الباحث القرآني

(p-٥٤٩)قوله عزّ وجلّ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَماواتِ والأرْضَ قادِرٌ عَلى أنَّ يَخْلُقَ مِثْلَهم وجَعَلَ لَهم أجَلا لا رَيْبَ فِيهِ فَأبى الظالِمُونَ إلا كُفُورًا﴾ ﴿قُلْ لَوْ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفاقِ وكانَ الإنْسانُ قَتُورًا﴾ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فاسْألْ بَنِي إسْرائِيلَ إذْ جاءَهم فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي لأظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُورًا﴾ هَذِهِ الآيَةُ احْتِجاجٌ عَلَيْهِمْ فِيما اسْتَبْعَدُوهُ مِنَ البَعْثِ، وذَلِكَ أنَّهم قَرَّرُوا عَلى خَلْقِ اللهِ تَعالى واخْتِراعِهِ لِهَذِهِ الجُمْلَةِ الَّتِي البَشَرُ جُزْءٌ مِنها، فَهم لا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ لَهم أنْ يُقِرُّوا بِخَلْقِهِ لِلْكُلِّ وإخْراجِهِ مِن خُمُولِ العَدَمِ ويُنْكِرُونَ إعادَتَهُ لِلْبَعْضِ؟ فَحَصَلَ الأمْرُ في حَيِّزِ الجَوازِ. وأخْبَرَ الصادِقُ الَّذِي قامَتْ دَلائِلُ مُعْجِزاتِهِ بِوُقُوعِ ذَلِكَ الجائِزِ. والرُؤْيَةُ في هَذِهِ الآيَةِ رُؤْيَةُ القَلْبِ، و"الأجَلُ" ها هُنا يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ القِيامَةَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ أجْلَ المَوْتِ، والأجْلُ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- اسْمُ جِنْسٍ؛ لِأنَّهُ وضَعَهُ مَوْضِعَ الآجالِ. ومَقْصِدُ هَذا الكَلامِ بَيانُ قُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ومُلْكِهِ لِخَلْقِهِ، وبِتَقْرِيرِ ذَلِكَ يَقْوى جَوازُ بَعَثِهِ لَهم حِينَ يَشاءُ لا إلَهَ إلّا هو. وقَوْلُهُ تَعالى: "فَأبى" عِبارَةٌ عن تَكَسُّبِهِمْ وجُنُوحِهِمْ، وقَدْ مَضى تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ آنِفًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لَوْ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ﴾ الآيَةَ. حُكْمُ "لَوْ" أنْ يَلِيَها الفِعْلُ، إمّا مُظْهَرًا وإمّا مُضْمَرًا يُفَسِّرُهُ الظاهِرُ بَعْدَ ذَلِكَ، فالتَقْدِيرُ هُنا: قُلْ لَوْ تَمْلِكُونَ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ، فَـ "أنْتُمْ" رُفِعَ عَلى تَبَعِ الضَمِيرِ، و"الرَحْمَةُ" في هَذِهِ الآيَةِ: المالُ والنِعَمُ الَّتِي تُصْرَفُ في الأرْزاقِ، ومِن هَذا سُمِّيَتْ رَحْمَةٌ. و"الإنْفاقُ" المَعْرُوفُ: إذْهابُ المالِ. وهو مُؤَدٍّ إلى الفَقْرِ، فَكَأنَّ المَعْنى: خَشْيَةَ عاقِبَةِ الإنْفاقِ. وقالَ بَعْضُ اللُغَوِيِّينَ: "أنْفَقَ الرَجُلُ" مَعْناهُ: افْتَقَرَ. (p-٥٥٠)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكانَ الإنْسانُ قَتُورًا﴾ مَعْناهُ: مُمْسِكًا، يُرِيدُ أنَّ في طَبْعِهِ ومُنْتَهى نَظَرِهِ أنَّ الأشْياءَ تَتَناهى وتَفْنى، فَهو لَوْ مَلَكَ خَزائِنَ رَحْمَةِ اللهِ لَأمْسَكَ خَشْيَةَ الفَقْرِ، وكَذَلِكَ يَظُنُّ أنَّ قُدْرَةَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى تَقِفُ دُونَ البَعْثِ، والأمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قُدْرَتُهُ لا تَتَناهى، فَهو يَخْتَرِعُ مِنَ الخَلْقِ ما يَشاءُ، ويَخْتَزِنُ مِنَ الرَحْمَةِ الأرْزاقَ، فَلا يَخافُ نَفاذَ خَزائِنِ رَحْمَتِهِ، وبِهَذا النَظَرِ تَلْتَبِسُ هَذِهِ الآيَةُ بِما قَبِلَها، واللهُ ولِيُّ التَوْفِيقِ بِرَحْمَتِهِ، ومِنَ الإقْتارِ قَوْلُ أبِي داوُدَ: ؎ لا أعُدُّ الإقْتارَ عُدْمًا ولَكِنْ ∗∗∗ فَقْدُ مَن قَدْ رُزِئْتُهُ الإعْدامُ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾. اتَّفَقَ المُتَأوِّلُونَ والرُواةُ أنَّ الآياتِ الخَمْسَ الَّتِي في سُورَةِ الأعْرافِ هي مِن هَذِهِ التِسْعِ، وهِيَ: الطُوفانُ، والجَرادُ، والقُمَّلُ، والضَفادِعُ، والدَمُ. واخْتَلَفُوا في الأرْبَعِ -فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هي يَدُهُ، ولِسانُهُ حِينَ انْحَلَّتْ عُقْدَتُهُ، وعَصاهُ، والبَحْرُ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: هِيَ: البَحْرُ، والعَصا، والطَمْسَةُ، والحَجَرُ، وقالَ: سَألَنِي عن ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عنهُ فَأخْبَرْتُهُ، فَقالَ: وما الطَمْسَةُ؟ فَقُلْتُ: دَعا مُوسى وأمَّنَ هارُونُ عَلَيْهِما السَلامُ، فَطَمَسَ اللهُ أمْوالَهم ورَدَّها حِجارَةً. فَقالَ عُمَرُ: وهَلْ يَكُونُ الفِقْهُ إلّا هَكَذا؟ ثُمَّ دَعا بِخَرِيطَةٍ فِيها غَرائِبُ كانَتْ لِعَبْدِ العَزِيزِ بْنِ مَرْوانٍ جَمَعَها بِمِصْرَ، فاسْتَخْرَجَ مِنها الحَوْزَةَ والبَيْضَةَ والعَدَسَةَ، وهي كُلُّها أحْجارٌ كانَتْ مِن بَقايا أمْوالِ فِرْعَوْنَ، وقالَ الضَحّاكُ: هي إلْقاءُ العَصا مَرَّتَيْنِ، واليَدُ، وعُقْدَةُ لِسانِهِ. وقالَ عِكْرِمَةُ، ومَطَرٌ الوَرّاقُ، والشَعْبِيُّ: هي العَصا، واليَدُ، والسُنُونَ، ونَقْصُ الثَمَراتِ. وقالَ الحَسَنُ: هي العَصا في كَوْنِها ثُعْبانًا، واليَدُ، والسُنُونَ، وتَلْقَفُ العَصا ما يَأْفِكُونَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هي السُنُونَ في بَوادِيهِمْ، ونَقْصُ الثَمَراتِ في قُراهُمْ، (p-٥٥١)واليَدِ، والعَصا. ورَوى مَصْرِفٌ عن مالِكٍ أنَّها العَصا، واليَدُ، والجَبَلُ إذْ نَتَقَ، والبَحْرُ. ورَوى ابْنُ وهْبٍ عنهُ مَكانُ البَحْرِ الحَجَرُ، والَّذِي يَلْزَمُ مِنَ الآيَةِ أنَّ اللهَ تَعالى خَصَّ مِن آياتِ مُوسى -إذْ هي كَثِيرَةٌ جِدًّا تَنِيفُ عَلى أرْبَعٍ وعِشْرِينَ- تِسْعًا بِالذِكْرِ، ووَصَفَها بِالبَيانِ ولَمْ يُعَيِّنْها، واخْتَلَفَ العُلَماءُ في تَعْيِينِها بِحَسْبَ اجْتِهادِهِمْ في بَيانِها، أو رِواياتِهِمُ التَوْقِيفِيَّةِ في ذَلِكَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: آياتُ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ إنَّما أُرِيدَ بِها آياتُ التَوْراةِ الَّتِي هي أوامِرُ ونَواهٍ، ورَوى في هَذا صَفْوانُ بْنُ عَسّالٍ «أنْ يَهُودِيًّا مِن يَهُودِ المَدِينَةِ قالَ لِآخَرَ: سِرْ بِنا إلى هَذا النَبِيِّ نَسْألُهُ عن آياتِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ-، فَقالَ لَهُ الآخَرُ: لا تَقُلْ إنَّهُ نَبِيٌّ، فَإنَّهُ لَوْ سَمِعَكَ صارَ لَهُ أرْبَعَةُ أعْيُنٍ، قالَ: فَسارا إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ: فَسَألُوهُ، فَقالَ: هي ألّا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، ولا تَسْرِقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلُوا النَفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلّا بِالحَقِّ، ولا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إلى سُلْطانٍ لِيَقْتُلَهُ، ولا تَسْخَرُوا، ولا تَأْكُلُوا الرِبا، ولا تَقْذِفُوا المُحْصَنَةَ، ولا تَفِرُّوا يَوْمَ الزَحْفِ، وعَلَيْكم خاصَّةٌ يَهُودٌ: ولا تَعُدُوا في السَبْتِ.» وقَرَأ الجُمْهُورُ: "فاسْألْ بَنِي إسْرائِيلَ، ورُوِيَ عَنِ الكِسائِيِّ: "فَسَلْ" عَلى لُغَةِ مَن قالَ: "سَألَ يَسْألُ"، وهَذا كُلُّهُ عَلى مَعْنى الأمْرِ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، أيِ: اسْألْ مُعاصِرِيكَ عَمّا أعْلَمْناكَ بِهِ مِن غَيْبِ القِصَّةِ، ثُمَّ قالَ: ﴿إذْ جاءَهُمُ﴾ [الإسراء: ٩٤]، يُرِيدُ: آباءَهُمْ، وأدْخَلَهم في الضَمِيرِ إذْ هم مِنهُمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: "فاسْألْ بَنِي إسْرائِيلَ الأوَّلِينَ الَّذِينَ جاءَهم مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، وتَكُونُ إحالَتُهُ إيّاهُ عَلى سُؤالِهِمْ بِطَلَبِ إخْبارِهِمْ والنَظَرِ في أحْوالِهِمْ وما في كُتُبِهِمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا مَن قَبْلِكَ مَن رُسُلِنا﴾ [الزخرف: ٤٥]، وهَذا كَما تَقُولُ لِمَن تَعِظُهُ: سَلِ الأُمَمَ الخالِيَةَ هَلْ بَقِيَ مِنها مُخَلَّدٌ؟ ونَحْوَ هَذا مِمّا يُجْعَلُ النَظَرُ فِيهِ (p-٥٥٢)مَكانَ السُؤالِ. قالَ الحَسَنُ: سُؤالُكَ نَظَرُكَ في القُرْآنِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "فَسَألَ بَنِي إسْرائِيلَ، أيْ: سَألَ مُوسى فِرْعَوْنَ بَنِي إسْرائِيلَ أيْ طَلَبَهم لِيُنْجِيَهم مِنَ العَذابِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "مَسْحُورًا"، اخْتَلَفَ فِيهِ المُتَأوِّلُونَ -فَقالَتْ فِرْقَةٌ: هو مَفْعُولٌ عَلى بابِهِ، أيْ: إنَّكَ قَدْ سُحِرْتَ فَكَلامُكَ مُخْتَلٌّ وما تَأْتِي بِهِ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ. وقالَ الطَبَرِيٌّ: هو مَفْعُولٌ بِمَعْنى فاعِلٍ، كَما قالَ تَعالى: ﴿حِجابًا مَسْتُورًا﴾ [الإسراء: ٤٥]، وكَما قالُوا: مَشْؤُومٌ ومَيْمُونٌ، وإنَّما هُوَ: شايِمٌ ويامِنٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا لا يَتَخَرَّجُ إلّا عَلى النَسَبِ، أيْ: ذا سِحْرٍ مَلَكْتَهُ وعَلِمْتَهُ، فَأنْتَ تَأْتِي بِهَذِهِ الغَرائِبِ لِذَلِكَ. وهَذِهِ مُخاطَبَةٌ تَنْقُصُ، فَيَسْتَقِيمُ أنْ يَكُونَ "مَسْحُورًا" مَفْعُولًا عَلى ظاهِرِهِ، وعَلى أنْ يَكُونَ بِمَعْنى: ساحِرٌ يُعارِضُنا، "أمّا" ما حُكِيَ عنهم أنَّهم قالُوا لَهُ -عَلى جِهَةِ المَدْحِ-: ﴿يا أيُّهَ الساحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ﴾ [الزخرف: ٤٩] فَإمّا أنْ يَكُونَ القائِلُونَ هُنالِكَ لَيْسَ فِيهِمْ فِرْعَوْنُ، وإمّا أنْ يَكُونَ فِيهِمْ لَكِنَّهُ تَنَقُّلٌ مَن تَنَقُّصِهِ إلى تَعْظِيمِهِ. وفي هَذا نَظَرٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب