الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَيْطانِ الرَجِيمِ﴾ ﴿إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ﴿إنَّما سُلْطانُهُ عَلى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ والَّذِينَ هم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ ﴿وَإذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةً واللهُ أعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وهُدًى وبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنَّهم يَقُولُونَ إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَمِيٌّ وهَذا لِسانُ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ الفاءُ في "فَإذا" واصِلَةٌ بَيْنَ الكَلامَيْنِ، والعَرَبُ تَسْتَعْمِلُها في مِثْلِ هَذا، وتَقْدِيرُ الآيَةِ: (p-٤٠٧)فَإذا أخَذَتْ في قِراءَةِ القُرْآنِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى﴾ [المائدة: ٦]، وكَما تَقُولُ لِرَجُلٍ: إذْ أكَلَتْ فَقُلْ بِسْمِ اللهِ. والِاسْتِعاذَةُ نَدْبٌ عِنْدَ الجَمِيعِ، وحَكى النَقّاشُ عن عَطاءٍ أنَّ التَعَوُّذَ واجِبٌ، ولَفْظُ الِاسْتِعاذَةِ هو عَلى رُتْبَةِ الآيَةِ، وقَدْ ذَكَرْتُ الخِلافُ الَّذِي قِيلَ فِيهِ في صَدْرِ هَذا الكِتابِ. و"الرَجِيمِ": المَرْجُومُ بِاللَعْنَةِ، وهو إبْلِيسُ. ثُمَّ أخْبَرَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى أنَّ إبْلِيسَ لَيْسَ لَهُ مَلَكَةٌ ولا رِياسَةٌ، هَذا ظاهِرُ "السُلْطانِ" عِنْدِي في هَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ أنَّ السُلْطانَ إنْ جَعَلْناهُ الحُجَّةَ فَلَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ في الدُنْيا عَلى أحَدٍ، لا مُؤْمِنٍ ولا كافِرٍ، اللهُمَّ إلّا أنْ يَتَأوَّلَ مُتَأوِّلٌ: "لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ يَوْمَ القِيامَةِ"، فَيَسْتَقِيمُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى الحَجَّةِ، لَأنَّ إبْلِيسَ لَهُ حُجَّةٌ عَلى الكافِرِينَ أنَّهُ دَعاهم بِغَيْرِ دَلِيلٍ فاسْتَجابُوا لَهُ مِن قِبَلِ أنْفُسِهِمْ، وهَؤُلاءِ الَّذِينَ لا سُلْطانَ ولا رِياسَةَ لِإبْلِيسَ عَلَيْهِمْ هُمُ المُؤْمِنُونَ أجْمَعُونَ؛ لَأنَّ اللهَ تَعالى لَمْ يَجْعَلْ سُلْطانَهُ إلّا عَلى المُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، والسُلْطانُ مَنفِيٌّ هاهُنا في الإشْراكِ؛ إذْ لَهُ عَلَيْهِمْ مَلَكَةٌ ما في المَعاصِي، وهُمُ الَّذِينَ قالَ اللهُ فِيهِمْ: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ [الحجر: ٤٢]، وهُمُ الَّذِينَ قالَ فِيهِمْ إبْلِيسُ: ﴿إلا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ [الحجر: ٤٠]. و"يَتَوَلَّوْنَهُ" مَعْناهُ: يَجْعَلُونَهُ ولِيًّا، والضَمِيرُ في "بِهِ" يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى اسْمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، والظاهِرُ أنَّهُ يَعُودُ عَلى اسْمِ إبْلِيسَ، بِمَعْنى: مِن أجْلِهِ وبِسَبَبِهِ، كَما تَقُولُ لِمُعَلِّمُكَ: أنا عالِمٌ بِسَبَبِكَ، فَكَأنَّهُ قالَ: والَّذِينَ هم بِسَبَبِهِ مُشْرِكُونَ بِاللهِ، وهَذا الإخْبارُ بِأنْ لا سُلْطانَ لِلشَّيْطانِ عَلى المُؤْمِنِينَ بِعَقِبِ الأمْرِ بِالِاسْتِعاذَةِ تَقْتَضِي أنَّ الِاسْتِعاذَةَ تَصْرِفُ كَيْدَهُ كَأنَّها مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّوَكُّلِ عَلى اللهِ والِانْقِطاعِ إلَيْهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةً﴾، كانَ كَفّارُ مَكَّةَ إذا نَسَخَ اللهُ لَفْظَ آيَةٍ بِلَفْظِ أُخْرى ومَعْناها وإنَّ بَقِيَ لَفْظُها -لَأنَّ هَذا كُلُّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ التَبْدِيلُ- يَقُولُونَ: لَوْ كانَ هَذا مِن عِنْدِ اللهِ لَمْ يَتَبَدَّلْ، وإنَّما هو مِنَ افْتِراءِ مُحَمَّدٍ، فَهو يَرْجِعُ مَن خَطَأٍ يَبْدُو لَهُ إلى صَوابٍ يَراهُ بَعْدُ، فَأخْبَرَ اللهُ تَعالى أنَّهُ أعْلَمَ بِما يَصْلُحُ لِلْعِبادِ بُرْهَةً مِنَ الدَهْرِ، ثُمَّ (p-٤٠٨)ما يَصْلُحُ لَهم بَعْدَ ذَلِكَ، وأنَّهم لا يَعْلَمُونَ هَذا. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يُنَزِّلُ" بِفَتْحِ النُونِ وشَدِّ الزايِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِسُكُونِ النُونِ وتَخْفِيفِ الزايِ، وعَبَّرَ بِالأكْثَرِ مُراعاةً لِما كانَ عِنْدَ قَلِيلٍ مِنهم مَن مَوْقِفٍ وقِلَّةِ مُبالَغَةٍ في التَكْذِيبِ وظَنٍّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا اللَفْظُ قَرَّرَ عَلى قَلِيلٍ مِنهم أنَّهم يَعْلَمُونَ ويَكْفُرُونَ تَمَرُّدًا وعِنادًا. وأمَرَ نَبِيَّهُ أنْ يُخْبِرَ أنَّ القُرْآنَ وناسِخَهُ ومَنسُوخَهُ إنَّما نَزَّلَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ، وهو رُوحُ القُدُسِ، لا خِلافَ في ذَلِكَ، "والقُدُسِ": المَوْضِعُ المُطَهَّرُ، فَكَأنَّ جِبْرِيلَ أُضِيفَ إلى الأمْرِ المُطَهَّرِ بِإطْلاقٍ، وسَمِّي رُوحًا إمّا لَأنَّهُ ذُو رُوحٍ مِن جُمْلَةِ رُوحِ اللهِ الَّذِي بَثَّهُ في خُلُقِهِ، وخُصَّ هو بِهَذا الِاسْمِ، وإمّا لَأنَّهُ يَجْرِي مِنَ الهِداياتِ والرِسالاتِ ومِنَ المَلائِكَةِ أيْضًا مَجْرى الرُوحِ مِنَ الأجْسادِ لِشَرَفِهِ ومَكانَتِهِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: القُدْسُ بِسُكُونِ الدالِ، وقَرَأ الباقُونَ بِضَمِّها، وقَوْلُهُ: "بِالحَقِّ" أيْ: مَعَ الحَقِّ في أوامِرِهِ ونَواهِيهِ وأحْكامِهِ ومَصالِحِهِ وأخْبارِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: "بِالحَقِّ" بِمَعْنى حَقًّا، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: بِالحَقِّ في أنْ يَنْزِلَ، وعَلى هَذا الِاحْتِمالِ اعْتِراضاتٌ عِنْدَ أصْحابِ الكَلامِ عَلى أُصُولِ الدِينِ، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنَّهم يَقُولُونَ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: كانَ في مَكَّةَ غُلامٌ أعْجَمِيٌّ لِبَعْضِ قُرَيْشٍ يُقالُ لَهُ بِلْعامُ، فَكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُكَلِّمُهُ ويُعَلِّمُهُ الإسْلامَ ويَرُومُهُ عَلَيْهِ، فَقالَتْ قُرَيْشٌ: هَذا يَعْلَمُ مُحَمَّدًا مِن جِهَةِ الأعاجِمِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِهِ، وقالَ عِكْرِمَةُ وسُفْيانُ: كانَ اسْمُ الغُلامِ يَعِيشُ، وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمٍ الحَضْرَمِيُّ: كانَ بِمَكَّةَ غُلامانِ، أحَدُهُما اسْمُهُ جَبْرٌ، والثانِي يَسارٌ، وكانا يَقْرَآنِ بِالرُومِيَّةِ، وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَجْلِسُ إلَيْهِما، فَقالَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ، ونَزَلَتِ الآيَةُ، وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: والإشارَةُ إلى جَبْرٍ، وقالَ الضِحاكُ: الإشارَةُ إلى سَلْمانَ الفارِسِيِّ، وهَذا ضَعِيفٌ، لَأنَّ سَلْمانَ إنَّما أسْلَمَ بَعْدَ الهِجْرَةِ بِمَكَّةَ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "لِسانُ الَّذِي"، وقَرَأ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: "اللِسانُ الَّذِي" بِالتَعْرِيفِ وبِغَيْرِ تَنْوِينٍ في راءِ "بَشَرُ". وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ: "يُلْحِدُونَ" بِضَمِّ الياءِ، مَن "ألْحَدَ" إذا مالَ، وهي قِراءَةُ أبِي عَمْرٍو، وعاصِمٍ، (p-٤٠٩)وابْنِ عامِرٍ، وأبِي جَعْفَرِ بْنِ القَعْقاعِ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "يَلْحَدُونَ" بِفَتْحِ الياءِ والحاءِ، مَن "لَحَدَ"، وهي قِراءَةُ عَبْدِ اللهِ، وطَلْحَةَ، وأبِي عَبْدِ الرَحْمَنِ، والأعْمَشِ، ومُجاهِدٍ، وهُما بِمَعْنى، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ قَدْنِيَ مِن نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِي ∗∗∗ لَيْسَ أمِيرِي بِالشَحِيحِ المُلْحِدِ يُرِيدُ: المائِلَ عَنِ الجُودِ وحالِ الرِياسَةِ. وقَوْلُهُ: "أعْجَمِيٌّ" إضافَةٌ إلى "أعْجَمٍ"؛ لَأنَّهُ كانَ يَقُولُ: "عَجَمِيٌّ"، والأعْجَمُ: هو الَّذِي لا يَتَكَلَّمُ بِعَرَبِيَّةٍ، وأمّا العَجَمِيُّ فَقَدْ يَتَكَلَّمُ بِالعَرَبِيَّةِ ونِسْبَتُهُ قائِمَةٌ. وقَوْلُهُ: "وَهَذا" إشارَةٌ إلى القُرْآنِ، والتَقْدِيرُ: وهَذا سَرْدُ لِسانٍ، أو نُطْقُ لِسانٍ، فَهو عَلى حَذْفٍ مُضافٍ، وهَذا عَلى أنْ نَجْعَلَ اللِسانَ هُنا الجارِحَةَ، واللِسانُ -فِي كَلامِ العَرَبِ -: اللُغَةُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ في هَذِهِ، واللِسانُ: الخَبَرُ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎ إنِّي أتَتْنِي لِسانٌ غَيْرُ كاذِبَةٍ. ومِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ لِسانُ السُوءِ تُهْدِيها إلَيْنا ∗∗∗ ∗∗∗ وحِنْتَ وما حَسِبْتُكَ أنْ تَحِينا (p-٤١٠)وَحَكى الطَبَرِيُّ عن سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ أنَّ الإشارَةَ بِقَوْلِهِمْ: "بَشَرٌ" إنَّما هي إلى كاتِبٍ كانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ في أواخِرَ الآياتِ: " سَمِيعٌ عَلِيمٌ"، فَيَكْتُبُ هو "عَزِيزٌ حَكِيمٌ" أو نَحْوَ هَذا، ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِسَماعِ الوَحْيِ فَيُبَدِّلُ هو بِـ "غَفُورٌ رَحِيمٌ" أو نَحْوَهُ، فَقالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ في بَعْضِ الآياتِ: هو كَما كَتَبْتَ، فَفُتِنَ وقالَ: أنا أعُلِّمُ مُحَمَّدًا وارْتَدَّ ولَحِقَ بِمَكَّةَ فَنَزَلَتِ الآيَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: هَذا نَصْرانِيٌّ أسْلَمَ وكَتَبَ ثُمَّ ارْتَدَّ وماتَ فَلَفَظَتْهُ الأرْضُ، وإلّا فَهَذا القَوْلُ يُضَعَّفُ؛ لَأنَّ الكاتِبَ المَشْهُورَ الَّذِي ارْتَدَّ لِهَذا السَبَبِ ولِغَيْرِهِ مِن نَحْوِهِ هو عَبْدُ اللهِ بْنُ أبِي سَرْحٍ العامِرِيُّ، ولِسانُهُ لَيْسَ بِأعْجَمِيٍّ، فَتَأمَّلَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب