الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ﴾ ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ﴾ ﴿لَقالُوا إنَّما سُكِّرَتْ أبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾
الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى الِاسْتِهْزاءِ أوالشِرْكِ ونَحْوَهُ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ، وقَتادَةَ، وابْنِ جَرِيرٍ، وابْنِ زَيْدٍ، ويَكُونُ الضَمِيرُ في "بِهِ" يَعُودُ عَلى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ، وتَكُونُ باءَ السَبَبِ، أيْ: لا يُؤْمِنُونَ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ واسْتِهْزائِهِمْ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَمِيرُ في "نَسْلُكُهُ" عائِدًا عَلى "الذِكْرِ المَحْفُوظِ" المُتَقَدِّمِ الذِكْرِ وهو القُرْآنُ، أيْ: مُكَذَّبًا بِهِ مَرْدُودًا مُسْتَهْزَءًا بِهِ نُدْخِلُهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ، ويَكُونُ الضَمِيرُ في "بِهِ" عائِدًا عَلَيْهِ أيْضًا، أيْ لا يُصَدِّقُونَ بِهِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَمِيرُ في "نَسْلُكُهُ" عائِدًا عَلى الِاسْتِهْزاءِ والشِرْكِ، والضَمِيرُ في "بِهِ" يَعُودُ عَلى القُرْآنِ، فَيَخْتَلِفُ عَلى هَذا عَوْدُ الضَمِيرَيْنِ، والمَعْنى في ذَلِكَ كُلِّهِ يَنْظُرُ بَعْضُهُ إلى بَعْضٍ.
و"نَسْلُكُهُ" مَعْناهُ نَدْخُلُهُ، يُقالُ: سَلَكْتُ الرَجُلَ في الأمْرِ إذا أدْخَلَتْهُ فِيهِ، ومِن هَذا قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ وكُنْتُ لِزازَ خَصْمِكَ لِمَ أُعَرِّدْ ∗∗∗ وقَدْ سَلَكُوكَ في أمْرٍ عَصِيبِ
ومِنهُ قَوْلُ الآخَرِ:
؎ حَتّى إذا أسْلَكُوهم في قُتائِدَةٍ ∗∗∗ ∗∗∗ شَلّا كَما تَطْرُدُ الجَمّالَةُ الشُرُدا
(p-٢٧٧)وَمِنهُ قَوْلُ أبِي وجْزَةَ يَصِفُ حُمُرُ وحْشٍ:
؎ حَتّى سَلَكْنَ الشَوى مِنهُنَّ في مَسَكٍ ∗∗∗ ∗∗∗ مِن نَسْلِ جَوّابَةِ الآفاقِ مِهْداجِ
قالَ الزُجاجُ: ويُقْرَأُ: "نُسْلِكُهُ" بِضَمِّ النُونِ وكَسْرِ اللامِ. و"المُجْرِمِينَ" في هَذِهِ الآيَةِ يُرادُ بِهِمْ كُفّارُ قُرَيْشٍ ومُعاصِرِي رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ عُمُومٌ مَعْناهُ الخُصُوصُ فِيمَن خُتِمَ عَلَيْهِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾ أيْ: عَلى هَذِهِ الوَتِيرَةِ، وتَقُولُ: سَلَكْتُ الرَجُلَ في الأمْرِ وأسْلَكْتُهُ، بِمَعْنى واحِدٍ، ويُرْوى:
حَتّى إذا أسْلَكُوهم في قُتائِدَةٍ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ﴾ الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى قُرَيْشٍ وكَفَرَةِ العَصْرِ المَخْتُومِ عَلَيْهِمْ، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "فَظَلُّوا" يُحْتَمَلُ أنْ يُعَوَّدَ عَلَيْهِمْ، وهو أبْلَغُ في إصْرارِهِمْ، وهَذا تَأْوِيلُ الحَسَنِ. و"يَعْرُجُونَ" مَعْناهُ: يَصْعَدُونَ، وقَرَأ الأعْمَشُ، وأبُو حَيْوَةَ: "يَعْرُجُونَ" بِكَسْرِ الراءِ، والمَعارِجِ: الأدْراجُ، ومِنهُ المِعْراجُ، ومِنهُ قَوْلُ كَثِيرٍ:
؎ إلى حَسْبٍ عَوْدٍ بَنى المَرْءَ قَبْلَهُ ∗∗∗ ∗∗∗ أبُوهُ لَهُ فِيهِ مَعارِجُ سُلَّمِ
(p-٢٧٨)وَيُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى المَلائِكَةِ لِقَوْلِهِمْ: ﴿لَوْ ما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ﴾ [الحجر: ٧]، فَكَأنَّ اللهَ تَعالى قالَ: "وَلَوْ رَأوُا المَلائِكَةَ يَصْعَدُونَ ويَتَصَرَّفُونَ في بابٍ مَفْتُوحٍ في السَماءِ، لَما آمَنُوا"، وهَذا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
وقَرَأ السَبْعَةُ سِوى ابْنِ كَثِيرٍ: "سُكِّرَتْ" بِضَمِّ السِينِ وشَدِّ الكافِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحْدَهُ بِتَخْفِيفِ الكافِ، وهي قِراءَةُ مُجاهِدٍ، وقَرَأ ابْنُ الزَهْرِيِّ بِفَتْحِ السِينِ وتَخْفِيفِ الكافِ، عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ، وقَرَأ أبانُ بْنُ تَغْلِبٍ: "سُحِّرَتْ أبْصارُنا"، ويَجِيءُ قَوْلُهُ: ﴿بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ انْتِقالًا إلى دَرَجَةٍ عُظْمى مِن سِحْرِ العَقْلِ. وتَقُولُ العَرَبُ: "سَكَرَتِ الرِيحُ تَسْكَرُ سُكُورًا" إذا رَكَدَتْ ولَمْ تَنْفَذْ لِما كانَتْ بِسَبِيلِهِ أوَّلًا، وتَقُولُ: "سَكِرَ الرَجُلِ مِنَ الشَرابِ يَسْكَرُ سُكْرًا": إذا تَغَيَّرَتْ حالُهُ ورَكَدَ ولَمْ يَنْفُذْ فِيما لِلْإنْسانِ أنْ يَنْفُذَ فِيهِ، ومِن هَذا المَعْنى: "سَكْرانُ لا يَبِتُّ"، أيْ: لا يَقْطَعُ أمْرًا، وتَقُولُ العَرَبُ: "سَكَرَتُ الفَتْقَ في مَجارِي الماءِ سَكْرًا" إذا طَمَسَتْهُ وصَرَفَتِ الماءَ عنهُ فَلَمْ يَنْفُذْ لِوَجْهِهِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَهَذِهِ اللَفْظَةُ: "سُكِّرَتْ" بِشَدِّ الكافِ إذا كانَتْ مِن سُكْرِ الشَرابِ، أو مِن سُكُورِ الرِيحِ فَهي فِعْلٌ عُدِّيَ بِالتَضْعِيفِ، وإنْ كانَتْ مَن سَكْرِ مَجارِي الماءِ فَتَضْعِيفُها لِلْمُبالَغَةِ، لا لِلتَّعْدِيَةِ، لَأنَّ المُخَفَّفَ مَن فَعْلِهُ مُتَعَدٍّ، ورَجَّحَ أبُو حاتِمٍ هَذِهِ القِراءَةَ، لَأنَّ "الأبْصارَ" جَمْعٌ، والتَثْقِيلُ مَعَ الجَمْعِ أكْثَرُ، كَما قالَ: ﴿مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأبْوابُ﴾ [ص: ٥٠]، ومَن قَرَأ: "سَكِرَتْ" بِضَمِّ السِينِ وتَخْفِيفِ الكافِ، فَإنْ كانَتِ اللَفْظَةُ مَن سَكِرَ الماءُ فَهو فِعْلٌ مُتَعَدٍّ، وإنْ كانَتْ مَن سَكِرَ الشَرابُ، أو مِن سُكُورِ الرِيحِ فَيَضْمَنا أنَّ الفِعْلَ بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ إلى أنْ نَنْزِلَهُ مُتَعَدِّيًا، ويَكُونُ هَذا الفِعْلُ مِن قَبِيلِ: رَجَعَ زَيْدٌ ورَجَعَهُ غَيْرَهُ، وغارَتِ العَيْنُ وغارَها الرَجُلُ، فَتَقُولُ -عَلى هَذا-: سَكِرَ الرَجُلُ وسَكَرَهُ غَيْرُهُ، وسَكَرَتِ الرِيحُ وسَكَرَها شَيْءٌ غَيْرَها، ومَعْنى هَذِهِ المَقالَةِ مِنهُمْ: أيْ غُيِّرَتْ أبْصارُنا عَمّا كانَتْ عَلَيْهِ، فَهي لا تُعْطِينا حَقائِقَ الأشْياءِ كَما كانَتْ تَفْعَلُ. وعَبَّرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ عن هَذِهِ اللَفْظَةِ بِقَوْلِهِ: غُشِيَ عَلى أبْصارِنا، وقالَ بَعْضُهُمْ: عُمِّيَتْ أبْصارُنا، وهَذا ونَحْوَهُ تَفْسِيرٌ بِالمَعْنى لا يَرْتَبِطُ بِاللَفْظِ، ويُقالُ أيْضًا: هَؤُلاءِ المُبْصِرُونَ عُرُوجَ المَلائِكَةِ أو عُرُوجَ أنْفُسِهِمْ بَعْدَ (p-٢٧٩)قَوْلِهِمْ: "سُكِّرَتْ أبْصارُنا" بَلْ سُحِرْنا حَتّى لا نَعْقِلَ الأشْياءَ كَما يَجِبُ، أيْ صَرِفَ فِينا السِحْرُ.
{"ayahs_start":12,"ayahs":["كَذَ ٰلِكَ نَسۡلُكُهُۥ فِی قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِینَ","لَا یُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَقَدۡ خَلَتۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِینَ","وَلَوۡ فَتَحۡنَا عَلَیۡهِم بَابࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَظَلُّوا۟ فِیهِ یَعۡرُجُونَ","لَقَالُوۤا۟ إِنَّمَا سُكِّرَتۡ أَبۡصَـٰرُنَا بَلۡ نَحۡنُ قَوۡمࣱ مَّسۡحُورُونَ"],"ayah":"وَلَوۡ فَتَحۡنَا عَلَیۡهِم بَابࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَظَلُّوا۟ فِیهِ یَعۡرُجُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق