الباحث القرآني
(p-٣١٢)قوله عزّ وجلّ:
﴿وَإنْ كانَ أصْحابُ الأيْكَةِ لَظالِمِينَ﴾ ﴿فانْتَقَمْنا مِنهم وإنَّهُما لَبِإمامٍ مُبِينٍ﴾ ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أصْحابُ الحِجْرِ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿وَآتَيْناهم آياتِنا فَكانُوا عنها مُعْرِضِينَ﴾ ﴿وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا آمِنِينَ﴾ ﴿فَأخَذَتْهُمُ الصَيْحَةُ مُصْبِحِينَ﴾ ﴿فَما أغْنى عنهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ﴿وَما خَلَقْنا السَماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلا بِالحَقِّ وإنَّ الساعَةَ لآتِيَةٌ فاصْفَحِ الصَفْحَ الجَمِيلَ﴾ ﴿إنَّ رَبَّكَ هو الخَلاقُ العَلِيمُ﴾
"الأيْكَةُ": الغَيْضَةُ والشَجَرُ المُلْتَفُّ المُخْضَرُّ، يَكُونُ السِدْرَ ونَحْوَهُ، قالَ قَتادَةُ: رُوِيَ أنَّ أيْكَةَ هَؤُلاءِ كانَتْ مِن شَجَرِ الدُومِ، وقِيلَ: مِنَ المُقْلِ، وقِيلَ: مِنَ السِدْرِ، وكانَ هَؤُلاءِ قُومًا يَسْكُنُونَ غَيْضَةً ويَرْتَفِقُونَ بِها في مَعايِشِهِمْ، فَبَعَثَ اللهُ إلَيْهِمْ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَلامُ فَكَفَرُوا، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الحَرَّ فَدامَ عَلَيْهِمْ سَبْعَةَ أيّامٍ، ثُمَّ رَأوا سَحابَةً فَخَرَجُوا فاسْتَظَلُّوا تَحْتَها فاضْطَرَمَتْ عَلَيْهِمْ نارًا، وحَكى الطَبَرِيُّ قالَ: بُعِثَ شُعَيْبٌ إلى أُمَّتَيْنِ كَفَرَتا فَعُذِّبَتا بِعَذابَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أهْلُ مَدْيَنَ عُذِّبُوا بِالصَيْحَةِ، وأصْحابُ الأيْكَةِ عَذَّبُوا بِالظُلَّةِ، ولَمْ يَخْتَلِفِ القُرّاءُ في هَذا المَوْضِعِ في إدْخالِ الألِفِ واللامِ عَلى "أيْكَةٍ"، وأكْثَرُهم هَمَزَ ألْفَ "أيْكَةٍ" بَعْدَ اللامِ، ورُوِيَ عن بَعْضِهِمْ أنَّهُ سَهَّلَها ونَقَلَ حَرَكَتَها إلى اللامِ فَقَرَأ: "الأيْكَةَ" دُونَ هَمْزٍ، واخْتَلَفُوا في سُورَةِ الشُعَراءِ، وفي سُورَةِ ص.
و"إنْ" هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَقِيلَةِ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، وقالَ الفَرّاءُ: "إنْ" بِمَعْنى "ما"، واللامُ في قَوْلِهِ: "لَظالِمِينَ" بِمَعْنى "إلّا"، قالَ أبُو عَلِيٍّ: الأيْكُ: جَمْعُ أيْكَةٍ كَتَمْرَةٍ وتَمْرٍ، ومِنَ الشاهِدِ عَلى اللَفْظَةِ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أبِي الصَلْتِ:
؎ كَبُكاءِ الحَمامِ عَلى غُصُو.... نِ الأيْكِ في الطَيْرِ الجَوانِحِ
(p-٣١٣)وَقَوْلُ جَرِيرٍ:
؎ وقَفْتُ بِها فَهاجَ الشَوْقُ مِنِّي ∗∗∗ ∗∗∗ حَمامُ الأيْكِ يُسْعِدُها حَمامُ
ومِنهُ قَوْلٌ الآخَرُ:
؎ ألّا إنَّما الدُنْيا غَضارَةُ أيْكَةٍ ∗∗∗ ∗∗∗ إذا اخْضَرَّ مِنها جانِبٌ جَفَّ جانِبُ
ومِنهُ قَوْلُ الهُذَلِيِّ:
؎ مُوَشَّحَةٌ بِالطُرَّتَيْنِ دَنا لَها ∗∗∗ ∗∗∗ جَنى أيْكَةٍ يَضْفُو عَلَيْها قِصارُها
وأنْشَدَ الأصْمَعِيُّ:
؎ وما خَلِيجٌ مِن ذُو حَدَبٍ ∗∗∗ ∗∗∗ يَرْمِي الصَعِيدَ بِخُشْبِ الأيِكِ والضالِّ
(p-٣١٤)والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "وَإنَّهُما" يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى المَدِينَتَيْنِ اللَتَيْنِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُما، مَدِينَةُ قَوْمِ لُوطٍ، ومَدِينَةُ أصْحابِ الأيْكَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى النَبِيَّيْنِ لُوطٍ وشُعَيْبٍ في أنَّهُما عَلى طَرِيقٍ مِنَ اللهِ وشَرْعٍ مُبِينٍ.
و"الإمامُ" في كَلامِ العَرَبِ: الشَيْءُ الَّذِي يُهْتَدى بِهِ ويُؤْتَمُّ، يَقُولُونَهُ لِخَيْطِ البِناءِ، وقَدْ يَكُونُ الطَرِيقَ، وقَدْ يَكُونُ الكِتابَ المُفِيدَ، وقَدْ يَكُونُ القِياسَ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَيْهِ الصُنّاعُ، وقَدْ يَكُونُ الرَجُلَ المُقْتَدى بِهِ، ونَحْوَ هَذا، ومَن رَأى عَوْدَ الضَمِيرِ في "إنَّهُما" عَلى المَدِينَتَيْنِ قالَ: الإمامُ: الطَرِيقُ، وقِيلَ عَلى ذَلِكَ: الإمامُ: الكِتابُ الَّذِي سَبَقَ فِيهِ إهْلاكَهُما.
و﴿أصْحابُ الحِجْرِ﴾ ثَمُودُ، وقَدْ تَقَدَّمَ قَصَصُهُمْ، و"الحِجْرِ" مَدِينَتُهُمْ، وهي ما بَيْنَ المَدِينَةِ وتَبُوكَ، وقالَ: "المُرْسَلِينَ" مِن حَيْثُ يَجِبُ بِتَكْذِيبِ رَسُولٍ واحِدٍ تَكْذِيبُ الجَمِيعِ، إذِ القَوْلُ في المُعْتَقَداتِ واحِدٌ لِلرُّسُلِ أجْمَعَ، فَهَذِهِ العِبارَةُ أشْنَعُ عَلى المُكَذِّبِينَ.
والآياتُ الَّتِي آتاهُمُ اللهُ هي الناقَةُ وما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِن خَرْقِ العادَةِ حَسْبَ ما تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وبَسْطُهُ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "وَآتَيْناهم آيَتَنا" مُفْرَدَةً.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكانُوا يَنْحِتُونَ﴾ الآيَةُ. يَصِفُ قَوْمَ صالِحٍ بِشِدَّةِ النَظَرِ لِلدُّنْيا والتَكَسُّبِ مِنها، فَذَكَرَ مِن ذَلِكَ مِثالًا أنَّ بُيُوتَهم كانُوا يَنْحِتُونَها في حِجْرِ الجِبالِ، والنَحْتُ: النَقْرُ بِالمَعاوِلِ ونَحْوَها في الحِجارَةِ والعُودِ ونَحْوَهُ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ بِكَسْرِ الحاءِ، وقَرَأ الحَسَنُ بِفَتْحِها وذَلِكَ لِأجْلِ حَرْفِ الحَلْقِ، وهي قِراءَةُ أبِي حَيْوَةَ، وقَوْلُهُ: "آمِنِينَ"، قِيلَ: مَعْناهُ: مِنَ انْهِدامِها، وقِيلَ: مِن حَوادِثَ الدُنْيا، وقِيلَ: مِنَ المَوْتِ لِاغْتِرارِهِمْ بِطُولِ الأعْمالِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا كُلُّهُ ضَعِيفٌ، وأصَحُّ ما يَظْهَرُ في ذَلِكَ أنَّهم كانُوا يَأْمَنُونَ عَواقِبَ الآخِرَةِ، (p-٣١٥)فَكانُوا لا يَعْمَلُونَ بِحَسَبِها، بَلْ كانُوا يَعْمَلُونَ بِحَسَبِ الأمْنِ مِنها.
ومَعْنى "مُصْبِحِينَ" أيْ عِنْدِ دُخُولِهِمْ في الصَباحِ، وذُكِرَ أنَّ ذَلِكَ كانَ يَوْمَ سَبْتٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ قَصَصُ عَذابِهِمْ ومِيعادُهم وتَغَيُّرُ ألْوانِهِمْ، ولَمْ تُغْنِ عنهم شِدَّةُ نَظَرِهِمْ لِلدُّنْيا وتَكَسُّبِهِمْ شَيْئًا، ولا دَفَعَ عَذابَ اللهِ.
و"ما" الأُولى لِلنَّفْيِ، وتَحْتَمِلُ التَقْرِيرَ، والثانِيَةُ مَصْدَرِيَّةٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما خَلَقْنا السَماواتِ والأرْضَ﴾ الآيَةُ. المُرادُ أنَّ هَؤُلاءِ المُكْتَسِبِينَ لِلدُّنْيا الَّذِينَ لَمَّ يُغْنِ عنهُمُ اكْتِسابُهم لَيْسُوا في شَيْءٍ، فَإنَّ السَماواتِ والأرْضَ وجَمِيعَ الأشْياءِ لَمْ تُخْلَقْ عَبَثًا ولا سُدًى ولا لِتَكُونَ طاعَةً اللهِ كَما فَعَلَ هَؤُلاءِ ونُظَراؤُهُمْ، وإنَّما خُلِقَتْ بِالحَقِّ، ولِواجِبٍ مَقْصُودٍ وأغْراضٍ لَها نِهاياتٌ مِن عَذابٍ ونَعِيمٍ، وإنَّ الساعَةَ آتِيَةٌ عَلى جَمِيعِ أُمُورِ الدُنْيا، أيْ: فَلا تَهْتَمُّ يا مُحَمَّدُ بِأعْمالِ قَوْمِكِ، فَإنَّ الجَزاءَ لَهم بِالمِرْصادِ، فاصْفَحْ عن أعْمالِهِمْ، أيْ: ولِّها صَفْحَةَ عُنُقِكَ بِالإعْراضِ عنها، وأكَّدَ الصَفْحَ بِنَعْتِ الجَمالِ إذِ المُرادُ مِنهُ أنْ يَكُونَ لا عَتَبَ فِيهِ ولا تَعْرُّضَ. وهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي مُهادَنَةً، ونَسْخَها في آيَةِ السَيْفِ، قالَهُ قَتادَةُ.
ثُمَّ سَلّاهُ في آخِرِ الآيَةِ بِأنَّ اللهَ تَعالى يَخْلُقُ مَن شاءَ لِمَن شاءَ، ويَعْلَمُ تَعالى وجْهَ الحِكْمَةِ في ذَلِكَ، لا هَذِهِ الأوثانُ الَّتِي تَعْبُدُونَها. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "الخَلّاقُ"، وقَرَأ الأعْمَشُ والجَحْدَرِيُّ: "الخالِقُ".
{"ayahs_start":78,"ayahs":["وَإِن كَانَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡأَیۡكَةِ لَظَـٰلِمِینَ","فَٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامࣲ مُّبِینࣲ","وَلَقَدۡ كَذَّبَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡحِجۡرِ ٱلۡمُرۡسَلِینَ","وَءَاتَیۡنَـٰهُمۡ ءَایَـٰتِنَا فَكَانُوا۟ عَنۡهَا مُعۡرِضِینَ","وَكَانُوا۟ یَنۡحِتُونَ مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُیُوتًا ءَامِنِینَ","فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّیۡحَةُ مُصۡبِحِینَ","فَمَاۤ أَغۡنَىٰ عَنۡهُم مَّا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ","وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَـَٔاتِیَةࣱۖ فَٱصۡفَحِ ٱلصَّفۡحَ ٱلۡجَمِیلَ","إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡخَلَّـٰقُ ٱلۡعَلِیمُ"],"ayah":"وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَـَٔاتِیَةࣱۖ فَٱصۡفَحِ ٱلصَّفۡحَ ٱلۡجَمِیلَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق