الباحث القرآني
(p-٢٦٩)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
تَفْسِيرُ سُورَةِ الحِجْرِ
هَذِهِ السُورَةُ مَكِّيَّةُ.
قوله عزّ وجلّ:
﴿الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ وقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ ﴿رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ﴾ ﴿ذَرْهم يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَما أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ إلا ولَها كِتابٌ مَعْلُومٌ﴾ ﴿ما تَسْبِقُ مِن أُمَّةٍ أجَلَها وما يَسْتَأْخِرُونَ﴾
"الر"، تَقَدَّمَ القَوْلُ في الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ في أوائِلِ السُورِ، و"تِلْكَ" يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ إشارَةً إلى حُرُوفِ المُعْجَمِ بِحَسْبِ بَعْضِ الأقْوالِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ إشارَةً إلى الحِكَمِ والعِبَرِ ونَحْوَها الَّتِي تَضَمَّنَتْها آياتُ التَوْراةِ والإنْجِيلِ، وعَطَفَ القُرْآنَ عَلَيْهِ، قالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: "الكِتابُ" في الآيَةِ ما نَزَلَ مِنَ الكُتُبِ قَبْلَ القُرْآنِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِـ "الكِتابِ" القُرْآنُ، ثُمَّ تُعْطَفُ الصِفَةُ عَلَيْهِ.
وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ: "رُبَما" بِتَخْفِيفِ الباءِ، وقَرَأ الباقُونَ بِشَدِّها، إلّا أنَّ أبا عَمْرٍو قَرَأها عَلى الوَجْهَيْنِ، وهُما لُغَتانِ، ورُوِيَ عن طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ "رُبَّتَما" بِزِيادَةِ التاءِ، (p-٢٧٠)وَهِيَ لُغَةٌ، و"رُبَّما" لِلتَّقْلِيلِ، وقَدْ تَجِيءُ شاذَّةً لِلتَّكْثِيرِ، وقالَ قَوْمٌ: إنَّ هَذِهِ مِن تِلْكَ، ومِنهُ:
؎ رُبَّ كَأْسٍ هَرَقْتَ يابْنَ لُؤَيٍّ.
وأنْكَرُ الزُجاجُ أنْ تَجِيءَ "رُبَّ" لِلتَّكْثِيرِ.
و"ما" الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْها "رُبَّ" قَدْ تَكُونُ اسْمًا نَكِرَةً بِمَنزِلَةِ "شَيْءٍ"، وذَلِكَ إذا كانَ في الكَلامِ ضَمِيرٌ عائِدٌ عَلَيْهِ كَقَوْلِ الشاعِرِ:
؎ رُبَّما تَكْرَهُ النُفُوسُ مِنَ الأُمْـ ∗∗∗ ∗∗∗ ـرِ لَهُ فُرْجَةٌ كَحَلِّ العِقالِ
التَقْدِيرُ: رُبَّ شَيْءٍ. وقَدْ تَكُونُ حَرْفًا كافًّا لِـ "رُبَّ" ومُوَطِّئًا لَها لِتَدْخُلَ عَلى الفِعْلِ، إذْ لَيْسَ مِن شَأْنِها أنْ تَدَخُّلَ إلّا عَلى الأسْماءِ، وذَلِكَ إذا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ ضَمِيرٌ عائِدٌ، كَقَوْلِ الشاعِرِ:(p-٢٧١)
؎ رُبَّما أوفَيْتُ في عَلَمٍ ∗∗∗ ∗∗∗ تَرْفَعن ثَوْبِي شَمالُاتُ
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وكَذَلِكَ تَدْخُلَ "ما" عَلى "مِن" كافَّةً في نَحْوِ قَوْلِهِ: "وَكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِمّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ"، ونَحْوَ قَوْلِ الشاعِرِ:
؎ وإنّا لَمِمّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضَرْبَةً ∗∗∗ ∗∗∗ عَلى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِسانَ مِنَ الفَمِ
قالَ الكِسائِيُّ، والفِراءُ: البابُ في "رُبَّما" أنْ تَدْخُلَ عَلى الفِعْلِ الماضِي، ودَخَلَتْ هُنا عَلى المُسْتَقْبَلِ إذْ هَذِهِ الأفْعالُ المُسْتَقْبَلَةُ مِن كَلامِ اللهِ تَعالى لَمّا كانَتْ صادِقَةً واقِعَةً ولا بُدَّ تَجْرِي مَجْرى الماضِي الواقِعِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وقَدْ تَدْخُلُ "رُبِّ" عَلى الماضِي الَّذِي يُرادُ بِهِ الِاسْتِقْبالُ، وتَدْخُلُ عَلى العَكْسِ.
والظاهِرُ في "رُبَما" في هَذِهِ الآيَةِ أنْ "ما" حَرْفٌ كافٍّ، هَكَذا قالَ أبُو عَلِيٍّ، قالَ: ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ اسْمًا، ويَكُونُ في "يَوَدُّ" ضَمِيرٌ عائِدٌ عَلَيْهِ، التَقْدِيرُ: رُبَّ ودٍّ، أو شَيْءٌ يَوَدُّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ، ويَكُونُ ﴿لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ﴾ بَدَلًا مِن "ما".
(p-٢٧٢)وَقالَتْ فِرْقَةٌ: تَقْدِيرُ الآيَةِ: رُبَّما كانَ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، قالَ أبُو عَلِيٍّ: وهَذا لا يُجِيزُهُ سِيبَوَيْهِ، لَأنَّ "كانَ" لا تُضْمَرُ عِنْدَهُ.
واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في الوَقْتِ الَّذِي يَوَدُّ فِيهِ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ -فَقالَتْ فَرِقَةٌ: هو عِنْدَ مُعايَنَةِ المَوْتِ في الدُنْيا، حَكى ذَلِكَ الضِحاكُ، وفِيهِ نَظَرٌ؛ إذْ لا يَقِينَ لِلْكافِرِ حِينَئِذٍ بِحُسْنِ حالِ المُسْلِمِينَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو عِنْدَ مُعايَنَةِ أهْوالِ يَوْمِ القِيامَةِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وهَذا بَيِّنٌ؛ لَأنَّ حُسْنَ حالِ المُسْلِمِينَ ظاهِرٌ فَيُوَدُّ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وأنَسُ بْنُ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: هو عِنْدَ دُخُولِهِمُ النارَ ومَعْرِفَتِهِمْ بِدُخُولِ المُؤْمِنِينَ الجَنَّةَ، واحْتُجَّ لِهَذا القَوْلِ بِحَدِيثٍ رُوِيَ في هَذا مِن طَرِيقِ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ، وهو «أنَّ اللهَ تَعالى إذا أدْخَلَ عُصاةَ المُسْلِمِينَ النارَ نَظَرَ إلَيْهِمُ الكُفّارُ فَقالُوا: ألَيْسَ هَؤُلاءِ مِنَ المُسْلِمِينَ؟ فَماذا أغْنَتْ عنهم لا إلَهَ إلّا اللهُ؟ فَيَغْضَبُ اللهُ تَعالى لِقَوْلِهِمْ، فَيَقُولُ: أخْرَجُوا مِنَ النارِ كُلَّ مُسْلِمٍ؟ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "فَحِينَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْ لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ".» وهَذا يَقِينُهم فِيهِ مُتَمَكِّنٌ بِحُسْنِ حالِ المُسْلِمِينَ، فَمِن حَيْثُ هَذا كُلُّهُ واحِدٌ في كُلِّ قَوْلٍ فَـ "رُبَما" لِلتَّقْلِيلِ، لَأنَّهم كانُوا في الدُنْيا لا يَوَدُّونَ الإسْلامَ في كُلِّ أوقاتِهِمْ، ومِن حَيْثُ مَوْطِنُ الآخِرَةِ يَدُومُ وِدُّهم فِيهِ جَعَلَ بَعْضَ الناسِ "رُبَما" هَذِهِ لِلتَّكْثِيرِ، إذْ كَلَّما تَذَكَّرَ أمْرَهُ ودَّ لَوْ كانَ مُسْلِمًا.
و"لَوَ" في هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي لِلتَّمَنِّي، ويَدْخُلُها الِامْتِناعُ مِنَ الشَيْءِ لِامْتِناعِ غَيْرِهِ بِإضْمارٍ يُوَضِّحُهُ المَعْنى، وذَلِكَ أنَّهم ودُّوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ فَيَنْجَوْنَ النِجاءَ الَّذِي مانِعُهُ أنْ لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ.
(p-٢٧٣)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ومِنَ العِبَرِ في هَذِهِ الآيَةِ حَدِيثُ الوابِصِيِّ الَّذِي في ذَيْلِ الأمالِي، ومُقْتَضاهُ أنَّهُ ارْتَدَّ ونَسِيَ القُرْآنَ إلّا هَذِهِ الآيَةَ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَرْهم يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا﴾ الآيَةُ، وعِيدٌ وتَهْدِيدٌ، وما فِيهِ مِنَ المُهادَنَةِ مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَيْفِ. وقَوْلُهُ: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ وعِيدٌ ثانٍ، وحَكى الطَبَرِيُّ عن بَعْضِ العُلَماءِ أنَّهُ قالَ: الأوَّلُ في الدُنْيا، والثانِي في الآخِرَةِ، فَكَيْفَ تَطِيبُ حَياةٌ بَيْنَ هَذَيْنَ الوَعِيدَيْنِ؟ ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ﴾ أيْ يَشْغَلُهم أمَلُهم في الدُنْيا والتَزَيُّدُ فِيها عَنِ النَظَرِ والإيمانِ بِاللهِ ورَسُولِهِ.
ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وَما أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ إلا ولَها﴾ الآيَةُ، أيْ: لا تَسْتَبْطِئْنَّ هَلاكَهُمْ، فَلَيْسَ مِن قَرْيَةٍ إلّا مُهْلَكَةٌ بِأجْلٍ وكِتابٍ. ومَعْنى [مَعْلُومٌ] مَحْدُودٌ، والواوُ في قَوْلِهِ: "وَلَها" هي واوُ الحالِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "إلّا لَها" بِغَيْرِ واوٍ، وقالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هَذِهِ الواوُ هي الَّتِي تُعْطِي أنَّ الحالَةَ الَّتِي بَعْدَها في اللَفْظِ هي في الزَمانِ قَبْلَ الحالَةِ الَّتِي قَبِلَ الواوِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى إذا جاءُوها وفُتِحَتْ أبْوابُها﴾ [الزمر: ٧٣] وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["الۤرۚ تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِ وَقُرۡءَانࣲ مُّبِینࣲ","رُّبَمَا یَوَدُّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡ كَانُوا۟ مُسۡلِمِینَ","ذَرۡهُمۡ یَأۡكُلُوا۟ وَیَتَمَتَّعُوا۟ وَیُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ یَعۡلَمُونَ","وَمَاۤ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡیَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابࣱ مَّعۡلُومࣱ","مَّا تَسۡبِقُ مِنۡ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا یَسۡتَـٔۡخِرُونَ"],"ayah":"الۤرۚ تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِ وَقُرۡءَانࣲ مُّبِینࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق