الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكم إذْ أنْجاكم مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكم سُوءَ العَذابِ ويُذَبِّحُونَ أبْناءَكم ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكم وفي ذَلِكم بَلاءٌ مِن رَبِّكم عَظِيمٌ﴾ ﴿وَإذْ تَأذَّنَ رَبُّكم لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكم ولَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ﴾ ﴿وَقالَ (p-٢٢٥)مُوسى إنْ تَكْفُرُوا أنْتُمْ ومَن في الأرْضِ جَمِيعًا فَإنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ ﴿ألَمْ يَأْتِكم نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ والَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهم إلا اللهُ جاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَرَدُّوا أيْدِيَهم في أفْواهِهِمْ وقالُوا إنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وإنّا لَفي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ هَذا مِنَ التَذْكِيرِ بِأيّامِ اللهِ في النِعَمِ، وكانَ يَوْمُ الإنْجاءِ عَظِيمًا لِعِظَمِ الكائِنِ فِيهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ وقَصَصُها بِما يُغْنِي عن إعادَتِهِ، غَيْرَ أنَّ في هَذِهِ الآيَةِ زِيادَةُ الواوِ في قَوْلِهِ: "وَيُذَبِّحُونَ" وفي البَقَرَةِ: "يُذَبِّحُونَ" بِغَيْرِ واوِ عَطْفٍ، فَهُناكَ فُسِّرَ (سُوءُ العَذابِ) بِأنَّهُ التَذْبِيحُ والِاسْتِحْياءُ، وهُنا دَلَّ بِـ (سُوءِ العَذابِ) عَلى أنْواعٍ غَيْرِ التَذْبِيحِ والِاسْتِحْياءِ، وعُطِفَ التَذْبِيحُ والِاسْتِحْياءُ عَلَيْها. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: "وَيَذْبَحُونَ" بِفَتْحِ الياءِ والباءُ مُخَفَّفَةٌ. و"البَلاءُ" في هَذِهِ الآيَةِ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ المِحْنَةَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ الِاخْتِبارَ، والمَعْنى مُتَقارِبٌ. و(تَأذَّنَ) بِمَعْنى: أذَّنَ، أيْ: أعْلَمَ، وهو مِثْلُ: أكْرَمَ وتَكَرَّمَ، وأوعَدَ وتَوَعَّدَ، وهَذا الإعْلامُ مِنهُ مُقْتَرِنٌ بِإنْفاذٍ وقَضاءٍ قَدْ سَبَقَهُ، وما في "تَفَعَّلَ" هَذِهِ مِنَ المُحاوَلَةِ والشُرُوعِ إذا أُسْنِدَتْ إلى البَشَرِ مَنفِيٌّ في جِهَةِ اللهِ تَعالى، وأمّا قَوْلُ العَرَبِ: تَعَلَّمَ بِمَعْنى: أعْلَمَ، فَمَرْفُوضُ الماضِي عَلى ما ذَكَرَ يَعْقُوبُ، كَقَوْلِ الشاعِرِ: ؎ تَعَلَّمْ - أبَيْتَ اللَعْنَ.......................... ونَحْوِهِ. وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: الزِيادَةُ عَلى الشُكْرِ لَيْسَتْ في الدُنْيا، وإنَّما هي مِن نِعَمِ الآخِرَةِ، والدُنْيا أهْوَنُ مِن ذَلِكَ. (p-٢٢٦)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وصَحِيحٌ جائِزٌ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ، وأنْ يَزِيدَ اللهُ تَعالى المُؤْمِنَ عَلى شُكْرِهِ مِن نِعَمِ الدُنْيا، وأنْ يَزِيدَهُ أيْضًا مِنهُما جَمِيعًا، وفي هَذِهِ الآيَةِ تَرْجِيَةٌ وتَخْوِيفٌ، ومِمّا يَقْضِي بِأنَّ الشُكْرَ مُتَضَمِّنَ الإيمانِ أنَّهُ عادَلَهُ بِالكُفْرِ، وقَدْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الكُفْرُ كُفْرَ النِعَمِ لا كُفْرَ الجَحْدِ، وحَكى الطَبَرِيُّ عن سُفْيانَ وعَنِ الحَسَنِ أنَّهُما قالا: مَعْنى الآيَةِ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكم مِن طاعَتِي وضَعَّفَهُ الطَبَرِيُّ، ولَيْسَ كَما قالَ، بَلْ هو قَوِيٌّ حَسَنٌ فَتَأمَّلْهُ، وقَوْلُهُ: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ﴾ هو جَوابُ قَسَمٍ يَتَضَمَّنُهُ الكَلامُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالَ مُوسى﴾ الآيَةُ. في هَذِهِ الآيَةِ تَحْقِيرٌ لِلْمُخاطَبِينَ بِشَرْطِ كُفْرِهِمْ وتَوْبِيخٌ، وذَلِكَ بَيِّنٌ في الصِفَتَيْنِ اللَتَيْنِ وصَفَ بِهِما نَفْسَهُ تَبارَكَ وتَعالى في آخِرِ الآيَةِ، وقَوْلُهُ: "لَغَنِيٌّ" يَتَضَمَّنُ تَحْقِيرَهم وعَظَمَتَهُ. وقَوْلُهُ: "حَمِيدٌ" يَتَضَمَّنُ تَوْبِيخَهُمْ، وذَلِكَ أنَّهُ بِصِفَةٍ تُوجِبُ المَحامِدَ كُلَّها دائِمًا كَذَلِكَ في ذاتِهِ لَمْ يَزَلْ ولا يَزالُ، فَكُفْرُكم أنْتُمْ بِإلَهٍ هَذِهِ حالُهُ غايَةُ التَخَلُّفِ والخِذْلانِ، وفي قَوْلِهِ أيْضًا: "حَمِيدٌ" يَتَضَمَّنُ أنَّهُ ذُو آلاءٍ عَلَيْكم أيُّها الكافِرُونَ بِهِ كانَ يَسْتَوْجِبُ بِها حَمْدَكُمْ، فَكُفْرُكم بِهِ مَعَ ذَلِكَ أذْهَبُ في الضَلالِ، وهَذا تَوْبِيخٌ بَيِّنٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ يَأْتِكُمْ﴾ الآيَةُ. هَذا مِنَ التَذْكِيرِ بِأيّامِ اللهِ في النِقَمِ مِنَ الأُمَمِ الكافِرَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿لا يَعْلَمُهم إلا اللهُ﴾ مِن نَحْوِ قَوْلِهِ: ﴿وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٨]، وفي مِثْلِ هَذا قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "كَذَبَ النَسّابُونَ مِن فَوْقِ عَدْنانَ"،» ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: "كانَ بَيْنَ زَمَنِ مُوسى وبَيْنَ زَمَنِ نُوحٍ قُرُونٌ ثَلاثُونَ لا يَعْلَمُهم إلّا اللهُ"، وحَكى عنهُ المَهْدَوِيُّ أنَّهُ قالَ: "كانَ بَيْنَ عَدْنانَ وإسْماعِيلَ ثَلاثُونَ أبًا لا يُعْرَفُونَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا الوُقُوفُ عَلى عِدَّتِهِمْ بِعِيدٌ، ونَفْيُ العِلْمِ بِها جُمْلَةً أصَحُّ، وهو لَفْظُ القُرْآنِ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَرَدُّوا أيْدِيَهم في أفْواهِهِمْ﴾ بِحَسَبِ (p-٢٢٧)احْتِمالِ اللَفْظِ، و"الأيْدِي" في هَذِهِ الآيَةِ قَدْ تُتَأوَّلُ بِمَعْنى الجَوارِحِ، وقَدْ تُتَأوَّلُ بِمَعْنى أيْدِي النِعَمِ فِيما ذُكِرَ، عَلى أنَّ "الأيْدِي" هي الجَوارِحُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: رَدُّوا أيْدِيَ أنْفُسِهِمْ في أفْواهِ أنْفُسِهِمْ عَضًّا عَلَيْها مِنَ الغَيْظِ عَلى الرُسُلِ، ومُبالَغَةً في التَكْذِيبِ، هَذا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ زَيْدٍ، وقالَ ابْنٍ عَبّاسٍ: عَجِبُوا فَفَعَلُوا ذَلِكَ، والعَضُّ مِنَ الغَيْظِ مَشْهُورٌ، وفي كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ﴾ [آل عمران: ١١٩]، وقالَ الشاعِرُ: ؎ قَدْ أفْنى أنامِلَهُ أزْمَةً ∗∗∗ ∗∗∗ فَأضْحى يَعَضُّ عَلَيَّ الوَظِيفا وقالَ الآخَرُ: ؎ لَوْ أنَّ سَلْمى أبْصَرَتْ تَخَدُّدِي ∗∗∗ ∗∗∗ ودِقَّةً في عَظْمِ ساقِي ويَدِي ؎ وبُعْدَ أهْلِي وجَفاءَ عَوَّدِي ∗∗∗ ∗∗∗ عَضَّتْ مِنَ الوَجْدِ بِأطْرافِ اليَدِ ومِمّا ذُكِرَ أنْ يَكُونَ المَعْنى: ورَدُّوا أيْدِيَ أنْفُسِهِمْ في أفْواهِ الرُسُلِ تَسْكِينًا لَهُمْ، ودَفْعًا في صَدْرِ قَوْلِهِمْ، قالَهُ الحَسَنُ، وهَذا أشْنَعُ في الرَدِّ وأذْهَبُ في الِاسْتِطالَةِ عَلى الرُسُلِ والنَيْلِ مِنهم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وتَحْتَمِلُ الألْفاظُ مَعْنًى رابِعًا، وهو أنْ يُتَجَوَّزَ في لَفْظِ الأيْدِي، أيْ إنَّهم رَدُّوا أقْوالَهم ومُكافَحَتَهم ومُدافَعَتَهم فِيما قالُوهُ بِأفْواهِهِمْ مِنَ التَكْذِيبِ، فَكَأنَّ المَعْنى: رَدُّوا (p-٢٢٨)جَمِيعَ مُدافَعَتِهِمْ في أفْواهِهِمْ، أيْ في أقْوالِهِمْ، وعَبَّرَ عن جَمِيعِ المُدافَعَةِ بِالأيْدِي إذِ الأيْدِي مَوْضِعٍ لِشَدِّ المُدافَعَةِ والمُرادَّةِ، وحَكى المَهْدَوِيُّ قَوْلًا ضَعِيفًا، وهو أنَّ المَعْنى: أخَذُوا أيْدِيَ الرُسُلِ فَجَعَلُوها في أفْواهِ الرُسُلِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا عِنْدِي لا وجْهَ لَهُ. ومِمّا ذُكِرَ عَلى أنَّ "الأيْدِي" أيادِي النِعَمِ ما ذَكَرَهُ الزَجّاجُ، وذَلِكَ أنَّهم رَدُّوا مِنَ الرُسُلِ في الإنْذارِ والتَبْلِيغِ بِأفْواهِهِمْ، أيْ بِأقْوالِهِمْ، فَوَصَلَ الفِعْلُ بِـ "فِي" عِوَضَ وُصُولِهِ بِـ "الباءِ"، ورَوِيَ نَحْوُهُ عن مُجاهِدٍ، وقَتادَةَ. والمَشْهُورُ جَمْعُ "يَدِ" النِعْمَةِ عَلى "أيادٍ"، ولا يُجْمَعُ عَلى "أيْدٍ"، إلّا أنَّ جَمْعَهُ عَلى "أيْدٍ" لا يَكْسِرُ بابًا ولا يَنْقُضُ أصْلًا وبِحَسْبِنا أنَّ الزَجّاجَ قَدَّرَهُ وتَأوَّلَ عَلَيْهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَحْتَمِلُ اللَفْظُ -عَلى هَذا- مَعْنًى ثانِيًا، أنْ يَكُونَ المَقْصُودُ: رَدُّوا إنْعامَ الرُسُلِ في أفْواهِ الرُسُلِ، أيْ لَمْ يَقْبَلُوهُ، كَما تَقُولُ لِمَن لا يُعْجِبُكَ كَلامُهُ: أمْسِكْ يا فُلانُ كَلامَكَ في فِيكَ، ومِن حَيْثُ كانَتْ أيْدِي الرُسُلِ أقْوالًا ساغَ هَذا فِيها، كَما تَقُولُ: كَسَرْتُ كَلامَ فَلانٍ في فَمِهِ، أيْ: رَدَدْتُهُ عَلَيْهِ وقَطَعْتُهُ بِقِلَّةِ القَبُولِ وبِالرَدِّ، وحَكى المَهْدَوِيُّ عن مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: مَعْناهُ: رَدُّوا نِعَمَ الرُسُلِ في أفْواهِ أنْفُسِهِمْ بِالتَكْذِيبِ والنَجْهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَفِي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ يَقْتَضِي أنَّهم شَكُّوا في صِدْقِ نُبُوَّتِهِمْ وأقْوالِهِمْ أو كَذَّبُوها، وتَوَقَّفُوا في إمْضاءِ أحَدِ المُعْتَقَدَيْنِ، ثُمَّ ارْتابُوا بِالمُعْتَقَدِ (p-٢٢٩)الواحِدِ في صِدْقِ نُبُوَّتِهِ، فَجاءَهم شَكٌّ مُؤَكَّدٌ بِارْتِيابٍ، وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرَّفٍ: " مِمّا تَدْعُوَنّا " بِنُونٍ واحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب