الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَوْءِ ولِلَّهِ المَثَلُ الأعْلى وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ الناسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِن دابَّةٍ ولَكِنْ يُؤَخِّرُهم إلى أجَلٍ مُسَمًّى فَإذا جاءَ أجَلُهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وتَصِفُ ألْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ أنَّ لَهُمُ الحُسْنى لا جَرَمَ أنَّ لَهُمُ النارَ وأنَّهم مُفْرَطُونَ﴾ قالَتْ فِرْقَةٌ: "مَثَلُ" هُنا بِمَعْنى صِفَةٍ، أيْ: لِهَؤُلاءِ صِفَةُ السُوءِ، ولِلَّهِ الوَصْفُ الأعْلى، وهَذا لا يُضْطَرُّ إلَيْهِ؛ لِأنَّهُ خُرُوجٌ عَنِ اللَفْظِ، بَلْ قَوْلُهُ: "مَثَلُ" عَلى حالِهِ، وذَلِكَ أنَّهم إذا قالُوا: "إنِ البَناتَ لِلَّهِ" فَقَدْ جَعَلُوا لَهُ مَثَلًا فالبَناتُ مِنَ البَشَرِ، وكَثْرَةُ البَناتِ عِنْدَهم مَكْرُوهٌ ذَمِيمٌ، فَهو المَثَلُ السُوءِ الَّذِي أخْبَرَ اللهُ تَعالى أنَّهُ لَهم لَيْسَ في البَناتِ فَقَطْ، لَكِنْ لِما جَعَلُوهُ هم في البَناتِ جَعَلَهُ هو لَهم عَلى الإطْلاقِ في كُلِّ سُوءٍ، ولا غايَةَ بَعْدَ عَذابِ النارِ. (p-٣٧٣)وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِلَّهِ المَثَلُ الأعْلى﴾ عَلى الإطْلاقِ أيْضًا، أيِ: الكَمالُ المُسْتَقِرُّ، وقالَ قَتادَةُ: المَثَلُ الأعْلى: لا إلَهَ إلّا اللهَ. وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ الناسَ﴾ الآيَةُ. "يُوآخِذُ" هو يُفاعِلُ مِن أخَذَ، كَأنَّ أحَدَ المُؤاخَذِينَ يَأْخُذُ مِنَ الآخَرِ مَأْخَذًا كَما هي في حَقِّ اللهِ تَعالى، أو بِإذايَةٍ في جِهَةِ المَخْلُوقِينَ، فَيَأْخُذُ الآخَرَ مِنَ الأوَّلِ بِالمُعاقَبَةِ والجَزاءِ، وهي لُغَتانِ: واخَذَ، وآخَذَ، ويُؤاخِذُ يَصِحُّ أنْ تَكُونَ مِن آخِذٍ، وأمّا كَوْنُها مِن واخَذَ فَبَيِّنٌ، والضَمِيرُ في "عَلَيْها" عائِدٌ عَلى الأرْضِ، ويُمْكِنُ ذَلِكَ مَعَ أنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَها ذِكْرٌ لِشُهْرَتِها، ويُمْكِنُ الإشارَةُ لَها كَما قالَ لَبِيدُ في الشَمْسِ: ؎ حَتّى إذا ألْقَتْ يَدًا في كافِرٍ ∗∗∗ وأجَنَّ عَوْراتِ البِلادِ ظَلامُها ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ [ص: ٣٢]، ولَمْ يَجْرِ لِلشَّمْسِ ذِكْرٌ. وقَوْلُهُ: ﴿مِن دابَّةٍ﴾، "مَن" دَخَلَتْ لِاسْتِغْراقِ الجِنْسِ، وظاهِرُ الآيَةِ أنَّ اللهَ تَعالى أخْبَرَ أنَّهُ لَوْ آخَذَ الناسَ بِعِقابٍ يَسْتَحِقُّونَهُ بِظُلْمِهِمْ في كُفْرِهِمْ ومَعاصِيهِمْ لَكانَ ذَلِكَ العِقابُ يَهْلَكُ مِنهُ جَمِيعُ ما يَدِبُّ عَلى الأرْضِ مِن حَيَوانٍ، فَكَأنَّهُ بِالقُحُوطِ أو بِأمْرٍ يُصِيبُهم مِنَ اللهِ تَعالى، وعَلى هَذا التَأْوِيلِ قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: كادَ الجُعَلُ أنْ يَهْلَكَ بِذُنُوبِ بَنِي آدَمَ، ذَكَرَهُ الطَبَرِيُّ، ورُوِيَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "إنَّ اللهَ تَعالى لِيُهْزِلَ الحُوتَ في الماءِ والطَيْرَ في الهَواءِ بِذُنُوبِ العُصاةِ"،» وسَمِعَ أبُو هُرَيْرَةَ رَجُلًا يَقُولُ: "إنِ الظالِمَ لا يُهْلِكُ إلّا (p-٣٧٤)نَفْسَهُ"، فَقالَ أبُو هُرَيْرَةَ: "إنَّ اللهَ لِيُهْلِكَ الحُبارى في وُكُورِها هُزَلًا بِذُنُوبِ الظَلَمَةِ"، وقَدْ نَطَقَتِ الشَرِيعَةُ في أخْبارِها بِأنَّ اللهَ أهْلَكَ الأُمَمَ بِرَّها وعاصِيها بِذُنُوبِ العُصاةِ مِنهم. وقالَتْ فِرْقَةٌ: قَوْلُهُ: ﴿مِن دابَّةٍ﴾، يُرِيدُ: مِن أُولَئِكَ الظَلَمَةِ فَقَطْ، ويَدُلُّ عَلى هَذا التَخْصِيصِ أنَّ اللهَ تَعالى لا يُعاقِبُ أحَدًا بِذَنْبِ أحَدٍ، واحْتَجَّتْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: ١٦٤]، وهَذا كُلُّهُ لا حُجَّةَ فِيهِ؛ وذَلِكَ أنَّ اللهَ تَعالى لا يَجْعَلُ العُقُوبَةَ تَقْصِدُ أحَدًا بِسَبَبِ إذْنابِ غَيْرِهِ، ولَكِنْ إذا أرْسَلَ عَذابًا عَلى أُمَّةٍ عاصِيَةٍ لَمْ يُمَكِّنِ البَرِيءَ التَخَلُّصَ مِن ذَلِكَ العَذابِ، فَأصابَهُ العَذابُ لا بِأنَّهُ لَهُ مُجازاةٌ، ونَحْوَ هَذا قَوْلُهُ: ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً﴾ [الأنفال: ٢٥]، «وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أنَهْلَكُ وفِينا الصالِحُونَ؟ قالَ: "نَعَمْ، إذا كَثُرَ الخُبْثُ".» ثُمَّ لا بُدَّ مِن تَعَلُّقِ ظُلْمٍ ما بِالأبْرِياءِ؛ وذَلِكَ بِتَرْكِ التَغْيِيرِ ومُداجَنَةِ أهْلِ الظُلْمِ ومُداوَمَةِ جِوارِهِمْ، و"الأجَلُ المُسَمّى" في هَذِهِ الآيَةِ هو بِحَسَبِ شَخْصٍ شَخَّصَ، وفي مَعْنى الآيَةِ ضَمائِرُ كَثِيرَةٌ تَرَكْتُها اخْتِصارًا وإيجازًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما يَكْرَهُونَ﴾ يُرِيدُ البَناتَ، و"ما" في هَذا المَوْضِعِ تَقَعُ لِمَن يَعْقِلُ مِن حَيْثُ هو صِنْفٌ، وقَرَأ الحَسَنُ: "ألْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ" بِسُكُونِ النُونِ خَوْفًا مِن تَوالِي الحَرَكاتِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "الكَذِبَ" بِكَسْرِ الذالِ وفَتْحِ الباءِ، فَـ "أنَّ" بَدَلٌ مِنهُ، وقَرَأ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ وبَعْضُ أهْلِ الشامِ بِضَمِّ الكافِ والذالِ والباءِ عَلى صِفَةِ الألْسِنَةِ، و"أنَّ" مُفَعْوِلَةٌ بِـ "تَصِفُ"، و"الحُسْنى" قالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: يُرِيدُ الذُكُورَ مِنَ الأولادِ، وهو الأسْبَقُ مِن مَعْنى الآيَةِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: يُرِيدُ الجَنَّةَ، ويُؤَيِّدُ هَذا قَوْلُهُ: ﴿لا جَرَمَ أنَّ لَهُمُ النارَ﴾، ومَعْنى الآيَةِ عَلى هَذا التَأْوِيلِ: يَجْعَلُونَ لِلَّهِ المَكْرُوهَ ويَدَّعُونَ مَعَ ذَلِكَ أنَّهم يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، كَما تَقُولُ لِرَجُلٍ: أنْتَ تَعْصِي اللهَ، وتَقُولُ -مَعَ ذَلِكَ- إنَّكَ (p-٣٧٥)تَنْجُو، أيْ: إنَّ ذَلِكَ لِبَعِيدٍ مَعَ هَذا، ثُمَّ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالنارِ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في "لا جَرَمَ"، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "أنَّ لَهُمْ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وإعْرابِها بِحَسَبِ تَقْدِيرِ "جَرَمَ"، فَمِن قَدَّرَها بِـ "كَسْبِ فِعْلِهِمْ" فَهو نَصْبٌ، ومِن قَدَّرَها بِـ "وَجَبَ" فَهو رَفْعٌ، وقَرَأ الحَسَنُ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ: "إنَّ" بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وقَرَأ السَبْعَةُ سِوى نافِعٍ: "مُفْرَطُونَ" بِفَتْحِ الراءِ وخَفِيفَةً، ومَعْناهُ: مُقَدَّمُونَ إلى النارِ والعَذابِ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، والأعْرَجِ، وأصْحابِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَدْ رُوِيَتْ عن نافِعٍ، وهو مَأْخُوذٌ مَن "فَرْطِ الماءِ"، وهُمُ القَوْمُ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ إلى المِياهِ لِإصْلاحِ الدِلاءِ والأرْشاءِ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "أنا فُرُطُكم عَلى الحَوْضِ"،» ومِنهُ قَوْلُ القَطّامِيِّ: ؎ واسْتَعْجَلُونا وكانُوا مِن صَحابَتِنا ∗∗∗ ∗∗∗ كَما تَعَجَّلَ فُرّاطٌ لِوُرّادِ وقالَتْ فِرْقَةٌ: "مُفْرَطُونَ" مَعْناهُ: مُخَلَّفُونَ مَتْرُوكُونَ في النارِ مَنسِيُّونَ فِيها، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ هِنْدٍ، وقالَ آخَرُونَ: "مُفْرَطُونَ" مَعْناهُ: مُبْعَدُونَ في النارِ، وهَذا قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنُ القَعْقاعِ: "مُفَرِّطُونَ" بِكَسْرِ الراءِ وتَشْدِيدِها وفَتْحِ الفاءِ، ومَعْناهُ: مُقَصِّرُونَ في طاعَةِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، وقَدْ رُوِيَ عنهُ فَتَحُ الراءِ مَعَ شَدِّها، وقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ: "مُفَرِطُونَ" بِكَسْرِ الراءِ وخِفَّتِها، وهي قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ عَبّاسٍ، وأبِي رَجاءٍ، وشَيْبَةَ بْنِ نِصاحٍ، وأكْثَرُ أهْلِ المَدِينَةِ، أيْ: مُتَجاوِزُونَ لِلْحَدِّ في مَعاصِي اللهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب