الباحث القرآني
(p-٣٩٢)قوله عزّ وجلّ:
﴿واللهُ جَعَلَ لَكم مِن بُيُوتِكم سَكَنًا وجَعَلَ لَكم مِن جُلُودِ الأنْعامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكم ويَوْمَ إقامَتِكم ومِن أصْوافِها وأوبارِها وأشْعارِها أثاثًا ومَتاعًا إلى حِينٍ﴾ ﴿واللهُ جَعَلَ لَكم مِمّا خَلَقَ ظِلالا وجَعَلَ لَكم مِنَ الجِبالِ أكْنانًا وجَعَلَ لَكم سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وسَرابِيلَ تَقِيكُمُ بَأْسَكم كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكم لَعَلَّكم تُسْلِمُونَ﴾
هَذِهِ آيَةُ تَعْدِيدِ نِعْمَةِ اللهِ عَلى الناسِ في البُيُوتِ، فَذَكَرَ أوَّلًا بُيُوتَ التَمَدُّنَ وهي الَّتِي لِلْإقامَةِ الطَوِيلَةِ، وهي عُظْمُ بُيُوتِ الإنْسانِ، وإنْ كانَ الوَصْفُ بِالسَكَنِ يَعُمُّ جَمِيعَ البُيُوتِ، و"السَكَنُ" مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ الواحِدُ، ومَعْناهُ: يَسْكُنُ فِيها وإلَيْها، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى بُيُوتَ النَقْلَةِ والرِحْلَةِ.
وقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلَ لَكم مِن جُلُودِ الأنْعامِ بُيُوتًا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَعُمَّ بِهِ بُيُوتَ الأُدُمِ وبُيُوتَ الشَعْرِ وبُيُوتِ الصُوفِ" لِأنَّ هَذِهِ هي مِنَ الجُلُودِ لِكَوْنِها ثابِتَةً فِيها، نَحا إلى ذَلِكَ ابْنُ سَلامٍ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿وَمِن أصْوافِها﴾ ابْتِداءُ كَلامٍ، كَأنَّهُ قالَ: "جَعَلَ أثاثًا"، يُرِيدُ المَلابِسَ والوَطاءَ وغَيْرَ ذَلِكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن جُلُودِ الأنْعامِ﴾ بُيُوتَ الأُدُمِ فَقَطْ، ويَكُونُ ﴿وَمِن أصْوافِها﴾ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿مِن جُلُودِ الأنْعامِ﴾، أيْ: جَعَلَ بُيُوتًا أيْضًا، ويَكُونُ قَوْلُهُ: "أثاثًا" نَصْبًا عَلى الحالِ، و"تَسْتَخِفُّونَها" أيْ تَجِدُونَها خِفافًا، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرُو: "ظَعَنِكُمْ" بِفَتْحِ العَيْنِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسّائِيُّ بِسُكُونِ العَيْنِ، وهُما لُغَتانِ ولَيْسَ بِتَخْفِيفٍ، و"ظَعَنَ" مَعْناهُ رَحَلَ، والأصْوافُ لِلْغَنَمِ، والأوبارُ لِلْإبِلِ، والأشْعارُ لِلْمَعْزِ والبَقَرِ، ولَمْ تَكُنْ بِلادُهم بِلادَ قُطْنٍ وكَتّانٍ، ولِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلى هَذا، ويُحْتَمَلُ أنْ تُرِكَ ذِكْرُ القُطْنِ والحَرِيرِ والكَتّانِ إعْراضًا عَنِ السَرَفِ؛ إذْ مَلْبَسُ عِبادِ اللهِ الصالِحِينَ إنَّما هو الصُوفُ، وأيْضًا فَقَدْ أُشِيرُ إلى القُطْنِ والكَتّانِ في لَفْظَةِ السَرابِيلِ. و"الأثاثُ": مَتاعُ البَيْتِ، واحِدُها أثاثَةٌ، هَذا قَوْلُ أبِي زَيْدٍ الأنْصارِيِّ، وقالَ غَيْرُهُ: الأثاثُ: جَمِيعُ أنْواعِ المالِ، ولا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
والِاشْتِقاقُ يُقَوِّي هَذا المَعْنى الأعَمُّ؛ لِأنَّ حالَ الإنْسانِ تَكُونُ بِالمالِ أثِيثَةً، تَقُولُ: "شَعْرٌ أثِيثٌ، ونَباتٌ أثِيثٌ" إذا كَثُرَ والتَفَّ. وقَوْلُهُ: ﴿إلى حِينٍ﴾ يُرِيدُ بِهِ وقْتًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وهو بِحَسَبِ كُلِّ إنْسانٍ، إمّا بِمَوْتِهِ، وإمّا بِفَقْدِ تِلْكَ الأشْياءِ الَّتِي هي أثاثٌ، (p-٣٩٣)وَمِن هَذِهِ اللَفْظَةِ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ أهاجَتْكَ الظَعائِنُ يَوْمَ بانُوا ∗∗∗ بِذِي الزِيِّ الجَمِيلِ مِنَ الأثاثِ؟
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللهُ جَعَلَ لَكم مِمّا خَلَقَ ظِلالا﴾ الآيَةُ. نِعَمٌ عَدَّدَها عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ أحْوالِهِمْ وبِلادِهِمْ، وأنَّها الأشْياءُ المُباشِرَةُ لَهُمْ؛ لِأنَّ بِلادَهم مِنَ الحَرارَةِ وصِهْرِ الشَمْسِ بِحَيْثُ لِلظِّلِّ غِنًى عَظِيمٌ ونَفْعٌ ظاهِرٌ. وقَوْلُهُ: ﴿مِمّا خَلَقَ﴾ يَعُمُّ جَمِيعَ الأشْخاصِ المُظَلَّلَةِ. و"الأكْنانُ": جَمْعُ كِنٍّ، وهو الحافِظُ مِنَ المَطَرِ والرِيحِ وغَيْرِ ذَلِكَ. و"السَرابِيلُ": جَمِيعُ ما يُلْبَسُ عَلى جَمِيعِ البَدَنِ كالقَمِيصِ والقَرْقَلِ، والمُجُولِ والدِرْعِ والجَوْشَنِ والحِفَّتانِ ونَحْوَهُ. وذَكَرَ وِقايَةَ الحُرِّ إذا هو أمْسُ في تِلْكَ البِلادِ عَلى ما ذَكَرْنا، والبَرْدُ فِيها مَعْدُومٌ في الأكْثَرِ، وإذا جاءَ في الشَتَواتِ فَإنَّما يَتَوَقّى بِما هو أكْثَفُ مِنَ السِرْبالِ مِنَ الأثاثِ المُتَقَدِّمِ الذِكْرِ، فَبَقِيَ السَرابِيلُ لِتُوقِيَ الحُرَّ فَقَطْ، قالَهُ الطَبَرِيُّ عن عَطاءٍ الخُراسانِيِّ، ألّا تَرى أنَّ اللهَ تَعالى قَدْ نَبَّهَهم إلى العِبْرَةِ في البَرْدِ ولَمْ يَذْكُرْ لَهُمُ الثَلْجَ لِأنَّهُ لَيْسَ في بِلادِهِمْ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: إنِ الثَلْجَ شَيْءٌ أبْيَضٌ يَنْزِلُ مِنَ السَماءِ ما رَأيْتُهُ قَطُّ، وأيْضًا فَذِكْرُ أحَدُهُما يَدُلُّ عَلى الآخَرِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ وما أدْرِي إذا يَمَّمَتُ أرْضًا ∗∗∗ ∗∗∗ أُرِيدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِينِي؟
(p-٣٩٤)وَهَذِهِ الَّتِي ذَكَرْناها هي بِلادُ الحِجازِ، وإلّا فَفي بِلادِ العَرَبِ ما فِيهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ، ومِنهُ قَوْلُ مُتَمِّمٍ:
؎ إذِ القَشْعُ مِن بَرْدِ الشِتاءِ تَقَعْقَعا.
ومِنهُ قَوْلُ الآخَرِ:
؎ في لَيْلَةٍ مِن جُمادى ذاتِ أنْدِيَةٍ.
البَيْتَيْنِ، وغَيْرِ هَذا، والسَرابِيلُ الَّتِي تَقِي البَأْسَ هي الدِرْعُ، ومِنهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
؎ شُمُّ العَرانِينِ أبْطالٌ لَبُوسُهم ∗∗∗ ∗∗∗ مَن نَسْجِ داوُدَ في الهَيْجا سَرابِيلُ
(p-٣٩٥)وَقالَ أوسُ بْنُ حَجَرٍ:
؎ ولَنِعْمَ حَشْوُ الدِرْعِ والسِرْبالِ.
فَهَذا يُرادُ بِهِ القَمِيصُ:
و"البَأْسُ": مَسُّ الحَدِيدِ في الحَرْبِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يُتِمُّ نِعْمَتَهُ"، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: "تَتِمُّ نِعْمَتُهُ"، عَلى أنَّ النِعْمَةَ هي الَّتِي تَتِمُّ، رُوِيَ عنهُ "تَتِمُّ نِعَمُهُ" عَلى الجَمْعِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "تُسْلِمُونَ" مِنَ الإسْلامِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "تَسْلَمُونَ" مِنَ السَلامَةِ، فَتَكُونُ اللَفْظَةُ مَخْصُوصَةً في بَأْسِ الحَرْبِ، وما في "لَعَلَّ" مِنَ التَرَجِّي والتَوَقُّعِ فَهو في حَيِّزِ البَشَرِ المُخاطِبِينَ، أيْ: لَوْ نَظَرَ الناظِرُ هَذِهِ الحالَ لَتَرَجّى مِنها إسْلامَهم.
{"ayahs_start":80,"ayahs":["وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۢ بُیُوتِكُمۡ سَكَنࣰا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ بُیُوتࣰا تَسۡتَخِفُّونَهَا یَوۡمَ ظَعۡنِكُمۡ وَیَوۡمَ إِقَامَتِكُمۡ وَمِنۡ أَصۡوَافِهَا وَأَوۡبَارِهَا وَأَشۡعَارِهَاۤ أَثَـٰثࣰا وَمَتَـٰعًا إِلَىٰ حِینࣲ","وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَـٰلࣰا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡجِبَالِ أَكۡنَـٰنࣰا وَجَعَلَ لَكُمۡ سَرَ ٰبِیلَ تَقِیكُمُ ٱلۡحَرَّ وَسَرَ ٰبِیلَ تَقِیكُم بَأۡسَكُمۡۚ كَذَ ٰلِكَ یُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡلِمُونَ"],"ayah":"وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَـٰلࣰا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡجِبَالِ أَكۡنَـٰنࣰا وَجَعَلَ لَكُمۡ سَرَ ٰبِیلَ تَقِیكُمُ ٱلۡحَرَّ وَسَرَ ٰبِیلَ تَقِیكُم بَأۡسَكُمۡۚ كَذَ ٰلِكَ یُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡلِمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق