الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهم فَيُضِلُّ اللهُ مِن يَشاءُ ويَهْدِي مِن يَشاءُ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿وَلَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُلُماتِ إلى النُورِ وذَكِّرْهم بِأيّامِ اللهِ إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾
هَذِهِ الآيَةُ رَدٌّ وطَعْنٌ عَلى المُسْتَغْرِبِينَ أمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ، أيْ: لَسْتَ يا مُحَمَّدُ بِبِدْعٍ مِنَ الرُسُلِ، وإنَّما أرْسَلْناكَ لِتُخْرِجَ الناسَ مِنَ الظُلُماتِ إلى النُورِ عَلى عادَتِنا في رُسُلِنا في أنْ نَبْعَثَهم بِألْسِنَةِ أُمَمِهِمْ لِيَقَعَ التَكَلُّمُ بِالبَيانِ والعِبارَةِ المُتَمَكِّنَةِ، ثُمَّ يَكُونُ تَبايُنُ الناسِ مِن غَيْرِ أهْلِ اللِسانِ عِيالًا في التَبْيِينِ عَلى أهْلِ اللِسانِ الَّذِي يَكُونُ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، وجَعَلَ اللهُ العِلَّةَ في إرْسالِ الرُسُلِ بِألْسِنَةِ قَوْمِهِمْ طَلَبَ البَيانِ، ثُمَّ قَطَعَ (p-٢٢٢)قَوْلُهُ: "فَيُضِلُّ"، أيْ إنَّ النَبِيَّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ إنَّما غايَتُهُ أنْ يُبَلِّغَ ويُبَيِّنَ، ولَيْسَ فِيما كُلِّفَ أنْ يَهْدِيَ ويُضِلَّ، ذَلِكَ بِيَدِ اللهِ يُنْفِذُ فِيهِ سابِقَ قَضائِهِ، ولَهُ في ذَلِكَ العِزَّةُ الَّتِي لا تُعارَضُ، والحِكْمَةُ الَّتِي لا تُعَلَّلُ، لا رَبَّ غَيْرُهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَإنِ اعْتَرَضَ أعْجَمِيٌّ بِأنْ يَقُولَ: مَن أيْنَ يُبَيِّنُ هَذا الرَسُولُ لِي الشَرِيعَةَ وأنا لا أفْهَمُهُ؟ قِيلَ لَهُ: أهْلُ المَعْرِفَةِ بِاللِسانِ يُعَبِّرُونَ لَكَ، وفي ذَلِكَ كِفايَتُكَ، وإنْ قالَ: ومَن أيْنَ تَتَبَيَّنُ لِي المُعْجِزَةَ وأفْهَمُ الإعْجازَ وأنا لا أفْهَمُ اللُغَةَ؟ قِيلَ لَهُ: الحُجَّةُ عَلَيْكَ إذْعانُ أهْلِ الفَصاحَةِ والَّذِينَ كانُوا يُظَنُّ بِهِمْ أنَّهم قادِرُونَ عَلى المُعارَضَةِ، وبِإذْعانِهِمْ قامَتِ الحُجَّةُ عَلى البَشَرِ، كَما قامَتِ الحُجَّةُ في مُعْجِزَةِ مُوسى بِإذْعانِ السَحَرَةِ، وفي مُعْجِزَةِ عِيسى بِإذْعانِ الأطِبّاءِ.
و"اللِسانُ" -فِي هَذِهِ الآيَةِ- يُرادُ بِهِ اللُغَةُ، وقَرَأ أبُو السَمّالِ: "بِلِسْنِ قَوْمِهِ" بِسُكُونِ السِينِ دُونَ ألْفٍ، كَرِيشٍ ورِياشٍ، ونَقُولُ: لِسْنٌ ولِسانٌّ في "اللُغَةِ"، فَأمّا العُضْوُ فَلا يُقالُ فِيهِ: لِسْنٌ بِسُكُونِ السِينِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى﴾ الآيَةُ. آياتُ اللهِ هي العَصا، واليَدُ، وسائِرُ التِسْعِ. وقَوْلُهُ: ﴿أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ﴾، تَقْدِيرُهُ: بِأنْ أخْرِجْ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ "أنْ" مُفَسِّرَةً لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، وأمّا "الظُلُماتُ والنُورُ" فَيُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِها: مِنَ الكُفْرِ إلى الإيمانِ، وهَذا عَلى ظاهِرِ أمْرِ بَنِي إسْرائِيلَ في أنَّهم كانُوا قَبْلَ بَعْثِ مُوسى (p-٢٢٣)فِيهِمْ أشْياعًا مُتَفَرِّقِينَ في الدِينِ فَفَرْعٌ مَعَ القِبْطِ في عِبادَةِ فِرْعَوْنَ، وكُلُّهم عَلى غَيْرِ شَيْءٍ، وهَذا مَذْهَبُ الطَبَرِيُّ، وحَكاهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وإنَّ صَحَّ أنَّهم كانُوا عَلى دِينِ إبْراهِيمَ وإسْرائِيلَ ونَحْوَ هَذا فالظُلُماتُ: الذُلُّ والعُبُودِيَّةُ، والنُورُ: العِزَّةُ بِالدِينِ والظُهُورُ بِأمْرِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ وأكْثَرُ الآياتِ في رِسالَةِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ أنَّها إنَّما كانَتْ إلى بَنِي إسْرائِيلَ خاصَّةً في مَعْنى الشَرْعِ لَهُمْ، وأمْرِهِمْ ونَهْيِهِمْ بِفُرُوعِ الدِيانَةِ، وإلى فِرْعَوْنَ وأشْرافِ قَوْمِهِ في أنْ يَنْظُرُوا ويَعْتَبِرُوا في آياتِ مُوسى فَيُقِرُّوا بِاللهِ تَعالى ويُؤْمِنُوا بِهِ وبِمُوسى وبِمُعْجِزَتِهِ، ويَتَحَقَّقُوا نُبُوَّتَهُ، ويُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إسْرائِيلَ
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ولا يَتَرَتَّبُ هَذا مِنهم إلّا بِإيمانٍ بِهِ.
وأمّا أنْ تَكُونَ رِسالَتُهُ إلَيْهِمْ لِمَعْنى اتِّباعِهِ والدُخُولِ في شَرْعِهِ فَلَيْسَ هَذا بِظاهِرِ القِصَّةِ، ولا كَشَفَ الغَيْبُ ذَلِكَ، ألّا تَرى أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ خَرَجَ عنهم بِبَنِي إسْرائِيلَ فَلَوْ لَمْ يُتْبَعْ لَمَضى بِأُمَّتِهِ؟ وألّا تَرى أنَّهُ لَمْ يَدْعُ القِبْطَ بِجُمْلَتِهِمْ وإنَّما كانَ يُحاوِرُ أُولِي الأمْرِ؟ وأيْضًا فَلَيْسَ دُعاؤُهُ لَهم عَلى حَدِّ دُعاءِ نُوحٍ وهُودٍ وصالِحٍ عَلَيْهِمُ السَلامُ- أُمَمَهم في مَعْنى كُفْرِهِمْ ومَعاصِيهِمْ، بَلْ في الِاهْتِداءِ والتَزَكِّي وإرْسالِ بَنِي إسْرائِيلَ ومِمّا يُؤَيِّدُ هَذا أنَّهُ لَوْ كانَتْ دَعْوَتُهُ لِفِرْعَوْنَ والقِبْطِ عَلى حُدُودِ دَعْوَتِهِ لِبَنِي إسْرائِيلَ فَلِمَ كانَ يَطْلُبُ بِأمْرِ اللهِ أنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إسْرائِيلَ بَلْ كانَ يَطْلُبُ أنْ يُؤْمِنَ الجَمِيعُ ويَتَشَرَّعُوا بِشَرْعِهِ ويَسْتَقِرَّ الأمْرُ، وأيْضًا فَلَوْ كانَ مَبْعُوثًا إلى القِبْطِ لَرَدَّهُ اللهُ إلَيْهِمْ حِينَ غَرِقَ فِرْعَوْنُ وجُنُودُهُ، ولَكِنْ لَمْ يَكُونُوا أُمَّتَهُ لَهُ فَلَمْ يُرِدَّ إلَيْهِمْ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
واحْتَجَّ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ بُعِثَ إلى جَمِيعِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى في غَيْرِ آيَةٍ: ﴿إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ﴾ [الأعراف: ١٠٣]، و﴿إلى فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ﴾ [النمل: ١٢] واللهُ أعْلَمُ.
(p-٢٢٤)وَقَوْلُهُ: ﴿وَذَكِّرْهم بِأيّامِ اللهِ﴾ الآيَةُ. أمَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ مُوسى أنْ يَعِظَ قَوْمَهُ بِالتَهْدِيدِ بِنِقَمِ اللهِ الَّتِي أحَلَّها بِالأُمَمِ الكافِرَةِ قَبْلَهُمْ، وبِالتَعْدِيدِ لِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ في المَواطِنِ المُتَقَدِّمَةِ، وعَلى غَيْرِهِمْ مِن أهْلِ طاعَتِهِ، لِيَكُونَ جَرْيُهم عَلى مِنهاجِ الَّذِينَ أنْعَمَ عَلَيْهِمْ، وهَرَبُهم مِن طَرِيقِ الَّذِينَ حَلَّتْ بِهِمُ النَقَماتُ، وعَبَّرَ عَنِ النِعَمِ والنِقَمِ بِالأيّامِ إذْ هي في أيّامٍ، وفي هَذِهِ العِبارَةِ تَعْظِيمُ هَذِهِ الكَوائِنِ المُذَكَّرِ بِها، ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُهُمْ: يَوْمٌ عَصِيبٌ، ويَوْمٌ عَبُوسٌ، ويَوْمٌ بَسّامٌ، وإنَّما الحَقِيقَةُ وصْفُ ما وقَعَ فِيهِ مِنَ الشِدَّةِ أوِ السُرُورِ، وحَكى الطَبَرِيَّ عن فِرْقَةٍ أنَّها قالَتْ: أيّامُ اللهِ: نِعَمُهُ، وعن فِرْقَةٍ أنَّها قالَتْ: أيّامُ اللهِ: نِقَمُهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ولَفْظَةُ "الأيّامِ" تَعُمُّ المَعْنَيَيْنِ، لِأنَّ التَذْكِيرَ يَقَعُ بِالوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾ إنَّما أرادَ: لِكُلِّ مُؤْمِنٍ ناظِرٍ لِنَفْسِهِ، فَأخَذَ مِن صِفاتِ المُؤْمِنِ صِفَتَيْنِ تَجْمَعانِ أكْثَرَ الخِصالِ، وتَعُمّانِ أجْمَلَ الأفْعالِ.
{"ayahs_start":4,"ayahs":["وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِیُبَیِّنَ لَهُمۡۖ فَیُضِلُّ ٱللَّهُ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ","وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرۡهُم بِأَیَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورࣲ"],"ayah":"وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِیُبَیِّنَ لَهُمۡۖ فَیُضِلُّ ٱللَّهُ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق