الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَيَخِرُّونَ لِلأذْقانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهم خُشُوعًا﴾ ﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أوِ ادْعُوا الرَحْمَنَ أيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنى ولا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولا تُخافِتْ بِها وابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا﴾ ﴿وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ ولَمْ يَكُنْ لَهُ ولِيٌّ مِنَ الذُلِّ وكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾
هَذِهِ مُبالَغَةٌ في صِفَتِهِمْ، ومَدْحٌ لَهُمْ، وحَضٌّ لِكُلِّ مَن تَرَسَّمَ بِالعِلْمِ وحَصَّلَ مِنهُ شَيْئًا أنْ يَجْرِيَ إلى هَذِهِ الرُتْبَةِ. وحَكى الطَبَرِيٌّ عَنِ التَيْمِيِّ أنَّهُ قالَ: إنَّ مَن أُوتِيَ مِنَ العِلْمِ ما لَمْ يُبْكِهِ لِخَلِيقٌ ألّا يَكُونَ أُوتِيَ عِلْمًا يَنْفَعُهُ؛ لِأنَّ اللهَ تَعالى نَعَتَ العُلَماءَ فَقالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ﴾ [الإسراء: ١٠٧] إلى آخِرِ الآيَتَيْنِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أوِ ادْعُوا الرَحْمَنَ﴾ الآيَةَ.
سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ المُشْرِكِينَ سَمِعُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ يَدْعُو: يا اللهُ، يا الرَحْمَنُ، فَقالُوا: كانَ مُحَمَّدٌ يَأْمُرُنا بِدُعاءِ إلَهٍ واحِدٍ، وهو يَدْعُو إلَهَيْنِ. قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما. وقالَ مَكِّيٌّ: تَهَجَّدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَيْلَةً، فَقالَ في دُعائِهِ: يا رَحْمَنُ يا رَحِيمُ، (p-٥٥٨)فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ المُشْرِكِينَ -وَكانَ بِاليَمامَةِ رَجُلٌ يُسَمّى الرَحِمانُ- فَقالَ ذَلِكَ السامِعُ: ما بالُ مُحَمَّدٍ يَدْعُو رَحْمَنَ اليَمامَةِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ مُبَيِّنَةً أنَّها أسْماءٌ لِشَيْءٍ واحِدٍ، فَإنْ دَعَوْتُمُوهُ بِاللهِ فَهو ذَلِكَ، وإنْ دَعَوْتُمُوهُ بِالرَحْمَنِ فَهو ذَلِكَ.
وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "أيًّا مَن تَدْعُو فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنى"، أيْ: ولَهُ سائِرُ الأسْماءِ الحُسْنى، أيِ الَّتِي تَقْتَضِي أفْضَلَ الأوصافِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهِيَ بِتَوْقِيفٍ، لا يَصْحُ وضْعُ اسْمِ اللهِ تَعالى إلّا بِتَوْقِيفٍ مِنَ القُرْآنِ أوِ الحَدِيثِ. وقَدْ رُوِيَ: « "إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا"»... الحَدِيثُ، ونَصَّها كُلَّها التِرْمِذِيُّ وغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وتَقْدِيرُ الآيَةِ: أيَّ الأسْماءِ تَدْعُو بِهِ فَأنْتَ مُصِيبٌ، لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى.
ثُمَّ أمَرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ ألّا يَجْهَرَ بِصَلاتِهِ، وألّا يُخافِتَ بِها، وهو الإسْرارُ الَّذِي يَسْمَعُهُ المُتَكَلِّمُ بِهِ، هَذِهِ هي حَقِيقَتُهُ، ولَكِنَّهُ في الآيَةِ عِبارَةٌ عن خَفْضِ الصَوْتِ وإنْ لَمْ يَنْتَهِ إلى ما ذَكَرْناهُ. واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في "الصَلاةِ"، ما هِيَ؟ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وجَماعَةٌ: هي الدُعاءُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: هي قِراءَةُ القُرْآنِ في الصَلاةِ، فَهَذا عَلى حَذْفِ مُضافٍ، التَقْدِيرُ: ولا تَجْهَرْ بِقِراءَةِ صَلاتِكَ، قالَ: والسَبَبُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ جَهَرَ بِالقُرْآنِ فَسَمِعَهُ المُشْرِكُونَ فَسَبُّوا القُرْآنَ ومَن أنْزَلَهُ، فَأُمِرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالوَسَطِ، لِيَسْمَعَ أصْحابُهُ المُصَلُّونَ مَعَهُ ويَذْهَبَ عنهُ أذى المُشْرِكِينَ. وقالَ ابْنُ سِيرِينَ: كانَ الأعْرابُ يَجْهَرُونَ بِتَشَهُّدِهِمْ فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ، وكانَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ يُسِرُّ قِراءَتَهُ، وكانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ يَجْهَرُ بِها، فَقِيلَ لَهُما في ذَلِكَ، فَقالَ (p-٥٥٩)أبُو بَكْرٍ: إنَّما أُناجِي رَبِّي وهو يَعْلَمُ حاجَتِي، وقالَ عُمَرُ: أنا أطْرَحُ الشَيْطانَ وأُوقِظُ الوَسْنانَ، فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قِيلَ لِأبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ارْفَعْ أنْتَ قَلِيلًا، وقِيلَ لِعُمْرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: اخْفِضْ أنْتَ قَلِيلًا. وقالَتْ عائِشَةُ أيْضًا رَضِيَ اللهُ عنها: الصَلاةُ يُرادُ بِها في هَذِهِ الآيَةِ التَشَهُّدُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ: المُرادُ: لا تُحْسِنْ صَلاتَكَ في الجَهْرِ، ولا تُسِئْها في السِرِّ، بَلِ اتَّبِعْ طَرِيقًا وسَطًا يَكُونُ دائِمًا في كُلِّ حالَةٍ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنى الآيَةِ النَهْيُ عَمّا يَفْعَلُهُ أهْلُ الإنْجِيلِ والتَوْراةِ مَن رَفْعِ الصَوْتِ أحْيانًا فَيَرْفَعُ الناسُ مَعَهُ، ويَخْفِضُ أحْيانًا فَيَسْكُتُ مَن خَلْفَهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما في الآيَةِ: إنَّ مَعْناها: ولا تَجْهَرْ بِصَلاةِ النَهارِ، ولا تُخافِتْ بِصَلاةِ اللَيْلِ، وابْتَغِ سَبِيلًا مِنَ امْتِثالِ الأمْرِ كَما رُسِمَ لَكَ، ذَكَرَهُ يَحْيى بْنُ سَلامٍ، والزَهْراوِيُّ. وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: لَمْ يُخافِتْ مَن أسْمَعَ أُذُنَهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وما رُوِيَ مِن أنَّهُ قِيلَ لِأبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "ارْفَعْ أنْتَ قَلِيلًا" يَرُدُّ هَذا، ولَكِنَّ الَّذِي قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ هو أصْلُ اللُغَةِ، ويُسْتَعْمَلُ الخُفُوتُ بَعْدَ ذَلِكَ في أرْفَعَ مِن ذَلِكَ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا﴾. هَذِهِ الآيَةُ رادَّةٌ عَلى اليَهُودِ والنَصارى والعَرَبِ في قَوْلِهِمْ أفْذاذًا: "عُزَيْرٌ وعِيسى والمَلائِكَةُ ذَرِّيَّةٌ لِلَّهِ"، سُبْحانَهُ وتَعالى عن أقْوالِهِمْ ورادَّةٌ عَلى العَرَبِ في قَوْلِهِمْ: "لَوْلا أولِياءُ اللهِ لِذُلَّ"، وقَيَّدَ لَفْظُ الآيَةِ نَفِيَ الوِلايَةِ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ بِطَرِيقِ الذُلِّ، وعَلى جِهَةِ الِانْتِصارِ؛ إذْ وِلايَتُهُ مَوْجُودَةٌ بِتَفَضُّلِهِ ورَحْمَتِهِ لِمَن والى مِن صالِحِ عِبادِهِ. قالَ مُجاهِدٌ: المَعْنى: لَمْ يُحالِفْ أحَدًا، ولا ابْتَغَ نَصْرَ أحَدٍ.
وقَوْلُهُ: ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ أبْلَغُ لَفْظَةٍ لِلْعَرَبِ في مَعْنى التَعْظِيمِ والإجْلالِ، ثُمَّ أكَّدَها بِالمَصْدَرِ تَحْقِيقًا لَها، وإبْلاغًا في مَعْناها.
(p-٥٦٠)وَرَوى مُطْرِفٌ عن عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ قالَ: "افْتُتِحَتِ التَوْراةُ بِفاتِحَةِ سُورَةِ الأنْعامِ، وخُتِمَتْ بِخاتِمَةِ هَذِهِ السُورَةِ".
نَجُزَ تَفْسِيرُ سُورَةِ الإسْراءِ ولِلَّهِ الحَمْدُ والمِنَّةُ وصَلّى اللهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعَلى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ
{"ayahs_start":109,"ayahs":["وَیَخِرُّونَ لِلۡأَذۡقَانِ یَبۡكُونَ وَیَزِیدُهُمۡ خُشُوعࣰا ۩","قُلِ ٱدۡعُوا۟ ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُوا۟ ٱلرَّحۡمَـٰنَۖ أَیࣰّا مَّا تَدۡعُوا۟ فَلَهُ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا وَٱبۡتَغِ بَیۡنَ ذَ ٰلِكَ سَبِیلࣰا","وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی لَمۡ یَتَّخِذۡ وَلَدࣰا وَلَمۡ یَكُن لَّهُۥ شَرِیكࣱ فِی ٱلۡمُلۡكِ وَلَمۡ یَكُن لَّهُۥ وَلِیࣱّ مِّنَ ٱلذُّلِّۖ وَكَبِّرۡهُ تَكۡبِیرَۢا"],"ayah":"وَیَخِرُّونَ لِلۡأَذۡقَانِ یَبۡكُونَ وَیَزِیدُهُمۡ خُشُوعࣰا ۩"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق