الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهم رِزْقًا مِن السَماواتِ والأرْضِ شَيْئًا ولا يَسْتَطِيعُونَ﴾ ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ إنَّ اللهَ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ومَن رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقًا حَسَنًا فَهو يُنْفِقُ مِنهُ سِرًّا وجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ هَذِهِ آيَةُ تَقْرِيعٍ لِلْكُفّارِ وتَوْبِيخٍ، وإظْهارٌ لِفَسادِ نَظَرِهِمْ، ووَضْعٌ لَهم مِنَ الأصْنامِ في الجِهَةِ الَّتِي فِيها سَعْيُ الناسِ وإلَيْها مَهامُّهُمْ، وهي طَلَبُ الرِزْقِ، وهَذِهِ الأصْنامُ لا تَمْلِكُ إنْزالَ المَطَرِ ولا إنْباتَ نِعْمَةٍ، مَعَ أنَّها لا تَمْلِكُ ولا تَسْتَطِيعُ أنْ تُحاوِلَ ذَلِكَ مِن مُلْكِ اللهِ تَعالى. وقَوْلُهُ: "رِزْقًا" مَصْدَرٌ، ونَصَبَهُ عَلى المَفْعُولِ بِـ "يُمْلِكُ". وقَوْلُهُ: "شَيْئًا" ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ النَحْوِيِّينَ إلى أنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى البَدَلِ، مِن قَوْلِهِ: "رِزْقًا" و"رِزْقًا" اسْمٌ، وذَهَبُ الكُوفِيُّونَ - وأبُو عَلِيٍّ مَعَهُمْ- إلى أنَّهُ مَنصُوبٌ بِالمَصْدَرِ (p-٣٨٦)فِي قَوْلِهِ: "رِزْقًا"، ولا نُقَدِّرُهُ اسْمًا، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفاتًا﴾ [المرسلات: ٢٥] ﴿أحْياءً وأمْواتًا﴾ [المرسلات: ٢٦]، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿أو إطْعامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ [البلد: ١٤] ﴿يَتِيمًا﴾ [البلد: ١٥] فَنَصَبَ "يَتِيمًا" بِـ "إطْعامٌ"، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ فَلَوْلا رَجاءُ النَصْرِ مِنكَ ورَهْبَةٌ ∗∗∗ عِقابَكَ قَدْ صارُوا لَنا كالمَوارِدِ والمَصْدَرُ يَعْمَلُ مُضافًا بِاتِّفاقٍ؛ لِأنَّهُ في تَقْدِيرِ الِانْفِصالِ، ولا يَعْمَلُ إذا دَخَلَهُ الألِفُ واللامُ؛ لِأنَّهُ قَدْ تَوَغَّلَ في حالِ الأسْماءِ وبَعُدَ عن حالِ الفِعْلِيَّةِ، وتَقْدِيرُ الِانْفِصالِ في الإضافَةِ حَسَّنَ عَمَلَهُ، وقَدْ جاءَ عامِلًا مَعَ الألِفِ واللامِ في قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ ضَعِيفُ النِكايَةِ أعْداءَهُ وقَوْلُهُ: ؎ عَنِ الضَرْبِ مِسْمَعًا (p-٣٨٧)وَقَوْلُهُ تَعالى: "يَمْلِكُ" عَلى لَفْظِ "ما"، وقَوْلُهُ: "يَسْتَطِيعُونَ" عَلى مَعْناها بِحَسَبِ اعْتِقادِ الكُفّارِ في الأصْنامِ أنَّها تَعْقِلُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَمِيرُ في "يَسْتَطِيعُونَ" لِلَّذِينِ يَعْبُدُونَ، والمَعْنى: لا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ بِبُرْهانٍ يُظْهِرُونَهُ وحُجَّةٍ يُبَيِّنُونَها. وقَوْلُهُ: ﴿فَلا تَضْرِبُوا﴾ أيْ: لا تُمَثِّلُوا لِلَّهِ الأمْثالَ، وهو مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِكَ: "ضَرِيبُ هَذا" أيْ مَثِيلُهُ، والضَرْبُ: النَوْعُ، تَقُولُ: الحَيَوانُ عَلى ضُرُوبٍ، وهَذانَ مِن ضَرْبٍ واحِدٍ، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلا﴾ الآيَةُ. الَّذِي هو مِثالٌ في هَذِهِ الآيَةِ هو عَبْدٌ بِهَذِهِ الصِفَةِ مَمْلُوكٌ، لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ مِنَ المالِ ولا مِن أمْرِ نَفْسِهِ، وإنَّما هو مُسَخَّرٌ بِإرادَةِ سَيِّدِهِ مُدَبَّرٌ، ولا يَلْزَمُ مِنَ الآيَةِ أنَّ العَبِيدَ كُلَّهم بِهَذِهِ الصِفَةِ كَما انْتَزَعَ بَعْضُ مَن يَنْتَحِلُ الفِقْهَ، وقَدْ قالَ في المَثّالِ الثانِي: ﴿لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ﴾، فَيَلْزَمُ -عَلى هَذا الِانْتِزاعِ- أنْ يَكُونَ البُكْمُ لا شَيْءَ لَهم، وبِإزاءِ العَبْدِ في المِثالِ رَجُلٌ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ في المالِ فَهو يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِإرادَتِهِ، ولا يَلْزَمُ مِن نَفْسِ المِثالِ أنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا يُنْفِقُ بِحَسَبِ الطاعَةِ، أما إنَّهُ أشْرَفُ أنْ يَكُونَ مِثالًا. و"الرِزْقُ": ما صَحَّ الِانْتِفاعُ بِهِ، وقالَ أبُو مَنصُورٍ في عَقِيدَتِهِ: "الرِزْقُ ما وقَعَ الِاغْتِذاءِ بِهِ"، وهَذِهِ الآيَةُ تَرُدُّ عَلى هَذا التَخْصِيصِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣]، و ﴿أنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٤]، وغَيْرُ ذَلِكَ مِن قَوْلِ النَبِيِّ ﷺ: (p-٣٨٨)« "جُعِلَ رِزْقِي في ظِلِّ رُمْحِي"،» وقَوْلُهُ: « "أرْزاقُ أُمَّتِي في سَنابِكِ خَيْلِها وأسِنَّةِ رِماحِها"،» فالغَنِيمَةُ كُلُّها رِزْقٌ. والصَحِيحُ أنَّ ما صَحَّ الِانْتِفاعُ بِهِ هو الرِزْقُ، وهو مَراتِبٌ أعْلاها ما تُغُذِّيَ بِهِ، وقَدْ حَصَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وُجُوهَ الِانْتِفاعِ في قَوْلِهِ: « "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مالِي مالِي، وهَلْ لَكَ مِن مالِكٍ إلّا ما أكَلْتَ فَأفْنَيْتَ، أو لَبِسْتَ فَأبْلَيْتَ، أو تَصَدَّقْتَ فَأمْضَيْتَ؟"». وفي مَعْنى اللِباسِ يَدْخُلُ الرُكُوبُ. واخْتَلَفَ الناسُ في الَّذِي لَهُ هَذا المَثَلُ -فَقالَ قَتادَةُ، وابْنُ عَبّاسٍ: هو مِثَلُ الكافِرِ والمُؤْمِنِ، فَكَأنَّ الكافِرَ مَمْلُوكٌ مَصْرُوفٌ عَنِ الطاعَةِ، فَهو لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ لِذَلِكَ، ويُشْبِهُ العَبْدَ المَذْكُورَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والتَمْثِيلُ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- إنَّما وقَعَ في جِهَةِ الكافِرِ فَقَطْ، جَعَلَ لَهُ مَثَلًا، ثُمَّ قُرِنَ بِالمُؤْمِنِ المَرْزُوقِ، إلّا أنْ يَكُونَ المَرْزُوقُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وإنَّما هو مِثالٌ لِلْمُؤْمِنِ، فَيَقَعُ التَمْثِيلُ مِن جِهَتَيْنِ، وقالَ مُجاهِدٌ، والضِحاكُ: هَذا المِثالُ، والمِثالُ الآخَرُ الَّذِي بَعْدَهُ، إنَّما هو لِلَّهِ تَعالى والأصْنامِ، فَتِلْكَ هي كالعَبْدِ المَمْلُوكِ الَّذِي لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، واللهُ تَعالى تَتَصَرَّفُ قُدْرَتُهُ دُونَ مُعَقِّبٍ، وكَذَلِكَ فَسَّرَ الزَجاجُ عَلى نَحْوِ قَوْلِ مُجاهِدٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا التَأْوِيلُ أصْوَبُ؛ لِأنَّ الآيَةَ تَكُونُ مِن مَعْنى ما قَبْلَها وما بَعْدَها في تَبَيُّنِ أمْرِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى والرَدِّ عَلى الأصْنامِ. وذَكَرَ الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّهُ قالَ: (p-٣٨٩)نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ وعَبْدٍ كانَ لَهُ، ورُوِيَ تَعْيِينُ غَيْرِ هَذا ولا يَصِحُّ إسْنادُهُ. والمِثالُ لا يَحْتاجُ إلى تَعْيِينِ أحَدٍ، وقَوْلُهُ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ شُكْرٌ عَلى بَيانِ الأمْرِ بِهَذا المِثالِ، وعَلى إذْعانِ الخَصْمِ لَهُ، كَما تَقُولُ لِمَن أذْعَنَ لَكَ في حُجَّةٍ وسَلَّمْ ما يَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوْلُكَ: اللهُ أكْبَرُ، وعَلى هَذا يَكُونُ كَذا وكَذا، فَلَمّا قالَ هُنا: ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾ فَكَأنَّ الخَصْمَ قالَ لَهُ: لا، فَقالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، ظَهَرَتِ الحُجَّةُ، وقَوْلُهُ: ﴿بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ يُرِيدُ لا يَعْلَمُونَ أبَدًا ولا يُداخِلُهم إيمانٌ، ويَتَمَكَّنَ عَلى هَذا قَوْلُهُ: "أكْثَرُهُمْ"؛ لِأنَّ الأقَلَّ مِنَ الكَفّارِ هو الَّذِي آمَنَ مِن أُولَئِكَ، ولَوْ أرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ أيِ الآنَ لَكانَ قَوْلُهُ: "أكْثَرُهُمْ" بِمَعْنى الِاسْتِيعابِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنهم يَعْلَمُ قَوْلَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب