الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنا في السَماءِ بُرُوجًا وزَيَّنّاها لِلنّاظِرِينَ﴾ ﴿وَحَفِظْناها مِن كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾ ﴿إلا مَنِ اسْتَرَقَ السَمْعَ فَأتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ﴾ ﴿والأرْضَ مَدَدْناها وألْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وأنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ ﴿وَجَعَلْنا لَكم فِيها مَعايِشَ ومَن لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ﴾ ﴿وَإنْ مِن شَيْءٍ إلا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ لِما ذَكَرَ أنَّهم لَوْ رَأوا الآيَةَ المَذْكُورَةَ قَبْلُ في السَماءِ لَعانَدُوا فِيها عَقِبَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَكَأنَّهُ قالَ: وإنَّ في السَماءِ لَعِبْرًا مَنصُوبَةً غَيْرَ هَذِهِ المَذْكُورَةِ، وكُفْرُهم بِها، وإعْراضُهم عنها إصْرارٌ مِنهم وعُتُوٌّ، والبُرُوجُ: المَنازِلُ، واحِدُها بُرْجٌ، وسُمِّي بِذَلِكَ لِظُهُورِهِ ووُضُوحِهِ، ومِنهُ تَبَرُّجُ المَرْأةِ ظُهُورُها وبُدُوُّها، والعَرَبُ تَقُولُ: "بَرُجَ الشَيْءُ" إذا ظَهَرَ وارْتَفَعَ. وحِفْظُ السَماءِ هو بِالرَجْمِ بِالشُهُبِ عَلى ما تَضَمَّنَتْهُ الأحادِيثُ الصِحاحُ، قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "إنَّ الشَياطِينَ تَقْرُبُ مِنَ السَماءِ أفْواجًا قالَ: فَيَنْفَرِدُ المارِدُ مِنها، فَيَعْلُو فَيَسْمَعُ فَيُرْمى بِالشِهابِ، فَيَقُولُ لِأصْحابِهِ وهو يَلْهَثُ: إنَّهُ مِنَ الأمْرِ كَذا وكَذا، فَيَزِيدُ الشَيْطانُ في ذَلِكَ، ويُلْقُونَ إلى الكَهَنَةِ، فَيَزِيدُونَ مَعَ الكَلِمَةِ مِائَةً"،» ونَحْوَ هَذا الحَدِيثِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: إنَّ الشُهُبَ تَجْرَحُ وتُؤْذِي ولا تَقْتُلُ، وقالَ الحَسَنُ: تَقْتُلُ، وفي الأحادِيثِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الرَجْمَ كانَ في الجاهِلِيَّةِ ولَكِنَّهُ (p-٢٨٠)اشْتَدَّ في وقْتِ الإسْلامِ، وحَفِظَ السَماءَ حِفْظًا تامًّا. وقالَ الزَجّاجُ: لَمْ يَكُنْ إلّا بَعْدَ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ؛ بِدَلِيلٍ أنَّ الشُعَراءَ لَمْ يُشَبَّهُوا بِهِ في السُرْعَةِ إلّا بَعْدَ الإسْلامِ، وذَكَرَ الزَهْراوِيُّ عن أبِي رَجاءٍ العُطارِدِيِّ أنَّهُ قالَ: كُنّا لا نَرى الرَجْمَ بِالنُجُومِ قَبْلَ الإسْلامِ، و"رَجِيمٍ" بِمَعْنى مَرْجُومٍ، فَعِيلٍ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، فَإمّا مِن رَجْمِ الشُهُبِ، وإمّا مِنَ الرَجْمِ الَّذِي هو الشَتْمُ والذَمُّ. ويُقالُ: تَبِعْتُ الرَجُلَ واتَّبَعْتُهُ بِمَعْنى واحِدٍ، و"إلّا" بِمَعْنى لَكِنْ، هَذا قَوْلٌ، والظاهِرُ أنَّ الِاسْتِثْناءَ مِنَ الحِفْظِ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى عن أبِيهِ: إلّا مَنِ اسْتَرَقَ السَمْعَ فَإنَّها لَمْ تُحْفَظْ مِنهُ، ذَكَرَهُ الزَهْراوِيُّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والأرْضَ مَدَدْناها﴾ رُوِيَ في الحَدِيثِ أنَّ الأرْضَ كانَتْ تَتَكَفَّأُ بِأهْلِها كَما تَتَكَفَّأُ السَفِينَةُ فَثَبَّتَها اللهُ تَبارَكَ وتَعالى بِالجِبالِ، ويُقالُ: رَسا الشَيْءُ يَرْسُو إذا رَسَخَ وثَبَتَ، وقَوْلُهُ: "مَوْزُونٍ"، قالَ الجُمْهُورُ: مَعْناهُ: مُقَدَّرٌ مُحَدَّدٌ بِقَصْدٍ وإرادَةٍ، فالوَزْنُ عَلى هَذا مُسْتَعارٌ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: المُرادُ ما يُوزَنُ حَقِيقَةً كالذَهَبِ والفِضَّةِ وغَيْرَ ذَلِكَ مِمّا يُوزَنُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: الأوَّلُ أعَمُّ وأحْسَنُ. و"المَعايِشُ" جَمْعُ مَعِيشَةٍ، وقَرَأها الأعْمَشُ بِالهَمْزِ، وكَذَلِكَ رَوى خارِجَةُ عن نافِعٍ، والوَجْهُ تَرْكُ الهَمْزِ، لَأنَّ أصْلَ ياءِ "مَعِيشَةٍ" الحَرَكَةُ، فَيَرُدُّها إلى الأصْلِ الجَمْعُ، بِخِلافِ "مَدِينَةٍ ومَدائِنَ"، وقَوْلُهُ: ﴿وَمَن لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "مَن" (p-٢٨١)فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى ثَلاثَةِ أوجُهٍ: أحَدُها أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى "مَعايِشَ"، كَأنَّ اللهَ تَعالى عَدَّدَ النِعَمَ في المَعايِشِ وهي ما يُؤَكِّلُ ويُلْبَسُ، ثُمَّ عَدَّدَ النِعَمَ في الحَيَوانِ والعَبِيدِ والضِياعِ وغَيْرَ ذَلِكَ مِمّا يَنْتَفِعُ بِهِ الناسُ ولَيْسَ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ، والوَجْهُ الثانِي: أنْ تَكُونَ "مَن" مَعْطُوفَةً عَلى مَوْضِعِ الضَمِيرِ في "لَكُمْ"، وذَلِكَ أنَّ التَقْدِيرَ: وأعَشْناكم وأعَشْنا أُمَمًا غَيْرَكم مِنَ الحَيَوانِ، وكَأنَّ الآيَةَ -عَلى هَذا- فِيها اعْتِبارٌ وعَرْضُ آيَةٍ، والوَجْهُ الثالِثُ أنْ تَكُونَ "مَن" مَنصُوبَةً بِإضْمارِ فِعْلٍ يَقْتَضِيهِ الظاهِرُ وتَقْدِيرُهُ: وأعَشْنا مَن لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "مَن" في مَوْضِعٍ خَفْضٍ عَطْفًا عَلى الضَمِيرِ في "لَكُمْ"، وهَذا قَلَقٌ في النَحْوِ، لَأنَّهُ العَطْفُ عَلى الضَمِيرِ المَجْرُورِ وفِيهِ قُبْحٌ، فَكَأنَّهُ قالَ: ولِمَن لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ، وأنْتُمْ تَنْتَفِعُونَ بِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَإنْ مِن شَيْءٍ إلا عِنْدَنا خَزائِنُهُ﴾، قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وهو المَطَرُ خاصَّةً. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَنْبَغِي أنَّ تَكُونَ أعَمَّ مِن هَذا في كَثِيرٍ مِنَ المَخْلُوقاتِ، و"الخَزائِنُ" المَواضِعُ الحاوِيَةُ، وظاهِرُ هَذا أنَّ الماءَ والرِيحَ ونَحْوَ ذَلِكَ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ، وهو ظاهِرٌ في قَوْلِهِمْ في الرِيحِ: "عَتَتْ عَلى الخَزائِنِ، وانْفَتَحَ مِنها قَدْرُ حَلْقَةِ الخاتَمِ، ولَوْ كانَ قَدْرُ مُنْخَرِ الثَوْرِ لَأهْلَكَ الأرْضَ"، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَواهِدِ، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ كَوْنَها في القُدْرَةِ هو خَزْنُها، فَإذا شاءَ اللهُ أوجَدَها، وهَذا أيْضًا ظاهِرٌ في أشْياءَ كَثِيرَةٍ، وهو لازِمٌ في الأعْراضِ إذا عَمَّمْنا لِفَظَةَ "شَيْءٍ"، وكَيْفَما كانَ الأمْرُ فالقُدْرَةُ تَسَعُهُ وتُتْقِنُهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما نُنَزِّلُهُ﴾، ما كانَ مِنَ المَطَرِ ونَحْوَهُ فالإنْزالُ فِيهِ مُتَمَكِّنٌ، وما كانَ مِن غَيْرِ ذَلِكَ فَإيجادُهُ والتَمْكِينُ مِنَ الِانْتِفاعِ بِهِ إنْزالٌ عَلى تَجَوُّزٍ، وقَرَأ الأعْمَشُ: "وَما نُرْسِلُهُ إلّا بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ"، وقَوْلُهُ: ﴿بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ رُوِيَ فِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وغَيْرِهِ أنَّهُ لَيْسَ عامٌ أكْثَرَ مَطَرًا مِن عامٍ، ولَكِنْ يَنْزِلُهُ اللهُ في مَواضِعَ دُونَ مَواضِعَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب