الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَسَكَنْتُمْ في مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم وتَبَيَّنَ لَكم كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وضَرَبْنا لَكم الأمْثالَ﴾ ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهم وعِنْدَ اللهِ مَكْرَهم وإنْ كانَ مَكْرَهم لِتَزُولَ مِنهُ الجِبالُ﴾ ﴿فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وعْدِهِ رُسُلَهُ إنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾ ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضُ والسَماواتُ وبَرَزُوا لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ﴾ يَقُولُ عَزَّ وجَلَّ: أيُّها المُعْرِضُونَ عن آياتِ اللهِ مِن جَمِيعِ العالَمِ سَكَنْتُمْ في مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِالكُفْرِ مِنَ الأُمَمِ السالِفَةِ فَنَزَلَتْ بِهِمُ المُثُلاتُ، فَكانَ قَوْلُكُمُ الِاعْتِبارَ والِاتِّعاظَ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَتَبَيَّنَ" بِتاءٍ، وقَرَأ السُلَمِيُّ -فِيما حَكى المَهْدَوِيُّ -: (p-٢٦٢)"وَنُبَيِّنْ" بِنُونِ عَظْمَةٍ مَضْمُومَةٍ وجَزْمٍ عَلى مَعْنى: أو لَمْ نُبَيِّنْ، عَطْفٌ عَلى ﴿أوَلَمْ تَكُونُوا﴾ [إبراهيم: ٤٤]، قالَ أبُو عَمْرٍو: وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ بِضَمِّ النُونِ ورَفْعِ النُونِ الأخِرَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ﴾ هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: وعِنْدَ اللهِ عِقابُ مَكْرِهِمْ، أو جَزاءُ مَكْرِهِمْ، ويُحْتَمَلُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ والضَمِيرُ لِمُعاصِرِيهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِمّا يُقالُ لِلظَّلَمَةِ يَوْمَ القِيامَةِ، والضَمِيرُ لِلَّذِينِ سَكَنَ في مَنازِلِهِمْ. وقَرَأ السَبْعَةُ سِوى الكِسائِيِّ: ﴿وَإنْ كانَ مَكْرُهم لِتَزُولَ مِنهُ الجِبالُ﴾ بِكَسْرِ اللامِ مَن لِتَزُولَ وفَتْحِ الثانِيَةِ، وهي قِراءَةُ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ وجَماعَةٍ، وهَذا عَلى أنْ تَكُونَ "إنْ" نافِيَةً بِمَعْنى "ما"، ومَعْنى الآيَةِ تَحْقِيرُ مَكْرِهِمْ، وأنَّهُ ما كانَ لِتَزُولَ مِنهُ الشَرائِعُ والنُبُوّاتُ وأقْدارُ اللهِ بِها الَّتِي هي كالجِبالِ في ثُبُوتِها وقُوَّتِها، وهَذا تَأْوِيلُ الحَسَنِ وجَماعَةٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ. وتَحْتَمِلُ عِنْدِي هَذِهِ القِراءَةُ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى تَعْظِيمِ مَكْرِهِمْ، أيْ: وإنْ كانَ شَدِيدًا إنَّما يَفْعَلُ لِتَذْهَبَ بِهِ عِظامُ الأُمُورِ، وقَرَأ الكِسائِيُّ: "لَتَزُولُ" بِفَتْحِ اللامِ الأُولى ورَفْعِ الثانِيَةِ، وهي قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وابْنِ وثّابٍ، وهَذا عَلى أنْ تَكُونَ "إنْ" مُخَفَّفَةً مِنَ الثَقِيلَةِ، ومَعْنى الآيَةِ تَعْظِيمُ مَكْرِهِمْ وشِدَّتِهِ، أيْ أنَّهُ مِمّا يُشْقى بِهِ، ويُزِيلُ الجِبالَ مِن مُسْتَقَرّاتِها بِقُوَّتِهِ، ولَكِنَّ اللهَ تَعالى أبْطَلَهُ ونَصَرَ أولِياءَهُ، وهَذا أشَدُّ في العِبْرَةِ. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وعُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "وَإنْ كادَ مَكْرُهُمْ"، ويَتَرَتَّبُ مَعَ هَذِهِ القِراءَةِ في "لِتَزُولَ" ما تَقَدَّمَ، وذَكَرَ أبُو حاتِمٍ أنَّ في قِراءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "وَلَوْلا كَلِمَةُ اللهِ لَزالَ مِن مَكْرِهِمُ الجِبالُ"، وحَكى الطَبَرِيُّ عن بَعْضِ المُفَسِّرِينَ أنَّهم جَعَلُوا هَذِهِ الآيَةَ إشارَةً إلى ما فَعَلَ نَمْرُوذُ، إذْ عَلَّقَ التابُوتَ بَيْنَ الأنْسُرِ ورَفَعَ لَها اللَحْمَ في أطْرافِ الرِماحِ بَعْدَ أنْ أجاعَها، ودَخَلَ هو وحاجِبُهُ في (p-٢٦٣)التابُوتِ فَعَلَتْ بِهِما الأنْسُرُ حَتّى قالَ لَهُ النَمْرُودُ: ماذا تَرى؟ قالَ: أرى بَحْرًا وجَزِيرَةً، يُرِيدُ الدُنْيا المَعْمُورَةَ، ثُمَّ قالَ: ماذا تَرى؟ قالَ: أرى غَمامًا ولا أرى جَبَلًا، فَكَأنَّ الجِبالَ زالَتْ عن نَظَرِ العَيْنِ بِهَذا المَكْرِ، وذُكِرَ ذَلِكَ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وذَلِكَ عِنْدِي لا يَصِحُّ عن عَلِيٍّ، وفي هَذِهِ القِصَّةِ كُلِّها ضَعْفٌ مِن طَرِيقِ المَعْنى، وذَلِكَ أنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ أنَّ تَصْعَدُ الأنْسُرُ كَما وصَفَ، وبِعِيدٌ أنْ يُغَرِّرَ أحَدٌ بِنَفْسِهِ في مِثْلِ هَذا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ﴾ الآيَةُ. تَثْبِيتٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ ولِغَيْرِهِ مَن أُمَّتِهِ، ولَمْ يَكُنِ النَبِيُّ ﷺ مِمَّنْ يَحْسَبُ مِثْلَ هَذا، ولَكِنْ خَرَجَتِ العِبارَةُ هَكَذا، والمُرادُ بِما فِيها مِنَ الزَجْرِ مَن شارَكَ النَبِيَّ ﷺ في أنْ قَصَدَ تَثْبِيتَهُ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "مُخْلِفَ وعْدِهِ" بِالإضافَةِ "رُسُلَهُ" بِالنَصْبِ، وأضافَ "مُخْلِفَ" إلى "الوَعْدِ" إذْ لِلْإخْلافِ تَعَلُّقٌ بِالوَعِيدِ عَلى تَجَوُّزٍ، وإنَّما حَقِيقَةُ تَعَلُّقِهِ بِالرُسُلِ، وهَذا نَحْوُ قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ تَرى الثَوْرَ فِيها مُدْخِلَ الظِلِّ رَأْسَهُ ∗∗∗ وسائِرُهُ بادٍ إلى الشَمْسِ أجْمَعُ وكَقَوْلِكَ: "هَذا مُعْطِي زَيْدٍ دِرْهَمًا"، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "مُخْلِفَ وعْدَهُ رُسُلِهِ" بِنَصْبِ "الوَعْدِ" وخَفْضِ "الرُسُلِ" عَلى الإضافَةِ، وهَذِهِ القِراءَةُ ذَكَرَها الزَجّاجُ وضَعَّفَها، وهي تَحُولُ بَيْنَ المُضافِ والمُضافِ إلَيْهِ بِالمَفْعُولِ، وهي كَقَوْلِ الشاعِرِ: ؎ فَزَجَجْتُها بِمَزَجَّةِ ∗∗∗ ∗∗∗ زَجَّ القَلُوصَ أبِي مَزادَهْ (p-٢٦٤)وَأمّا إذا حِيلَ في مِثْلِ هَذا بِالظَرْفِ فَهو أشْهَرُ في الكَلامِ كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ دَرُّ اليَوْمَ مَن لامَها وقالَ آخَرُ: كَما خُطَّ الكِتابُ بِكَفِّ يَوْمًا... يَهُودِيٍّ يُقارِبُ أو يُزِيلُ والمَعْنى: لا تَحْسَبْ يا مُحَمَّدُ أنْتَ ومَنِ اعْتَبَرَ بِالأمْرِ مِن أُمَّتِكَ وغَيْرِهِمْ أنَّ اللهَ لا يُنْجِزُ وعْدَهُ في نَصْرِ رُسُلِهِ وإظْهارِهِمْ، ومُعاقَبَةِ مَن كَفَرَ بِهِمْ في الدُنْيا والآخِرَةِ، فَإنَّ اللهَ عَزِيزٌ لا يَمْتَنِعُ مِنهُ شَيْءٌ، ذُو انْتِقامٍ مِنَ الكَفَرَةِ، لا سَبِيلَ إلى عَفْوِهِ عنهم. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ﴾ الآيَةُ. "يَوْمَ" ظَرْفٌ لِلِانْتِقامِ المَذْكُورِ قَبْلَهُ، ورُوِيَ في "تَبْدِيلِ الأرْضِ" أقْوالٌ: مِنها في الصَحِيحِ أنَّ اللهَ يُبَدِّلُها هَذِهِ الأرْضَ بِأرْضٍ عَفْراءَ بَيْضاءَ كَأنَّها قُرْصَةُ النَقِيِّ، وفي الصَحِيحِ أنَّ اللهَ يُبَدِّلُها خُبْزَةُ يَأْكُلُ المُؤْمِنُ مِنها مِن تَحْتِ قَدَمَيْهِ، ورُوِيَ أنَّها تُبَدَّلُ أرْضًا مِن فِضَّةٍ، ورُوِيَ أنَّها أرْضٌ كالفِضَّةِ مِن بَياضِها، ورُوِيَ أنَّها تُبَدَّلَ (p-٢٦٥)مِن نارٍ وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: تَبْدِيلُ الأرْضِ هو نَسْفُ جِبالِها، وتَفْجِيرُ بِحارِها، وتَغْيِيرُها حَتّى لا يُرى فِيها عِوَجًا ولا أمْتًا، فَهَذِهِ حالٌ غَيْرُ الأُولى، وبِهَذا وقَعَ التَبْدِيلُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وسَمِعْتُ مِن أبِي رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ رُوِيَ أنَّ التَبْدِيلَ يَقَعُ في الأرْضِ، ولَكِنْ يُبَدَّلُ لِكُلِّ فَرِيقٍ بِما تَقْتَضِيهِ حالُهُ، فالمُؤْمِنُ يَكُونُ عَلى خُبْزٍ يَأْكُلُ مِنهُ بِحَسْبِ حاجَتِهِ إلَيْهِ، وفَرِيقٌ يَكُونُ عَلى فِضَّةٍ -إنَّ صَحَّ السَنَدُ بِها-، وفَرِيقُ الكَفَرَةِ يَكُونُونَ عَلى نارٍ، ويَجُوزُ هَذا مِمّا كُلُّهُ واقِعٌ تَحْتَ قُدْرَةِ اللهِ تَعالى. وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ التَبْدِيلَ يَكُونُ بِأرْضٍ بَيْضاءَ عَفْراءَ لَمْ يُعْصَ اللهُ فِيها، ولا سُفِكَ فِيها دَمٌ، ولَيْسَ فِيها مَعْلَمٌ لِأحَدٍ. ورُوِيَ فِيها عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "المُؤْمِنُونَ وقْتَ التَبْدِيلِ في ظِلِّ العَرْشِ"»، ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ قالَ: « "الناسُ وقْتَ التَبْدِيلِ عَلى الصِراطِ"،» وعنهُ أنَّهُ قالَ: « "الناسُ حِينَئِذٍ أضْيافُ اللهِ فَلا يُعْجِزُهم ما لَدَيْهِ".» و"بَرَزُوا" مَأْخُوذٌ مِنَ البِرازِ، أيْ: ظَهَرُوا بَيْنَ يَدَيْهِ لا يُوارِيهِمْ بِناءٌ ولا حِصْنٌ. وقَوْلُهُ: ﴿الواحِدِ القَهّارِ﴾ صِفَتانِ لائِقَتانِ بِذِكْرِ هَذِهِ الحالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب