الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ فَما خَطْبُكم أيُّها المُرْسَلُونَ﴾ ﴿قالُوا إنّا أُرْسِلْنا إلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ ﴿إلا آلَ لُوطٍ إنّا لَمُنَجُّوهم أجْمَعِينَ﴾ ﴿إلا امْرَأتَهُ قَدَّرْنا إنَّها لَمِنَ الغابِرِينَ﴾ ﴿فَلَمّا جاءَ آلَ لُوطٍ المُرْسَلُونَ﴾ ﴿قالَ إنَّكم قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ ﴿قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ ﴿وَأتَيْناكَ بِالحَقِّ وإنّا لَصادِقُونَ﴾ ﴿فَأسْرِ بِأهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَيْلِ واتَّبِعْ أدْبارَهم ولا يَلْتَفِتْ مِنكم أحَدٌ وامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾ القائِلُ هَنا إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ، وقَوْلُهُ: "فَما خَطْبُكُمْ"؟ سُؤالٌ فِيهِ عُنْفٌ ما، كَما تَقُولُ لِمَن تُنْكِرُ حالَهُ: ماذا دَهاكَ؟ وما مُصِيبَتُكَ؟ وأنْتَ إنَّما تُرِيدُ اسْتِفْهامًا عن حالِهِ فَقَطْ، لَأنَّ "الخَطْبُ" لَفْظَةٌ إنَّما تُسْتَعْمَلُ في الأُمُورِ الشِدادِ، عَلى أنَّ قَوْلَ إبْراهِيمَ: ﴿أيُّها المُرْسَلُونَ﴾، وكَوْنُهم أيْضًا قَدْ بَشَّرُوهُ، يَقْتَضِي أنَّهُ قَدْ كانَ عَرَفَ أنَّهم مَلائِكَةٌ حِينَ قالَ: ﴿فَما خَطْبُكُمْ﴾ ؟ فَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: ﴿فَما خَطْبُكُمْ﴾ مَعَ هَذا أنَّهُ أضافَ الخَطْبَ إلَيْهِمْ مِن حَيْثُ هم حَمَلَتُهُ إلى القَوْمِ المُعَذَّبِينَ. أيْ: ما هَذا الخَطْبُ الَّذِي تَحْمِلُونَهُ؟ وإلى أيِّ أُمَّةٍ؟ و"القَوْمُ المُجْرِمُونَ" يُرادُ بِهِ أهْلَ مَدِينَةِ سَدُومٍ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ لُوطٌ عَلَيْهِ السَلامُ، والمُجْرِمُ: الَّذِي يَجُرُّ الجَرائِمَ ويَرْتَكِبُ المَحْظُوراتِ، وأصْلُ جَرَمَ وأجْرَمَ: كَسَبَ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ جَرِيمَةُ ناهِضٍ في رَأْسِ نِيقِ (p-٣٠٢)أيْ: كَسْبُ عِقابٍ في قُنَّةِ شامِخٍ، ولَكِنَّ اللَفْظَةَ خُصَّتْ في عُرْفِها بِالشَرِّ، لا يُقالُ لِكاسِبِ الأجْرِ مُجْرِمٌ. وقَوْلُهُمُ: ﴿إلا آلَ﴾ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، و"الآلُ": القَوْمُ الَّذِينَ يَؤُولُ أمْرُهم إلى المُضافِ إلَيْهِ، كَذا قالَ سِيبَوَيْهِ، وهَذا نَصٌّ في أنَّ لَفْظَةَ "آلٍ" لَيْسَتْ لَفْظَةَ "أهْلٍ" كَما قالَ النُحاسُ، ويَجُوزُ -عَلى هَذا إضافَةُ "آلٍ" إلى الضَمِيرِ وأمّا "أُهِيلٌ" فَتَصْغِيرُ "أهْلٍ"، واحْتَرَزُوا بِهِ عن تَصْغِيرِ "آلٍ"، فَرَفَضُوا "أوَيْلًا". وقَرَأ جُمْهُورُ السَبْعَةِ: "لَمُنَجُّوهُمْ"، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِالتَخْفِيفِ، والضَمِيرُ في "مُنَجُّوهُمْ" في مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالإضافَةِ، وانْحَذَفَتِ النُونُ لِلْمُعاقَبَةِ، هَذا قَوْلُ جُمْهُورِ النَحْوِيِّينَ، وقالَ الأخْفَشُ: الضَمِيرُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وانْحَذَفَتِ النُونُ لَأنَّهُ لا بُدَّ مِنَ اتِّصالِ هَذا الضَمِيرِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي هَذا نَظَرٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا امْرَأتَهُ﴾ اسْتِثْناءٌ بَعْدَ اسْتِثْناءٍ، وهُما مُنْقَطِعانِ فِيما حَكى بَعْضُ النُحاةِ، لَأنَّهم لَمْ يَجْعَلُوا امْرَأتَهُ الكافِرَةَ مِن آلِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي هَذا نَظَرٌ، لَأنَّها قَبْلَ الِاسْتِثْناءِ داخِلَةٌ في اللَفْظِ الَّذِي هو "الآلُ"، ولَيْسَ كَذَلِكَ "الآلُ" مَعَ المُجْرِمِينَ، فَيَظْهَرُ الِاسْتِثْناءُ الأوَّلُ مُنْقَطِعًا، والثانِي مُتَّصِلًا، والِاسْتِثْناءُ بَعْدَ الِاسْتِثْناءِ يَرُدُّ المُسْتَثْنى الثانِي في حُكْمِ أمْرِ الأوَّلِ، ومَثَّلَ بَعْضُ الناسِ في هَذا بِقَوْلِكَ: "عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إلّا عَشَرَةَ دَراهِمَ إلّا دِرْهَمَيْنِ"، فَرَجَعَتِ الدِرْهَمانِ في حُكْمِ التِسْعِينَ دِرْهَمًا. وقالَ المُبَرِّدُ: لَيْسَ هَذا المِثالُ بِجَيِّدٍ، لَأنَّهُ مِن خَلْقِ الكَلامِ ورَدِّهِ، إذْ لَهُ طَرِيقٌ إلى أداءِ المَعْنى بِأجْمَلَ مِن هَذا التَحْلِيقِ، وهو أنْ يَقُولَ: "عِنْدِي مِائَةٌ إلّا ثَمانِيَةً"، وإنَّما يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مِثالًا لِلْآيَةِ قَوْلُكَ: "ضَرَبْتُ بَنِي تَمِيمَ إلّا بَنِي دارِمَ إلّا حاجِبًا"، لَأنَّ (p-٣٠٣)"حاجِبًا" مَن بَنِي دارِمَ، فَلَمّا كانَ المُسْتَثْنى الأوَّلُ في ضِمْنِهِ ما لا يَجْرِي الحَكَمُ عَلَيْهِ، والضَرُورَةُ تُدْخِلُهُ في لَفْظِهِ، ولا يُمْكِنُنا العِبارَةَ عنهُ دُونَ ذَلِكَ الَّذِي لا يَجْرِي الحُكْمُ عَلَيْهِ، اضْطَرَرْتُ إلى اسْتِثْناءٍ ثانٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ونَزْعَةُ المُبَرِّدِ في هَذا نَبِيلَةٌ. وقَرَأ جَمِيعُهم سِوى عاصِمٍ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ: "قَدَّرْنا" بِتَشْدِيدِ الدالِ في كُلِّ القُرْآنِ، وقَرَأ عاصِمٌ بِتَخْفِيفِها وثَقَّلَ في رِوايَةِ حَفْصٍ، والتَخْفِيفُ يَكُونُ بِمَعْنى التَثْقِيلِ، كَما قالَ الهُذَلِيُّ أبُو ذُؤَيْبٍ: ؎ ومُفْرِهَةٍ عنسٍ قَدَرْتُ لِساقِها ∗∗∗ ∗∗∗ فَخَرَّتْ كَما تَتّابَعُ الرِيحُ بِالقُفْلِ يُرِيدُ: قَدَّرْتُ ضَرْبِي لِساقِها، وكَقَوْلِ النَبِيِّ صَلِيَ اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الِاسْتِخارَةِ: « "واقَدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كانَ"،» ويَكُونُ أيْضًا بِمَعْنى: يَسِّرْ ووَفِّقْ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ بِقُنْدُهارَ ومَن تُقْدَرْ مَنِيَّتُهُ ∗∗∗ ∗∗∗ بِقُنْدُهارَ يُرَجَّمْ دُونَهُ الخَبَرُ (p-٣٠٤)وَكُسِرَتِ الألِفُ مِن "إنَّها" بِسَبَبِ اللامِ الَّتِي في قَوْلِهِ تَعالى: "لَمِنَ"، و"الغابِرُ": الباقِي في الدَهْرِ وغَيْرِهِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ -مِنهُمُ النَحّاسُ -: هو مِنَ الأضْدادِ، يُقالُ في الماضِي وفي الباقِي، وأمّا في هَذِهِ الآيَةِ فَهي لِلْبَقاءِ، أيْ: مِنَ الغابِرِينَ في العَذابِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا جاءَ آلَ لُوطٍ المُرْسَلُونَ﴾ الآياتُ. تَقَدَّمَ القَوْلُ وذِكْرُ القَصَصِ في أمْرِ لُوطٍ، وصُورَةِ لِقاءِ الرُسُلِ لَهُ، وقِيلَ: إنَّ الرُسُلَ كانُوا ثَلاثَةً: جِبْرِيلُ، ومِيكائِيلُ وإسْرافِيلُ، وقِيلَ: كانُوا اثْنَيْ عَشَرَ. وقَوْلُهُ: "مُنْكَرُونَ" أيْ لا تُعْرَفُونَ في هَذا القُطْرِ، وفي هَذِهِ اللَفْظَةِ تَحْذِيرٌ، وهو مِن نَمَطِ ذَمِّهِ لِقَوْمِهِ، وجَرْيِهِ إلى ألّا يُنْزِلَ هَؤُلاءِ القَوْمَ في تِلْكَ المَدِينَةِ خَوْفًا مِنهُ أنْ يَظْهَرَ سُوءُ فِعْلِهِمْ وطَلَبِهِمُ الفَواحِشَ، فَقالَتِ الرُسُلُ لِلُوطٍ: بَلْ جِئْناكَ بِما وعَدَكَ اللهُ مِن تَعْذِيبِهِمْ عَلى كُفْرِهِمْ ومَعاصِيهِمْ، وهو الَّذِي كانُوا يَشُكُّونَ فِيهِ ولا يُحَقِّقُونَهُ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "فاسْرِ" بِوَصْلِ الألْفِ، وفِرْقَةٌ بِقَطْعِها، يُقالُ: سَرى وأسْرى بِمَعْنى إذا سارَ لَيْلًا، قالَ النابِغَةُ: (p-٣٠٥)أسْرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الجَوْزاءِ سارِيَةٌ فَجَمَعَ بَيْنَ اللُغَتَيْنِ، وقَرَأ اليَمانِيُّ: "فَسِرْ بِأهْلِكَ"، وهَذا الأمْرُ بِالسُرى هو عَنِ اللهِ تَعالى، أيْ: يُقالُ لَكَ، و"القِطْعُ": الجُزْءُ مِنَ اللَيْلِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "بِقِطَعٍ" بِفَتْحِ الطاءِ، حَكاهُ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ. وقَوْلُهُ: ﴿واتَّبِعْ أدْبارَهُمْ﴾ أيْ: كُنْ خَلْفَهم وفي ساقِهِمْ حَتّى لا يَبْقى مِنهم أحَدٌ ولا تَلْوِي. و"حَيْثُ" في مَشْهُورِها ظَرْفُ مَكانٍ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: أُمِرَ لُوطٌ أنْ يَسِيرَ إلى زُغَرٍ، وقِيلَ: إلى مَوْضِعِ نَجاةٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ عِنْدِنا، وقالَتْ فِرْقَةٌ: "حَيْثُ" قَدْ تَكُونُ ظَرْفَ زَمانٍ، وأنْشَدَ أبُو عَلِيٍّ في هَذا بَيْتَ طَرَفَةَ: ؎ لِلْفَتى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ ∗∗∗ ∗∗∗ حَيْثُ تَهْدِي ساقَهُ قَدَمُهُ كَأنَّهُ قالَ: مُدَّةَ مَشْيِهِ وتَنَقُّلِهِ، وهَذِهِ الآيَةُ مِن حَيْثُ أُمِرَ أنْ يَسْرِيَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَيْلِ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: "حَيْثُ تُؤْمَرُ"، ونَحْنُ لا نُجِدُ في الآيَةِ أمْرًا لَهُ إلّا في قَوْلِهِ: ﴿بِقِطْعٍ مِنَ اللَيْلِ﴾ أمْكَنَ أنْ تَكُونَ "حَيْثُ" ظَرْفَ زَمانٍ. و"يَلْتَفِتْ" مَأْخُوذٌ مِنَ الِالتِفاتِ الَّذِي هو نَظَرُ العَيْنِ، قالَ (p-٣٠٦)مُجاهِدٌ: المَعْنى: لا يَنْظُرُ أحَدٌ وراءَهُ، ونُهُوا عَنِ النَظَرِ مَخافَةَ الغَفْلَةِ وتَعَلُّقِ النَفْسَ بِمَن خُلِّفَ، وقِيلَ: بَلْ لِئَلّا تَتَفَطَّرُ قُلُوبُهم مِن مُعايَنَةِ ما جَرى عَلى القَرْيَةِ في رَفْعِها وطَرْحِها، وقِيلَ: "يَلْتَفِتْ" مَعْناهُ: يَلْوِي، مِن قَوْلِكَ: "لَفَتُّ الأمْرَ" إذا لَوَيْتَهُ، ومِنهُ قَوْلُهم لِلْقَصِيدَةِ: لَفِيتَةٌ، لَأنَّها مَلْوِيٌّ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب