الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإذْ قالَ إبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ﴾ ﴿رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ الناسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي ومَن عَصانِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿رَبَّنا إنِّي أسْكَنْتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَلاةَ فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِن الناسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وارْزُقْهم مِن الثَمَراتِ لَعَلَّهم يَشْكُرُونَ﴾ المَعْنى: واذْكُرْ إذْ قالَ إبْراهِيمُ، و"البَلَدُ": مَكَّةُ، و"آمِنًا" مَعْناهُ: فِيهِ أمْنٌ، فَوَصْفُهُ بِالأمْنِ تَجَوُّزًا، كَما قالَ: ﴿فِي يَوْمٍ عاصِفٍ﴾ [إبراهيم: ١٨]، وكَما قالَ الشاعِرُ: ؎ وما لَيْلُ المَطِيِّ بِنائِمِ و"اجْنُبْنِي" مَعْناهُ: وامْنَعْنِي، يُقالُ: جَنَبَهُ كَذا وجَنَّبَهُ وأجْنَبَهُ إذا مَنَعَهُ مِنَ الأمْرِ وحِماهُ (p-٢٥٤)مِنهُ، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ، والثَقَفِيُّ: "وَأجْنِبْنِي" بِقَطْعِ الألِفِ وكَسْرِ النُونِ. و"بَنِيَّ" أرادَ بَنِي صُلْبِهِ، ولِذَلِكَ أُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ فِيهِمْ، وأمّا باقِي نَسْلِهِ فَقَدْ عَبَدُوا الأصْنامَ، وهَذا الدُعاءُ مِنَ الخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ يَقْتَضِي إفْراطَ خَوْفِهِ عَلى نَفْسِهِ ومَن حَصَلَ في رُتْبَتِهِ، فَكَيْفَ يَخافُ أنْ يَعْبُدَ صَنَمًا؟ لَكِنَّ هَذِهِ الآيَةَ يَنْبَغِي أنْ يُقْتَدى بِها في الخَوْفِ وطَلَبِ الخاتِمَةِ. و"الأصْنامُ" هي المَنحُوتَةُ عَلى خِلْقَةِ البَشَرِ، وما كانَ مَنحُوتًا عَلى غَيْرِ خِلْقَةِ البَشَرِ فَهي أوثانٌ، قالَهُ الطَبَرِيُّ عن مُجاهِدٍ، ونَسَبَ إلى الأصْنامِ أنَّها أضَلَّتْ كَثِيرًا مِنَ الناسِ تَجَوُّزًا إذْ كانَتْ عُرْضَةَ الإضْلالِ والأسْبابِ المَنصُوبَةِ لِلْغَيِّ، وعَلَيْها تَنْشَأُ الأعْمالُ، وحَقِيقَةُ الإضْلالِ إنَّما هي لِمُخْتَرِعِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَمَن عَصانِي﴾ ظاهِرُهُ بِالكُفْرِ لِمُعادَلَةِ قَوْلِهِ: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي﴾ وإذا كانَ ذَلِكَ، كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: ﴿فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ مَعْناهُ: بِتَوْبَتِكَ عَلى الكَفَرَةِ حَتّى يُؤْمِنُوا، لا أنَّهُ أرادَ أنَّ اللهَ يَغْفِرُ لِكافِرٍ، ولَكِنْ حَمَلَهُ عَلى هَذِهِ العِبارَةِ ما كانَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِهِ مِنَ القَوْلِ الجَمِيلِ والنُطْقِ الحَسَنِ وجَمِيلِ الأدَبِ ﷺ، قالَ قَتادَةُ: اسْمَعُوا قَوْلَ الخَلِيلِ، واللهِ ما كانُوا طَعّانِينَ ولا لَعّانِينَ، وكَذَلِكَ قالَ نَبِيُّ اللهِ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿وَإنْ تَغْفِرْ لَهم فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [المائدة: ١١٨]، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ حَدِيثًا إلى النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ تَلا هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ، ثُمَّ دَعا لِأُمَّتِهِ، فَبُشِّرَ فِيهِمْ، وكانَ إبْراهِيمُ التَيْمِيُّ يَقُولُ: مَن يَأْمَنُ عَلى نَفْسِهِ بَعْدَ خَوْفِ الخَلِيلِ عَلى نَفْسِهِ مِن عِبادَةِ الأصْنامِ؟ وقَوْلُهُ: ﴿مِن ذُرِّيَّتِي﴾ يُرِيدُ إسْماعِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ، وذَلِكَ أنْ سارَّةَ لَمّا غارَتْ بِهاجَرَ بَعْدَ أنْ ولَدَتْ إسْماعِيلَ تَعَذَّبَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ بِهِما، فَرَكِبَ البُراقَ هو وهاجَرُ والطِفْلُ، فَجاءَ في يَوْمٍ واحِدٍ مِنَ الشامِ إلى بَطْنِ مَكَّةَ، فَنَزَلَ وتَرَكَ ابْنَهُ وأمَتَهُ هُنالِكَ، ورَكِبَ مُنْصَرِفًا مِن يَوْمِهِ ذَلِكَ، وكانَ هَذا كُلُّهُ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَبارَكَ تَعالى، فَلَمّا ولّى دَعا (p-٢٥٥)بِمُضَمَّنِ هَذِهِ الآيَةِ، وأمّا كَيْفِيَّةُ بَقاءِ هاجَرَ وما صَنَعَتْ وسائِرُ خَبَرِ إسْماعِيلَ فَفي كِتابِ البُخارِيِّ والسِيَرِ وغَيْرِهِ، و"مِن" في قَوْلِهِ: ﴿مِن ذُرِّيَّتِي﴾ لِلتَّبْعِيضِ، لِأنَّ إسْحاقَ كانَ بِالشامِ. و"الوادِي": ما بَيْنَ الجَبَلَيْنِ ولَيْسَ مِن شَرْطِهِ أنْ يَكُونَ فِيهِ ماءٌ، وهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ قَدْ كانَ عَلِمَ مِنَ اللهِ تَعالى أنَّهُ لا يُضَيِّعُ هاجَرَ وابْنَها في ذَلِكَ الوادِي، وأنَّهُ يَرْزُقُهُما الماءَ، وإنَّما نَظَرَ النَظَرَ البَعِيدَ لِلْعاقِبَةِ فَقالَ: ﴿غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾، ولَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ مِنَ اللهِ لَقالَ: "غَيْرِ ذِي ماءٍ" عَلى ما كانَتْ عَلَيْهِ حالُ الوادِي عِنْدَ ذَلِكَ. وقَوْلُهُ: ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ﴾ إمّا أنْ يَكُونَ البَيْتُ قَدْ كانَ قَدِيمًا عَلى ما رُوِيَ قَبْلَ الطُوفانِ، وكانَ عِلْمُهُ عِنْدَ إبْراهِيمَ، وإمّا أنْ يَكُونَ قالَها لَمّا كانَ قَدْ أعْلَمَهُ اللهُ تَعالى أنَّهُ سَيَبْنِي هُنالِكَ بَيَّتًا لِلَّهِ تَعالى فَيَكُونُ مُحَرَّمًا، والمَعْنى: مُحَرَّمًا عَلى الجَبابِرَةِ وأنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَتُهُ ويُسْتَخَفَّ بِحَقِّهِ، قالَهُ قَتادَةُ وغَيْرُهُ، وجَمْعُهُ الضَمِيرَ في قَوْلِهِ: "لِيُقِيمُوا" يَدُلُّ عَلى أنَّ اللهَ قَدْ أعْلَمَهُ أنَّ ذَلِكَ الطِفْلَ سَيُعَقِّبُ هُنالِكَ ويَكُونُ لَهُ نَسْلٌ. واللامُ في قَوْلِهِ: "لِيُقِيمُوا" هي لامُ "كَيْ"، هَذا هو الظاهِرُ فِيها، عَلى أنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "أسْكَنْتُ"، والنِداءُ اعْتِراضٌ، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ لامَ أمْرٍ، كَأنْ رَغِبَ إلى اللهِ أنْ يُوَفِّقَهم بِإقامَةِ الصَلاةِ، ثُمَّ ساقَ عِبارَةً مُلْزَمَةً لَهم إقامَةَ الصَلاةِ، وفي اللَفْظِ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- بَعْضُ تَجَوُّزٍ يَرْبُطُهُ المَعْنى ويُصْلِحُهُ. و"الأفْئِدَةُ": القُلُوبُ، جَمْعُ فُؤادٍ. سُمِّيَ بِذَلِكَ لِإنْفادِهِ، مَأْخُوذٌ مِن: فَأدَ، ومِنهُ المُفْتَأدُ وهو مُسْتَوْقِدُ النارِ حَيْثُ يُشْوى اللَحْمُ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ بِخِلافٍ عنهُ: "فاجْعَلْ أفْيِدَةً" بِياءٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿مِنَ الناسِ﴾ تَبْعِيضٌ، ومُرادُهُ: المُؤْمِنُونَ، قالَ (p-٢٥٦)مُجاهِدٌ: لَوْ قالَ إبْراهِيمُ: "أفْئِدَةَ الناسِ" لازْدَحَمَتْ عَلى البَيْتِ فارِسٌ والرُومُ، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "لَحَجَّتْهُ اليَهُودُ والنَصارى". و"تَهْوِي" مَعْناهُ: تَسِيرُ بِجِدٍّ وقَصْدٍ مُسْتَعْجَلٍ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ وإذا رَمَيْتَ بِهِ الفِجاجَ رَأيْتَهُ ∗∗∗ ∗∗∗ يَهْوِي مَخارِمَها هُوِيَّ الأجْدَلِ ومِنهُ البَيْتُ المَرْوِيُّ: ؎ تَهْوِي إلى مَكَّةَ تَبْغِي الهُدى ∗∗∗ ∗∗∗ ما مُؤْمِنُو الجِنِّ كَأجَناسِها وقَرَأ سَلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: "تُهْوِي" بِضَمِّ التاءِ، مِن أهْوى، وهو الفِعْلُ المَذْكُورُ مُعَدّى بِالهَمْزَةِ، وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، ومُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ومُجاهِدٌ (تَهْوِي) بِفَتْحِ التاءِ والواوِ، ويُعَدّى هَذا الفِعْلَ -وَهُوَ مِنَ الهَوى- بِـ "إلى"، لِما كانَ مُقْتَرِنًا بِسَيْرٍ وقَصْدٍ، ورُوِيَ عن مُسْلِمِ بْنِ مُحَمَّدِ الطائِفِيِّ أنَّهُ لَمّا دَعا عَلَيْهِ السَلامُ بِأنْ يُرْزَقَ سُكّانُ مَكَّةَ مِنَ الثَمَراتِ بَعَثَ اللهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ فاقْتَلَعَ بِجَناحِهِ قِطْعَةً مِن أرْضِ فِلَسْطِينَ، وقِيلَ -مِنَ الأُرْدُنَ - فَجاءَ بِها وطافَ حَوْلَ البَيْتِ بِها سَبْعًا، ووَضْعَها قُرَيْبَ مَكَّةَ، فَهي الطائِفُ، وبِهَذِهِ القِصَّةِ سُمِّيَتْ، وهي مَوْضِعُ ثَقِيفٍ، وبِها أشْجارٌ وثَمَراتٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب