعْتَقَدِ العَرَبِ في التَطَيُّرِ، وقَوْلِهِمْ في أُمُورٍ: "عَلى الطائِرِ المَيْمُونِ"، و"بِأسْعَدَ طائِرٍ"، ومِنهُ ما طارَ في المُحاجَّةِ والسَهْمِ، كَقَوْلٍ أمِّ العُلا الأنْصارِيَّةِ: "فَطارَ لَنا مِنَ القادِمِينَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ في الهِجْرَةِ عُثْمانُ بْنُ مَظْعُونٍ "، أيْ: كانَ ذَلِكَ حَظَّنا، (p-٤٥٠)وَأصْلُ هَذا كُلِّهِ مِنَ الطَيْرِ الَّتِي تَقْضِي عِنْدَهم بِلِقاءِ الخَيْرِ والشَرِّ، وأبْطَلَ ذَلِكَ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "لا عَدْوى ولا طِيَرَةَ)".» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي عُنُقِهِ﴾ جَرى أيْضًا عَلى مَقْطَعِ العَرَبِ في أنْ تَنْسُبَ ما كانَ إلْزامًا، وقِلادَةً، وأمانَةً، ونَحْوَ هَذا -إلى العُنُقِ، كَقَوْلِهِمْ: "دَمِي في عُنُقِ فُلانٍ" وكَقَوْلِ الأعْشى: ؎ قَلَّدَتُكَ الشِعْرَ يا سَلامَةَ ذا الـ ∗∗∗ تَّفْضالِ، والشَيْءُ حَيْثُما جُعِلا وهَذا كَثِيرٌ، ونَحْوَهُ جَعْلُهم ما كانَ تَكَسُّبًا وجِنايَةً وإثْمًا مَنسُوبًا إلى اليَدِ؛ إذْ هي الأصْلُ في التَكَسُّبِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، ونافِعٌ، والناسُ: "وَنُخْرِجُ" بِنُونِ العَظَمَةِ "كِتابًا" بِالنَصْبِ، وقَرَأ الحَسَنُ، ومُجاهِدُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: "يَخْرُجُ" بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الراءِ عَلى الفِعْلِ المُسْتَقْبَلِ "كِتابًا"، أيْ طائِرُهُ الَّذِي كَنّى بِهِ عن عَمَلِهِ يَخْرُجُ لَهُ ذا كِتابٍ. وقَرَأ الحَسَنُ -مِن هَؤُلاءِ: "كِتابٌ" بِالرَفْعِ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ أيْضًا: "وَيُخْرَجُ" بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الراءِ- عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ. "كِتابًا"، أيْ: طائِرُهُ. وقَرَأ أيْضًا: "كِتابٌ"، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "وَيُخْرِجُ" بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الراءِ، أيْ: يُخْرِجُ اللهُ، وفي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "فِي عُنُقِهِ يَقْرَؤُهُ (p-٤٥١)يَوْمَ القِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنشُورًا". وهَذا الكِتابُ هو عَمَلُ الإنْسانِ وخَطِيئاتُهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يَلْقاهُ" بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ اللامِ وخِفَّةِ القافِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحْدَهُ: "يُلَقّاهُ" بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ اللامِ وتَشْدِيدِ القافِ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ بِخِلافٍ- وأبِي جَعْفَرِ الجَحْدَرِيِّ. وقَوْلُهُ: ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ﴾ حُذِفَ مِنَ الكَلامِ "يُقالُ لَهُ" اخْتِصارًا لِدَلالَةِ الظاهِرِ عَلَيْهِ. و"الحَسِيبُ": الحاسِبُ، ونَصْبُهُ عَلى التَمْيِيزِ، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ، عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: "يا ابْنَ آدَمَ، بُسِطَتْ لَكَ صَحِيفَةٌ، ووُكِّلَ بِكَ مَلِكانِ كَرِيمانِ، أحَدُهُما عن يَمِينِكِ يَكْتُبُ حَسَناتِكَ، والآخِرُ عن شِمالِكَ يَحْفَظُ سَيِّآتِكَ، فامْلِكْ ما شِئْتْ أو أقْلِلْ أو أكْثِرْ، حَتّى إذا مُتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ فَجُعِلَتْ في عُنُقِكَ مَعَكَ في قَبْرِكَ، حَتّى تَخْرُجَ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابًا تَلْقاهُ مَنشُورًا، اقْرَأْ كِتابَكَ، كَفى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا، قَدْ عَدَلَ واللهِ فِيكَ مَن جَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَعَلى هَذِهِ الألْفاظِ الَّتِي ذَكَرَ الحَسَنُ يَكُونُ الطائِرُ ما يَتَحَصَّلُ مَعَ آدَمَ مِن عَمَلِهِ في قَبْرِهِ، فَتَأمَّلْ لَفْظَهُ، وهَذا هو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما. وقالَ قَتادَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ﴾: إنَّهُ سَيَقْرَأُ يَوْمَئِذٍ مَن لَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب