الباحث القرآني

(p-٣٧٦)قوله عزّ وجلّ: ﴿تاللهِ لَقَدْ أرْسَلْنا إلى أُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَيْطانُ أعْمالَهم فَهو ولِيُّهُمُ اليَوْمَ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿وَما أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ إلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وهُدًى ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿واللهُ أنْزَلَ مِنَ السَماءِ ماءً فَأحْيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ ﴿وَإنَّ لَكم في الأنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكم مِمّا في بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَنًا خالِصًا سائِغًا لِلشّارِبِينَ﴾ هَذِهِ آيَةُ ضَرْبِ مَثَلٍ لَهم بِمَن تَقَدَّمَ، وفي ضِمْنِها وعِيدٌ لَهم وتَأْنِيسٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وقَوْلُهُ: "اليَوْمَ" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ يَوْمَ الإخْبارِ بِهَذِهِ الآيَةِ، وهو بَعْدَ مَوْتِ أُولَئِكَ الأُمَمِ المَذْكُورَةِ، أيْ: لا ولِيَّ لَهم مُذْ ماتُوا واحْتاجُوا إلى الغَوْثِ إلّا الشَيْطانَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ يَوْمَ القِيامَةِ، والألِفُ واللامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، أيْ: هو ولِيُّهم في اليَوْمِ المَشْهُودِ، وهو وقْتُ الحاجَةِ والفَصْلِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: فَهو ولِيُّهُمُ مُدَّةَ حَياتِهِمْ ثُمَّ انْقَطَعَتْ وِلايَتِهِ بِمَوْتِهِمْ، وعَبَّرَ عن ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "اليَوْمَ" تَمْثِيلًا لِلْمُخاطِبِينَ بِمُدَّةِ حَياتِهِمْ، كَما تَقُولُ لِرَجُلٍ شابٍّ تَحُضُّهُ عَلى طَلَبِ العِلْمِ: يا فُلانُ لا يَدْرُسُ أحَدٌ مِنَ الناسِ إلّا اليَوْمَ، تُرِيدُ: في مِثْلِ سِنِّكَ هَذِهِ، فَكَأنَّهُ قالَ لِهَؤُلاءِ: فَهو ولِيُّهُمُ في مِثْلِ حَياتِكم هَذِهِ، وهي الَّتِي كانَتْ لَهُمْ، وسائِرُ الآيَةِ وعِيدٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ يُرِيدُ القُرْآنَ، وقَوْلُهُ: ﴿إلا لِتُبَيِّنَ﴾ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿وَهُدًى ورَحْمَةً﴾ عَطْفٌ عَلَيْهِ، كَأنَّهُ قالَ: إلّا لِلْبَيانِ، أيْ لِأجْلِ البَيانِ، وقَوْلُهُ: ﴿الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ لَفْظٌ عامٌّ لِأنْواعِ كُفْرِ الكَفَرَةِ مِنَ الجَحْدِ بِاللهِ تَعالى، أو بِالقِيامَةِ، أو بِالنُبُوءاتِ وغَيْرِ ذَلِكَ، ولَكِنَّ الإشارَةَ في هَذِهِ الآيَةِ إنَّما هي لَجَحْدِهِمِ الرُبُوبِيَّةَ، وتَشْرِيكِهِمِ الأصْنامَ في الإلَهِيَّةِ، يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أخَذَهُ بَعْدَ هَذا في إثْباتِ العِبَرِ الدالَّةِ عَلى أنَّ الأنْعامَ وسائِرَ الأفْعالِ إنَّما هي مِنَ اللهِ تَعالى لا مِنَ الأصْنامِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللهُ أنْزَلَ مِنَ السَماءِ ماءً﴾ الآيَةُ. لَمّا أمَرَهُ تَبْيِينِ ما اخْتَلَفَ فِيهِ نَصَّ العِبَرِ المُؤَدِّيَةِ إلى بَيانِ أمْرِ الرُبُوبِيَّةِ، فَبَدَأ بِنِعْمَةِ المَطَرِ الَّتِي هي أبْيَنُ العِبَرِ، وهي مَلاكُ الحَياةِ، وفي غايَةِ الظُهُورِ، لا يُخالِفُ فِيها عاقِلٌ، وحَياةُ الأرْضِ ومَوْتُها اسْتِعارَةٌ وتَشْبِيهٌ بِالحَيَوانِ؛ إذْ هي هامِدَةٌ غَبْراءُ غَيْرُ مُنْبِتَةٍ فَهي كالمَيِّتِ، وإذْ هي مُنْبِتَةٌ مُخْضَرَّةٌ مُهْتَزَّةٌ رابِيَةٌ فَهي كالحَيِّ. وقَوْلُهُ: "يَسْمَعُونَ" يَدُلُّ عَلى ظُهُورِ هَذا المُعْتَبَرِ فِيهِ وبَيانِهِ؛ لِأنَّهُ لا يَحْتاجُ (p-٣٧٧)إلى تَفَكُّرٍ ولا نَظَرِ قَلْبٍ، وإنَّما يَحْتاجُ المُنَبَّهُ إلى أنْ يَسْمَعَ القَوْلَ فَقَطْ و"الأنْعامُ" هي الأصْنافُ الأرْبَعَةُ: الإبِلُ والبَقَرُ والضَأْنُ والمَعِزُ، و"العِبْرَةُ": الحالُ المُعْتَبَرُ فِيها، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ -فِي رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ - وابْنُ مَسْعُودٍ - بِخِلافٍ- والحُسْنُ، وأهْلُ المَدِينَةِ: "نَسْقِيكُمْ" بِفَتْحِ النُونِ، مِن أسْقا يَسْقِي، وقَرَأ الباقُونَ، وحَفَصٌ عن عاصِمٍ بِضَمِّ النُونِ، وهي قِراءَةُ الكُوفِيِّينَ وأهْلِ مَكَّةَ، وقالَ بَعْضُ أهْلِ اللُغَةِ: هُما لُغَتانِ بِمَعْنى واحِدٍ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: تَقُولُ لِمَن سَقَيْتُهُ بِالشَفَةِ أو في مَرَّةٍ واحِدَةٍ: سَقَيْتُهُ، وتَقُولُ لِمَن تَمُرُّ سَقْيَهُ أو تَمْنَحُهُ شُرْبًا: أسْقَيْتُهُ، وهَذا قَوْلُ مَن قَرَأ: "نَسْقِيكُمْ"، لِأنَّ ألْبانَ الأنْعامِ مِنَ المُسْتَمِرِّ لِلْبَشَرِ، وأنْشَدَ مَن قالَ: "إنَّهُما لُغَتانِ بِمَعْنى" قَوْلِ لَبِيَدٍ: ؎ سَقى قَوْمِي بَنِي بَدْرٍ وأسْقى ∗∗∗ نُمَيْرًا والقَبائِلَ مِن هِلالِ وذَلِكَ لازِمٌ؛ لِأنَّهُ لا يَدْعُو لِقَوْمِهِ بِالقَلِيلِ. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ: "يَسْقِيكُمْ" بِالياءِ، أيْ: يَسْقِيكُمُ اللهُ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "تَسْقِيكُمْ" بِالتاءِ، وهي ضَعِيفَةٌ، وكَذَلِكَ اخْتَلَفَ القُرّاءُ في سُورَةِ "المُؤْمِنُونَ"، وقَوْلُهُ: ﴿مِمّا في بُطُونِهِ﴾ الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى الجِنْسِ، وعَلى المَذْكُورِ، كَما قالَ الشاعِرُ: ؎ مَثْلُ الفِراخِ نُتِفَتْ حَواصِلُهُ (p-٣٧٨)وَهَذا كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿كَلا إنَّها تَذْكِرَةٌ﴾ [عبس: ١١] ﴿فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ﴾ [عبس: ١٢]، وقِيلَ: إنَّما قالَ: "بُطُونِهِ" لِأنَّ الأنْعامَ والنَعَمَ واحِدٌ فَرْدٌ، الضَمِيرُ عَلى مَعْنى النَعَمِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى "البَعْضِ"؛ إذِ الذُكُورُ لا ألْبانَ فِيها، فَكَأنَّ العِبْرَةَ إنَّما هي في الأنْعامِ. و"الفَرْثُ": ما يَنْزِلُ إلى الأمْعاءِ، و"السائِغُ": المُسَهَّلُ في الشُرْبِ اللَذِيذِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "سِيِّغًا" بِشَدِّ الياءِ، وقَرَأ عِيسى الثَقَفِيِّ: "سَيْغًا" بِسُكُونِ الياءِ، وهي تَخْفِيفٌ مِن "سَيْغٍ" كَمَيِّتٍ وهَيِّنٍ، ولَيْسَ وزْنُها فِعْلًا؛ لِأنَّ اللَفْظَةَ واوِيَّةٌ، فَفَعْلَ مِنها "سَوْغٌ"، ورُوِيَ أنَّ اللَبَنَ لَمْ يُشْرِقْ بِهِ أحَدٌ قَطُّ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب