الباحث القرآني

(p-٢٩٨)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَنَبِّئْهم عن ضَيْفِ إبْراهِيمَ﴾ ﴿إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلامًا قالَ إنّا مِنكم وجِلُونَ﴾ ﴿قالُوا لا تَوْجَلْ إنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ ﴿قالَ أبَشَّرْتُمُونِي عَلى أنْ مَسَّنِيَ الكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ ﴿قالُوا بَشَّرْناكَ بِالحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ القانِطِينَ﴾ ﴿قالَ ومَن يَقْنَطُ مِن رَحْمَةِ رَبِّهِ إلا الضالُّونَ﴾ قَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "وَنَبِّهُمْ" بِضَمِّ الهاءِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ، وهَذا ابْتِداءُ قَصَصٍ بَعْدَ انْصِرامِ الغَرَضِ الأوَّلِ، و"الضَيْفُ" مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ فَهو لِلْواحِدِ والِاثْنَيْنِ والجَمْعِ والمُذَكِّرِ والمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ واحِدٍ، قالَ النَحّاسُ وغَيْرُهُ: التَقْدِيرُ: عن أصْحابِ ضَيْفِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُغْنِي عن هَذا أنَّ هَذا المَصْدَرَ عُومِلَ مُعامَلَةَ الأسْماءِ، كَما فُعِلَ في "رَهْنٍ" ونَحْوَهُ، والمُرادُ بِالضَيْفِ هُنا المَلائِكَةُ الَّذِينَ جاؤُوا لِإهْلاكِ قَوْمِ لُوطٍ وبَشَّرُوا إبْراهِيمَ عَلَيْهِما السَلامُ-، وقَدْ تَقَدَّمَ قَصَصُهم. وقَوْلُهُ: "سَلامًا" مَصْدَرٌ مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: سَلَّمْنا، أو نُسَلِّمُ سَلامًا، والسَلامُ هُنا التَحِيَّةُ، وقَوْلُهُ: "سَلامًا" حِكايَةُ قَوْلِهِمْ، فَلا يَعْمَلُ القَوْلُ فِيهِ، وإنَّما يَعْمَلُ إذا كانَ ما بَعْدَهُ تَرْجَمَةً عن كَلامٍ لَيْسَ يُحْكى بِعَيْنِهِ، كَما تَقُولُ لِمَن قالَ: "لا إلَهَ إلّا اللهُ": قُلْتَ حَقًّا، ونَحْوَ هَذا. وقَوْلُهُ: ﴿إنّا مِنكم وجِلُونَ﴾ أيْ: فَزِعُونَ، وإنَّما وجِلَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ مِنهم لَمّا قَدَّمَ إلَيْهِمُ العِجْلَ الحَنِيذَ فَلَمْ يَرَهم يَأْكُلُونَ، وكانَ عِنْدَهُمُ العَلامَةُ المُؤْمِنَةُ أكْلُ الطَعامِ، وكَذَلِكَ هو في غابِرِ الدَهْرِ أمَنَةٌ لِلنّازِلِ والمَنزُولِ بِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "تَوْجَلْ" مُسْتَقْبَلُ "وَجِلَ"، وقَرَأ الحَسَنُ بِضَمِّ التاءِ عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ مَن "أوجَلَ"، لَأنَّ "وَجِلَ" لا يَتَعَدّى، وكانَتْ هَذِهِ البِشارَةُ بِإسْحاقَ، وذَلِكَ (p-٢٩٩)بَعْدَ مَوْلِدِ إسْماعِيلَ بِمُدَّةٍ، وقَوْلُ إبْراهِيمَ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وهَبَ لِي عَلى الكِبَرِ إسْماعِيلَ وإسْحاقَ﴾ [إبراهيم: ٣٩] لَيْسَ يَقْتَضِي أنَّهُما حِينَئِذٍ وُهِبَهُما، بَلْ قَبْلَ الحَمْدِ بِكَثِيرٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "أبَشَّرْتُمُونِي" بِألْفِ اسْتِفْهامٍ، وقَرَأ الأعْرَجُ: "بَشَّرْتُمُونِي" بِغَيْرِ ألْفٍ، وقَوْلُهُ: ﴿عَلى أنْ مَسَّنِيَ الكِبَرُ﴾ أيْ: في حالَةٍ قَدْ مَسَّنِي الكِبَرُ فِيها، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ "الكُبْرُ" بِضَمِّ الكافِ وسُكُونِ الباءِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "تُبَشِّرُونَ" بِفَتْحِ النُونِ الَّتِي هي عَلامَةُ الرَفْعِ، والفِعْلُ -عَلى هَذِهِ القِراءَةِ- غَيْرُ مُعَدّى، وقَرَأ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: "تُبَشِّرُونِّي" بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ وياءٍ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ بِشَدِّ النُونِ دُونَ ياءٍ، وهَذِهِ القِراءَةُ أُدْغِمَتْ فِيها نُونُ العَلامَةِ في النُونِ الَّتِي هي لِلْمُتَكَلِّمِ مُوطِئَةً لِلْياءِ، وقَرَأ نافِعٌ: "تُبَشِّرُونِ" بِكَسْرِ النُونِ، وغَلَّطَ أبُو حاتِمٍ نافِعًا في هَذِهِ القِراءَةِ، وقالَ: إنَّ شاهِدَ الشِعْرِ في هَذا اضْطِرارٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا حَمْلٌ مِنهُ، وتَقْدِيرُ هَذِهِ القِراءَةِ أنَّهُ حُذِفَتِ النُونُ الَّتِي لِلْمُتَكَلِّمِ، وكُسِرَتِ النُونُ الَّتِي هي عَلامَةُ الرَفْعِ بِحَسْبِ الياءِ، ثُمَّ حُذِفَتِ الياءُ لِدَلالَةِ الكَسْرَةِ عَلَيْها، ونَحْوَ هَذا قَوْلُ الشاعِرِ -أنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ -: ؎ تَراهُ كالثَغامِ يُعَلُّ مِسْكًا ∗∗∗ يَسُرُّ الفالِياتِ إذا فَلَيْنِي (p-٣٠٠)وَمِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ أبِالمَوْتِ الَّذِي لا بُدَّ أنِّي ∗∗∗ ∗∗∗ مُلاقٍ -لا أباكِ- تُخَوِّفِينِي؟ ومِن حَذْفِ هَذِهِ النُونِ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ قَدْنِيَ مِن نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِي يُرِيدُ عَبْدَ اللهِ ومُصْعَبًا ابْنِيِ الزُبَيْرِ، وكانَ عَبْدُ اللهِ يُكَنّى أبا خُبَيْبٍ. وقَرَأ الحَسَنُ "فَبِمَ تَبْشُرُونَ" بِفَتْحِ التاءِ وضَمِّ الشِينِ. وقَوْلُ إبْراهِيمَ: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ تَقْرِيرٌ عَلى جِهَةِ التَعَجُّبِ والِاسْتِبْعادِ لِكِبَرِهِما، أو عَلى جِهَةِ الِاحْتِقارِ وقِلَّةِ المُبالاةِ بِالمَسَرّاتِ لِمُضِيِّ العُمْرِ واسْتِيلاءِ الكِبَرِ. قالَ مُجاهِدٌ: عَجِبَ مَن كِبَرِهِ ومَن كِبَرِ امْرَأتِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ سِنِّهِ وقْتَ البِشارَةِ. وقَوْلُهُمْ: ﴿بَشَّرْناكَ بِالحَقِّ﴾ فِيهِ شِدَّةٌ ما، أيْ: أبْشِرْ بِما بُشِّرْتَ بِهِ ودَعْ غَيْرَ ذَلِكَ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "القانِطِينَ"، والقُنُوطُ: أتَمُّ اليَأْسِ، وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ وابْنُ مُصَرِّفٍ، ورُوِيَتْ عن عَمْرٍو: "القَنِطِينَ". وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ: "وَمَن يَقْنَطُ" بِفَتْحِ النُونِ في كُلِّ القُرْآنِ. وقَرَأ أبُو (p-٣٠١)عَمْرٍو، والكِسائِيُّ بِكَسْرِها، وكُلُّهم قَرَأ: "مِن بَعْدِ ما قَنَطُوا" بِفَتْحِ النُونِ، ورَدَّ أبُو عُبَيْدَةَ قِراءَةَ أهْلِ الحَرَمَيْنِ، وأنْكَرَ أنْ يُقالَ: "قَنِطَ" بِكَسْرِ النُونِ، ولَيْسَ كَما قالَ، لَأنَّهم لا يُجْمِعُونَ إلّا عَلى قَوِيٍّ في اللُغَةِ مَرْوِيٍّ عِنْدَهُمْ، وهي قِراءَةٌ فَصِيحَةٌ، يُقالُ: قَنَطَ يَقْنِطُ، وقَنِطَ يَقْنَطُ، مِثْلَ: نَقَمَ ونَقِمَ، وقَرَأ الأعْمَشُ هُنا: "يَقْنِطُ" بِكَسْرِ النُونِ، وقَرَأ: "مِن بَعْدِ ما قَنِطُوا" بِكَسْرِ النُونِ أيْضًا، فَقَرَأ بِاللُغَتَيْنِ، وقَرَأ الأشْهَبُ: "يَقْنُطُ" بِضَمِّ النُونِ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، والأعْمَشِ أيْضًا، وهي لُغَةُ تَمِيمٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب