الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهُ فَأذاقَها اللهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ ﴿وَلَقَدْ جاءَهم رَسُولٌ مِنهم فَكَذَّبُوهُ فَأخَذَهُمُ العَذابُ وهم ظالِمُونَ﴾ ﴿فَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالا طَيِّبًا واشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهُ إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ، وقَتادَةُ: القَرْيَةُ المَضْرُوبُ بِها المَثَلَ مَكَّةُ، كانَتْ بِهَذِهِ الصِفَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ؛ لَأنَّها كانَتْ لا تُغْزى ولا يُغِيرُ عَلَيْها أحَدٌ، وكانَتِ الأرْزاقُ تُجْلَبُ إلَيْها، وأنْعَمَ اللهُ عَلَيْها بِرَسُولِهِ صَلِيَ اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ والمُرادُ بِهَذِهِ الضَمائِرِ كُلِّها أهْلُ القَرْيَةِ فَكَفَرُوا بِأنْعُمِ اللهِ في ذَلِكَ وفي جُمْلَةِ الشَرْعِ والهِدايَةِ، فَأصابَتْهُمُ السِنُونَ والخَوْفُ وسائِرُ سَرايا رَسُولِ اللهِ ﷺ وغَزَواتِهِ، هَذا إنْ كانَتِ الآيَةُ مَدَنِيَّةٌ، وإنْ كانَتْ مَكِّيَّةٌ فَجُوعُ السِنِينَ وخَوْفُ العَذابِ مِنَ اللهِ بِحَسْبِ التَكْذِيبِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وإنْ كانَتْ هي الَّتِي ضُرِبَتْ مَثَلًا فَإنَّما ضُرِبَتْ لِغَيْرِها مِمّا يَأْتِي بَعْدَها لِيَحْذَرَ أنْ يَقَعَ فِيما وقَعَتْ هي فِيهِ، وحَكى الطَبَرِيُّ عن حَفْصَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها كانَتْ تَسْألُ في وقْتِ حَصْرِ عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ما صَنَعَ الناسُ؟ وهي صادِرَةٌ مِنَ (p-٤١٨)الحَجِّ مِن مَكَّةَ، فَقِيلَ لَها: قُتِلَ، فَقالَتْ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّها القَرْيَةُ -تَعْنِي المَدِينَةَ- الَّتِي قالَ اللهُ فِيها: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلا﴾ الآيَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَأدْخَلَ الطَبَرِيُّ هَذا عَلى أنَّ حَفْصَةَ قالَتْ: إنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في المَدِينَةِ وإنَّها هي الَّتِي ضُرِبَتْ مَثَلًا، والأمْرُ عِنْدِي لَيْسَ كَذَلِكَ، وإنَّما أرادَتْ أنَّ المَدِينَةَ قَدْ حَصَلَتْ في مَحْذُورِ المَثَلِ، وحَلَّ بِها ما حَلَّ بِالَّتِي جُعِلَتْ مَثَلًا، وكَذَلِكَ يَتَوَجَّهُ عِنْدِي في الآيَةِ أنَّها قُصِدَ بِها قَرْيَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ جُعِلَتْ مَثَلًا، لَكِنَّهُ عَلى مَعْنى التَحْذِيرِ لِأهْلِها ولِغَيْرِها مِنَ القُرى إلى يَوْمِ القِيامَةِ. و"رَغَدًا" نُصِبَ عَلى الحالِ، و"أنْعُمِ" جَمْعُ نِعْمَةٍ، كَشِدَّةٍ وأشُدٍّ، كَذا قالَ سِيبَوَيْهِ، وقالَ قُطْرُبٌ: أنْعُمٌ: جَمْعُ نُعْمٍ، وهي بِمَعْنى النَعِيمِ، يُقالُ: هَذِهِ أيّامُ نُعْمٍ وطُعْمٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأذاقَها اللهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ﴾ اسْتِعاراتٌ، أيْ: لَمّا باشَرَهم ذَلِكَ صارَ كاللِباسِ، وهَذا كَقَوْلِ الأعْشى: ؎ إذا ما الضَجِيعُ ثَنى جِيدَها ∗∗∗ تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَصارَتْ لِباسًا ونَحْوَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُنَّ لِباسٌ لَكم وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧]، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:(p-٤١٩) ؎ وقَدْ لَبِسَتْ بَعْدَ الزُبَيْرِ مُجاشِعٌ ∗∗∗ ∗∗∗ ثِيابَ الَّتِي حاضَتْ ولَمْ تَغْسِلِ الدَمّا كَأنَّ العارَ لَمّا باشَرَهم وأُلْصِقَ بِهِمْ جَعَلَهم لَبِسُوهُ.قَوْلُهُ: "أذاقَها" نَظِيرَ قَوْلِهِ: ﴿ذُقْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩]، ونَظِيرَ قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ دُونَكَ ما جَنَيْتَهُ فاخْشَ وذُقْ وقَرَأ الجُمْهُورُ: "والخَوْفِ" عَطَفًا عَلى "الجُوعِ"، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِخِلافٍ عنهُ-: "والخَوْفَ" عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ "لِباسَ"، وفي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "لِباسَ الخَوْفِ والجُوعِ"، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "فَأذاقَها اللهُ الخَوْفَ والجُوعَ" ولا يُذْكَرُ "لِباسَ". (p-٤٢٠)والضَمِيرُ في "جاءَهُمْ" لِأهْلِ مَكَّةَ، والرَسُولِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، و"العَذابُ": الجُوعُ وأمْرُ بَدْرٍ ونَحْوَ ذَلِكَ إنْ كانَ التَمْثِيلُ بِمَكَّةَ وكانَتِ الآيَةُ مَدَنِيَّةً، وإنْ كانَتْ مَكِّيَّةً فَهو الجُوعُ فَقَطْ، وذَكَرَ الطَبَرِيُّ أنَّهُ القَتْلُ بِبَدْرٍ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، وإنْ كانَ التَمْثِيلُ بِمَدِينَةٍ قَدِيمَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَمِيرُ في "جاءَهُمْ" لِأهْلِ تِلْكَ المَدِينَةِ، ويَكُونُ هَذا مِمّا جَرى فِيها كَمَدِينَةِ شُعَيْبٍ وغَيْرِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَمِيرُ المَذْكُورُ لِأهْلِ مَكَّةَ، فَتَأمَّلَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ﴾ الآيَةُ، هَذا ابْتِداءُ كَلامٍ آخَرَ ومَعْنى حُكْمٍ، والفاءُ في قَوْلِهِ: "فَكُلُوا" لِصِلَةِ الكَلامِ واتِّساقِ الجُمَلِ، خَرَجَ مِن ذِكْرِ الكافِرِينَ والمَثَلَ عَلَيْهِمْ إلى أمْرِ المُؤْمِنِينَ بِشَرْعٍ ما فَوَصَلَ الكَلامَ بِالفاءِ، ولَيْسَتِ المَعانِي مُوصَلَةً. هَذا قَوْلٌ، والَّذِي عِنْدِي أنَّ الكَلامَ مُتَّصِلُ المَعْنى، أيْ: وأنْتُمْ أيُّها المُؤْمِنُونَ لَسْتُمْ كَهَذِهِ القَرْيَةِ، فَكُلُوا واشْكُرُوا اللهَ عَلى تَبايُنِ حالِكم مِن حالِ الكَفَرَةِ، وهَذِهِ الآيَةُ هي بِسَبَبِ أنَّ الكُفّارَ كانُوا قَدْ سَنُّوا في الأنْعامِ سُنَنًا، وأحَلُّوا بَعْضًا وحَرَّمُوا بَعْضًا، فَأمَرَ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِأكْلِ جَمِيعِ الأنْعامِ الَّتِي رَزَقَها اللهُ عِبادَهُ. واخْتَلَفَ العُلَماءُ في قَوْلِهِ: "طَيِّبًا"، والصَحِيحُ أنَّهُ "مُسْتَلَذًّا" بَعْدَ قَوْلِهِ: "حَلالًا"، ووَقَعَ النَصُّ في هَذا عَلى المُسْتَلَذِّ إذْ فِيهِ ظُهُورُ النِعْمَةِ، وهو عِظَمُ النِعَمِ، وإنْ كانَ الحَلالُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُسْتَلَذٍّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الطَيِّبُ بِمَعْنى الحَلالِ، وكَرَّرَهُ مُبالِغَةً وتَوْكِيدًا، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ. وقَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ إقامَةٌ لِلنُّفُوسِ، كَما تَقُولُ لِرَجُلٍ: إنْ كُنْتَ مِنَ الرِجالِ فافْعَلْ كَذا، عَلى مَعْنى إقامَةِ نَفْسِهِ، ورَوى الطَبَرِيُّ أنَّ بَعْضَ الناسِ قالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ خِطابًا لِلْكُفّارِ عن طَعامٍ كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَعَثَهُ إلَيْهِمْ في جُوعِهِمْ، وأنْحى الطَبَرِيُّ عَلى هَذا القَوْلِ، وكَذَلِكَ هو فاسِدٌ مِن غَيْرِ وجْهٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب