الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَبِالحَقِّ أنْزَلْناهُ وبِالحَقِّ نَزَلَ وما أرْسَلْناكَ إلا مُبَشِّرًا ونَذِيرًا﴾ ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأهُ عَلى الناسِ عَلى مُكْثٍ ونَزَّلْناهُ تَنْزِيلا﴾ ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أو لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقانِ سُجَّدًا﴾ ﴿وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إنْ كانَ وعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولا﴾
الضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: "أنْزَلْناهُ" عائِدٌ عَلى القُرْآنِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الإسراء: ٨٩]، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ آنِفًا، وأشارَ (p-٥٥٥)بِالضَمِيرِ إلى القُرْآنِ عَلى ذِكْرٍ مُتَقَدِّمٍ لِشُهْرَتِهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ [ص: ٣٢]، وهَذا كَثِيرٌ.
قالَ الزَهْراوِيُّ: مَعْناهُ: بِالواجِبِ الَّذِي هو المَصْلَحَةُ والسَدادُ لِلنّاسِ بِالحَقِّ في نَفْسِهِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وَبِالحَقِّ نَزَلَ﴾ يُرِيدُ: بِالحَقِّ في أوامِرِهِ ونَواهِيهِ وأخْبارِهِ، فَبِهَذا التَأْوِيلِ يَكُونُ تَكْرارُ اللَفْظِ لِمَعْنًى غَيْرِ الأوَّلِ، وذَهَبَ الطَبَرِيٌّ إلى أنَّهُما بِمَعْنًى واحِدٍ، أيْ: بِأخْبارِهِ وأوامِرِهِ، وبِذَلِكَ نَزَلَ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "وَقُرْآنًا". مَذْهَبُ سِيبَوَيْهَ أنَّ نَصْبَهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظاهِرُ بَعْدُ، أيْ: وفَرَقْنا قُرْآنًا، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى الكافِ في "أرْسَلْناكَ"، مِن حَيْثُ كانَ إرْسالُ هَذا وإنْزالُ هَذا لِمَعْنًى واحِدٍ.
وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "فَرَقْناهُ" بِتَخْفِيفِ الراءِ، ومَعْناهُ: بَيَّنّاهُ وأوضَحْناهُ وجَعَلْناهُ فُرْقانًا. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، والشَعْبِيُّ، والحَسَنُ بِخِلافٍ - وحَمِيدٌ، وعَمْرُو بْنُ فائِدٍ: "فَرَّقْناهُ" بِتَشْدِيدِ الراءِ، إلّا أنَّ في قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "فَرَّقْناهُ عَلَيْهِ لِتَقْرَأهُ"، أيْ: أنْزَلْناهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، لا جُمْلَةً واحِدَةً، ويَتَناسَقُ هَذا المَعْنى مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِتَقْرَأهُ عَلى الناسِ عَلى مُكْثٍ﴾، وهَذا كانَ مِمّا أرادَ اللهُ مِن نُزُولِهِ بِأسْبابٍ تَقَعُ في الأرْضِ مِن أقْوالٍ وأفْعالٍ في أزْمانٍ مَحْدُودَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ، في كَمِّ القُرْآنِ مِنَ المُدَّةِ؟ فَقِيلَ: في خَمْسٍ وعِشْرِينَ سَنَةً، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: في ثَلاثٍ وعِشْرِينَ، وقالَ قَتادَةُ: في عِشْرِينَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا بِحَسْبِ الخِلافِ في سِنِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وذَلِكَ أنَّ الوَحْيَ جاءَ وهو ابْنُ أرْبَعِينَ سَنَةً، وتَمَّ بِمَوْتِهِ. وحَكى الطَبَرِيٌّ عَنِ الحَسَنِ البَصَرِيِّ أنَّهُ قالَ: نَزَلَ القُرْآنُ في ثَمانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا قَوْلٌ مُخْتَلٌّ: لا يَصِحُّ عَنِ الحَسَنِ، واللهُ أعْلَمُ.
(p-٥٥٦)وَتُأوِّلُ فِرْقَةٌ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿عَلى مُكْثٍ﴾، أيْ: عَلى تَرَسُّلٍ في التِلاوَةِ وتَرْتِيلٍ، هَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ وابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ جُرَيْجٍ، وابْنِ زَيْدٍ. والتَأْوِيلُ الآخَرُ، أيْ: عَلى مُكْثٍ وتَطاوُلٍ في المُدَّةِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلا﴾ مُبالَغَةٌ وتَأْكِيدٌ بِالمَصْدَرِ لِلْمَعْنى المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ في ألْفاظِ الآيَةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وأجْمَعَ القُرّاءُ عَلى ضَمِّ المِيمِ مِن "مُكْثٍ"، ويُقالُ: "مَكْثٌ" و"مُكْثٌ" بِضَمِّ المِيمِ، ومِكْثٌ بِكَسْرِها.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ﴾ الآيَةَ. هَذِهِ آيَةُ تَحْقِيرٍ لِلْكُفّارِ، وفي ضِمْنِهِ ضَرْبٌ مِنَ التَوَعُّدِ، والمَعْنى: إنَّكم لَسْتُمْ بِحُجَّةٍ، فَسَواءٌ عَلَيْنا آمَنتُمْ أمْ كَفَرْتُمْ، وإنَّما ضَرَرُ ذَلِكَ عَلى أنْفُسِكُمْ، وإنَّما الحُجَّةُ أهْلُ العِلْمِ مِن قَبْلِهِ، هم بِالصِفَةِ المَذْكُورَةِ.
واخْتَلَفَ الناسُ في المُرادِ بِـ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ﴾ -فَقالَتْ فِرْقَةٌ: هم مُؤْمِنُو أهْلِ الكِتابِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هم ورَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وزَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، ومَن جَرى مَجْراهُما، وقِيلَ: إنَّ جَماعَةً مِن أهْلِ الكِتابِ جَلَسُوا وهم عَلى دِينِهِمْ فَتَذاكَرُوا أمْرَ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ وما أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وقُرِئَ عَلَيْهِمْ مِنهُ شَيْءٌ فَخَشَعُوا وسَبَّحُوا لِلَّهِ وسَجَدُوا لَهُ، وقالُوا: هَذا وقْتُ نُبُوَّةِ المَذْكُورِ في التَوْراةِ، وهَذِهِ صِفَتُهُ، ووَعْدُ اللهِ بِهِ واقِعٌ لا مَحالَةَ، وجَنَحُوا إلى الإسْلامِ هَذا الجُنُوحَ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ فِيهِمْ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: المُرادُ بِـ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ﴾ مُحَمَّدٌ ﷺ، والضَمِيرُ في "قَبْلِهِ" عائِدٌ عَلى القُرْآنِ، حَسَبَ الضَمِيرِ في "بِهِ"، ويُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿إذا يُتْلى عَلَيْهِمْ﴾. وقِيلَ: الضَمِيرانِ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، واسْتَأْنَفَ ذِكْرَ القُرْآنِ في قَوْلِهِ: ﴿إذا يُتْلى عَلَيْهِمْ﴾.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَخِرُّونَ لِلأذْقانِ﴾، أيْ: لِناحِيَتِها، وهَذا كَما تَقُولُ: ساقِطٌ لِلْيَدِ والفَمِ، أيْ: لِناحِيَتِهِما وعَلَيْهِما، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: المَعْنى: لِلْوُجُوهِ، وقالَ الحَسَنُ: لِلِّحى.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
والأذْقانُ أسافِلُ الوُجُوهِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ اللَحْيانِ، وهي أقْرَبُ ما في رَأْسِ الإنْسانِ إلى الأرْضِ لا سِيَّما عِنْدَ سُجُودِهِ، وقالَ الشاعِرُ:(p-٥٥٧)
؎ فَخَرُّوا لِأذْقانِ الوُجُوهِ تَنُوشُهم ∗∗∗ سِباعٌ مِنَ الطَيْرِ العَوادِي وتَنْتِفُ
و"إنْ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ كانَ وعْدُ رَبِّنا﴾ هي عِنْدَ سِيبَوَيْهَ المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَقِيلَةِ. واللامُ بَعْدَها لامُ التَوْكِيدِ، وهي عِنْدَ الفَرّاءِ النافِيَةُ واللامُ بِمَعْنى: إلّا. ويَتَوَجَّهُ في هَذِهِ الآيَةِ مَعْنًى آخَرُ، وهو أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أو لا تُؤْمِنُوا﴾ مُخَلِّصًا لِلْوَعِيدِ دُونَ التَحْقِيرِ. والمَعْنى: فَسَتَرَوْنَ ما تُجازَوْنَ بِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمُ المَثَلَ -عَلى جِهَةِ التَقْرِيعِ- بِمَن تَقَدَّمُ مِن أهْلِ الكِتابِ، أيْ: إنَّ الناسَ لَمْ يَكُونُوا كَما أنْتُمْ في الكُفْرِ، بَلْ كانَ الَّذِينَ أُوتُوا التَوْراةَ والإنْجِيلَ والزَبُورَ والكُتُبَ المُنَزَّلَةَ في الجُمْلَةِ إذا يُتْلى عَلَيْهِمْ ما نَزَّلْ عَلَيْهِمْ خَشَعُوا وآمَنُوا.
{"ayahs_start":105,"ayahs":["وَبِٱلۡحَقِّ أَنزَلۡنَـٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا مُبَشِّرࣰا وَنَذِیرࣰا","وَقُرۡءَانࣰا فَرَقۡنَـٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثࣲ وَنَزَّلۡنَـٰهُ تَنزِیلࣰا","قُلۡ ءَامِنُوا۟ بِهِۦۤ أَوۡ لَا تُؤۡمِنُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهِۦۤ إِذَا یُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡ یَخِرُّونَ لِلۡأَذۡقَانِ سُجَّدࣰا","وَیَقُولُونَ سُبۡحَـٰنَ رَبِّنَاۤ إِن كَانَ وَعۡدُ رَبِّنَا لَمَفۡعُولࣰا"],"ayah":"وَقُرۡءَانࣰا فَرَقۡنَـٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثࣲ وَنَزَّلۡنَـٰهُ تَنزِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق