الباحث القرآني
(p-٣٤٧)قوله عزّ وجلّ:
﴿الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ فَألْقَوُا السَلَمَ ما كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلى إنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿فادْخُلُوا أبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوى المُتَكَبِّرِينَ﴾ ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أنْزَلَ رَبُّكم قالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُنْيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ولَنِعْمَ دارُ المُتَّقِينَ﴾
"الَّذِينَ" نَعْتٌ لِـ "الكافِرِينَ" في قَوْلِ أكْثَرِ المُتَأوِّلِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ "الَّذِينَ" مُرْتَفِعًا بِالِابْتِداءِ مُنْقَطِعًا مِمّا قَبْلَهُ، وخَبُرُهُ في قَوْلِهِ: ﴿فَألْقَوُا السَلَمَ﴾ فَزِيدَتِ الفاءُ في الخَبَرِ، وقَدْ يَجِيءُ مِثْلُ هَذا. و"المَلائِكَةُ" يُرِيدُ القابِضِينَ لِأرْواحِهِمْ، وقَوْلُهُ: ﴿ظالِمِي أنْفُسِهِمْ﴾ حالٌ–. و"السَلَمَ" هُنا: الِاسْتِسْلامُ، أيْ: رَمَوْا بِأيْدِيهِمْ وقالُوا: "ما كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ" فَحَذَفَ "قالُوا" لِدَلالَةِ الظاهِرِ عَلَيْهِ، قالَ الحَسَنُ: هي مَواطِنُ، فَمَرَّةً يُقِرُّونَ عَلى أنْفُسِهِمْ، كَما قالَ: ﴿وَشَهِدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ أنَّهم كانُوا كافِرِينَ﴾ [الأنعام: ١٣٠]، ومُرَّةً يَجْحَدُونَ كَهَذِهِ الآيَةِ، ويَحْتَمِلُ قَوْلُهُمْ: ﴿ما كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ﴾ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنَّهم كَذَبُوا وقَصَدُوا الكَذِبَ اعْتِصامًا مِنهم بِهِ، عَلى نَحْوِ قَوْلِهِمْ: ﴿واللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، والآخَرُ أنَّهم أخْبَرُوا عن أنْفُسِهِمْ أنَّهم لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ سُوءًا، فَأخْبَرُوا عن ظَنِّهِمْ بِأنْفُسِهِمْ، وهو كَذِبٌ في نَفْسِهِ، وحُسْنُ الرَدِّ عَلَيْهِمْ في الوَجْهَيْنِ جَمِيعًا بِـ "بَلى"، أيْ يُقالُ لَهُمْ: بَلى، وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وعِيدٌ وتَهْدِيدٌ، وظاهِرُ الآيَةِ أنَّها عامَّةٌ في جَمِيعِ الكُفّارِ. وإلْقاؤُهُمُ السَلَمَ ضِدُّ مُشاقَتِهِمْ قَبْلُ، وقالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِن أهْلِ مَكَّةَ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ ولَمْ يُهاجِرُوا، فَأخْرَجَهم كُفّارُ مَكَّةَ مُكْرَهِينَ إلى بَدْرٍ فَقُتِلُوا هُنالِكَ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وإنَّما اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ بِالآيَةِ الأُخْرى الَّتِي نَزَلَتْ في أُولَئِكَ بِاتِّفاقٍ مِنَ العُلَماءِ، وعَلى هَذا القَوْلِ يَحْسُنُ قَطْعَ "الَّذِينَ" ورَفْعُهُ بِالِابْتِداءِ، فَتَأمَّلَهُ. والقانُونُ أنْ "بَلى" تَجِيءُ بَعْدَ النَفْيِ، و"نَعَمْ" تَجِيءُ بَعْدَ الإيجابِ، وقَدْ تَجِيءُ بَعْدَ التَقْرِيرِ، كَقَوْلُكَ: ألَيْسَ كَذا؟ (p-٣٤٨)وَنَحْوَهُ، ولا تَجِيءُ بَعْدَ نَفْيِ سِوى التَقْرِيرِ: وقَرَأ الجُمْهُورُ "تَتَوَفّاهُمْ" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ، وقَرَأ حَمْزَةُ بِالياءِ، وهي قِراءَةُ الأعْمَشِ، قالَ أبُو زَيْدٍ: أدْغَمَ أبُو عَمْرُو: "السَلَّمَ مّا".
وقَوْلُهُ تَعالى: "فادْخُلُوا" مِن كَلامِ الَّذِي يَقُولُ: "بَلى"، و"أبْوابُ جَهَنَّمَ" مُفْضِيَةٌ إلى طِباقِها الَّتِي هي بَعْضٌ عَلى بَعْضٍ، والأبْوابُ كَذَلِكَ بابٌ عَلى بابٍ، و"خالِدِينَ" حالٌ، واللامُ في قَوْلِهِ: "فَلَبِئْسَ" لامُ التَأْكِيدِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وذَكَرَ سِيبَوَيْهِ، وهو إجْماعٌ مِنَ النَحْوِيِّينَ فِيما عَلِمْتَ أنَّ لامَ التَأْكِيدِ لا تَدَخُّلَ عَلى الفِعْلِ الماضِي وإنَّما تَدْخُلُ عَلَيْهِ لامُ القَسَمِ، ولَكِنْ دَخَلَتْ عَلى "بِئْسَ" لَمّا لَمْ تَتَصَرَّفْ أشْبَهَتِ الأسْماءَ وبَعُدَتْ عن حالِ الفِعْلِ في هَذا، وهي بَعِيدَةٌ أيْضًا عن حالِ الفِعْلِ مِن جِهَةِ أنَّها لا تَدْخُلُ عَلى زَمانٍ. و"المَثْوى": مَوْضِعُ الإقامَةِ، ونَعْمَ وبِئْسَ إنَّما يَدْخُلانِ عَلى مُعَرَّفٍ بِالألِفِ واللامِ، أو مُضافٍ إلى مُعَرَّفٍ بِذَلِكَ، و"المَثْوى" هُنا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ولَبِئْسَ المَثْوى مَثْوى المُتَكَبِّرِينَ، والمُتَكَبِّرُ هُنا هو الَّذِي أفْضى بِهِ كِبْرُهُ إلى الكُفْرِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾ الآيَةُ. لَمّا وصَفَ اللهُ تَعالى مَقالَةَ الكُفّارِ الَّذِينَ قالُوا: "أساطِيرُ الأوَّلِينَ" عادَلَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مُقالَةِ المُؤْمِنِينَ مِن أصْحابِ النَبِيِّ ﷺ، وأوجَبَ لِكُلِّ فَرِيقٍ ما يَسْتَحِقُّ لِتَتَبايَنَ المَنازِلُ بَيْنَ الكُفْرِ والإيمانِ، و"ماذا" تَحْتَمِلُ ما ذَكَرَ في الَّتِي قَبْلَها، وقَوْلُهُمْ: "خَيْرًا" جَوابٌ بِحَسَبِ السُؤالِ، واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا﴾ إلى آخَرِ الآيَةِ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: هو ابْتِداءُ كَلامٍ مِنَ اللهِ تَعالى مَقْطُوعٌ مِمّا قَبْلَهُ، ولَكِنَّهُ بِالمَعْنى وعْدٌ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ إحْسانِ المُتَّقِينَ في مَقالَتِهِمْ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو مِن كَلامِ الَّذِينَ قالُوا: "خَيْرًا"، وهو تَفْسِيرٌ لِلْخَيْرِ الَّذِي أُنْزِلَ، أيْ: أنْزَلَ اللهُ في الوَحْيِ عَلى نَبِيِّنا خَيْرًا، أيْ: مَن أحْسَنَ في الدُنْيا بِالطاعَةِ فَلَهُ حَسَنَةٌ في الدُنْيا ونَعِيمٌ في الآخِرَةِ بِدُخُولِ الجَنَّةِ، ورَوى أنَسُ بْنُ مالِكٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: « "إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنَةً، يُثابُ عَلَيْها الرِزْقُ في الدُنْيا، ويُجْزى بِها في الآخِرَةِ"،» وقَدْ (p-٣٤٩)تَقَدَّمَ القَوْلُ في إضافَةِ الدارِ إلى الآخِرَةِ، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ.
{"ayahs_start":28,"ayahs":["ٱلَّذِینَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ ظَالِمِیۤ أَنفُسِهِمۡۖ فَأَلۡقَوُا۟ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعۡمَلُ مِن سُوۤءِۭۚ بَلَىٰۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ","فَٱدۡخُلُوۤا۟ أَبۡوَ ٰبَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۖ فَلَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلۡمُتَكَبِّرِینَ","۞ وَقِیلَ لِلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ مَاذَاۤ أَنزَلَ رَبُّكُمۡۚ قَالُوا۟ خَیۡرࣰاۗ لِّلَّذِینَ أَحۡسَنُوا۟ فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣱۚ وَلَدَارُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ خَیۡرࣱۚ وَلَنِعۡمَ دَارُ ٱلۡمُتَّقِینَ"],"ayah":"ٱلَّذِینَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ ظَالِمِیۤ أَنفُسِهِمۡۖ فَأَلۡقَوُا۟ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعۡمَلُ مِن سُوۤءِۭۚ بَلَىٰۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق