الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثابِتِ في الحَياةِ الدُنْيا وفي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللهُ الظالِمِينَ ويَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ﴾ ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا وأحَلُّوا قَوْمَهم دارَ (p-٢٤٧)البَوارِ﴾ ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وبِئْسَ القَرارُ﴾ ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا لِيُضِلُّوا عن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإنَّ مَصِيرَكم إلى النارِ﴾ القَوْلُ الثابِتُ في الحَياةِ الدُنْيا وفي الأخَرَةِ كَلِمَةُ الإخْلاصِ والنَجاةُ مِنَ النارِ "لا إلَهَ إلّا اللهُ" والإقْرارُ بِالنُبُوَّةِ، وهَذِهِ الآيَةُ تَعُمُّ العالَمَ مِن لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَلامُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وقالَ طاوُسُ، وقَتادَةُ، وجُمْهُورُ العُلَماءِ: ﴿فِي الحَياةِ الدُنْيا﴾ هي مُدَّةُ حَياةِ الإنْسانِ، ﴿وَفِي الآخِرَةِ﴾ هي وقْتُ سُؤالِهِ في القَبْرِ، وقالَ البَراءُ بْنُ عازِبٍ وجَماعَةٌ: ﴿فِي الحَياةِ الدُنْيا﴾ هي وقْتُ سُؤالِهِ في قَبْرِهِ، ورَواهُ البَراءُ عَنِ النَبِيِّ ﷺ في لَفْظٍ مُتَأوَّلٍ، لِأنَّ ذَلِكَ في مُدَّةِ وُجُودِ الدُنْيا، وقَوْلُهُ: " في الآخِرَةِ " هو يَوْمُ القِيامَةِ عِنْدَ العَرْضِ. والأوَّلُ أحْسَنُ، ورَجَّحَهُ الطَبَرِيُّ. و"الظالِمُونَ" في هَذِهِ الآيَةِ: الكافِرُونَ، بِدَلِيلِ أنَّهُ عادَلَ بِهِمُ المُؤْمِنِينَ، وعادَلَ التَثْبِيتَ بِالإضْلالِ، وقَوْلُهُ: ﴿وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ﴾ تَقْرِيرٌ لِهَذا التَقْسِيمِ المُتَقَدِّمِ، وكَأنَّ امْرَءًا رَأى التَقْسِيمَ فَطَلَبَ في نَفْسِهِ عِلَّتَهُ فَقِيلَ لَهُ: ﴿وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ﴾ بِحَقِّ المُلْكِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ رَدٌّ عَلى القَدَرِيَّةِ. وذَكَرَ الطَبَرِيُّ في صِفَةِ مُساءَلَةِ العَبْدِ في قَبْرِهِ أحادِيثَ مِنها ما وقَعَ في الصَحِيحِ، وهي مِن عَقائِدَ الدِينِ، وأنْكَرَتْ ذَلِكَ المُعْتَزِلَةُ، ولَمْ تَقُلْ بِأنَّ العَبْدَ يُسْألُ في قَبْرِهِ، وجَماعَةُ السُنَّةِ تَقُولُ: إنَّ اللهَ يَخْلُقُ لَهُ في قَبْرِهِ إدْراكاتٍ وتَحْصِيلًا، إمّا بِحَياةٍ كالمُتَعارَفَةِ وإمّا بِحُضُورِ النَفْسِ وإنْ لَمْ تَتَلَبَّسْ بِالجَسَدِ كالعُرْفِ، كُلُّ هَذا جائِزٌ في قُدْرَةِ اللهِ تَعالى، غَيْرَ أنَّ في الأحادِيثِ إنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِعالِ، ومِنها أنَّهُ يَرى الضَوْءَ كالشَمْسِ دَنَتْ لِلْغُرُوبِ، وفِيها: أنَّهُ يُراجِعُ، وفِيها: فَتُعادُ رُوحُهُ إلى جَسَدِهِ، وهَذا كُلُّهُ يَتَضَمَّنُ الحَياةَ، فَسُبْحانَ رَبِّ هَذِهِ القُدْرَةِ. (p-٢٤٨)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا﴾، هَذا تَنْبِيهٌ عَلى مِثالٍ مِنَ الظالِمِينَ، والتَقْدِيرُ: بَدَّلُوا شُكْرَ نِعْمَةِ اللهِ كُفْرًا، وهَذا كَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكم أنَّكم تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: ٨٢]، ونِعْمَةُ اللهِ المُشارُ إلَيْها في هَذِهِ الآيَةِ هو مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ ودِينُهُ، أنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلى قُرَيْشٍ فَكَفَرُوا النِعْمَةَ ولَمْ يَقْبَلُوها وتَبَدَّلُوا بِها الكُفْرَ، والمُرادُ بِالَّذِينَ كَفَرَةُ قُرَيْشٍ جُمْلَةً، هَذا بِحَسْبِ ما اشْتُهِرَ مِن حالِهِمْ، وهو قَوْلُ جَماعَةٍ مِنَ الصَحابَةِ والتابِعَيْنِ رِضْوانُ اللهِ عَلَيْهِمْ. ورُوِيَ عن عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ: أنَّها نَزَلَتْ في الأفْجَرَيْنِ مِن قُرَيْشٍ: بَنِي مَخْزُومٍ وبَنِي أُمَّيَّةَ، قالَ عُمْرُ: فَأمّا بَنُو المُغِيرَةِ فَكُفُّوا يَوْمَ بَدْرٍ، وأمّا بَنُو أُمِّيَّةٍ فَمُتِّعُوا إلى حِينٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هَذِهِ الآيَةُ في جَبَلَةَ بْنِ الأيْهَمِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولَمْ يُرِدِ ابْنُ عَبّاسٍ أنَّها فِيهِ نَزَلَتْ، لِأنَّ نُزُولَ الآيَةِ قَبْلَ قِصَّتِهِ، وإنَّما أرادَ أنَّها تَحْصُرُ مَن فَعَلَ فِعْلَ جَبَلَةَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَأحَلُّوا قَوْمَهُمْ﴾ أيْ: مَن أطاعَهم وكانَ مَعَهم في التَبْدِيلِ، فَكَأنَّ الإشارَةَ والتَعْنِيفَ إنَّما هي لِلْرُؤُوسِ والأعْلامِ، و[البَوارُ] الهَلاكُ، ومِنهُ قَوْلُ أبِي سُفْيانَ بْنِ الحارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ: ؎ يا رَسُولَ المَلِيكِ إنَّ لِسانِي ∗∗∗ راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ (p-٢٤٩)قالَهُ الطَبَرِيُّ، وقالَ هو وغَيْرُهُ: إنَّهُ يُرْوى لِابْنِ الزِبَعْرى، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِـ "البَوارِ" الهَلاكَ في الآخِرَةِ فَفَسَّرَهُ حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِ: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها﴾، أيْ: يَحْتَرِقُونَ في حَرِّها ويَحْتَمِلُونَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِـ "البَوارِ" الهَلاكَ في الدُنْيا بِالقَتْلِ والخِزْيِ فَتَكُونُ "الدارُ" قَلِيبَ بَدْرٍ ونَحْوَهُ. وقالَ عَطاءُ بْنُ يَسارٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في قَتْلى بَدْرٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: "جَهَنَّمَ" نَصْبًا عَلى حَدِّ قَوْلِكَ: "زَيْدًا ضَرَبْتُهُ" بِإضْمارِ فِعْلٍ يَقْتَضِيهِ الظاهِرُ، و"القَرارُ" مَوْضِعُ اسْتِقْرارِ الإنْسانِ. و"الأنْدادُ" جَمْعُ نِدٍّ، وهو المِثْلُ والشَبِيهُ المُناوِئُ، والمُرادُ الأصْنامُ. واللامُ في قَوْلِهِ: "لِيُضِلُّوا" بِضَمِّ الياءِ لامُ كَيْ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: "لِيَضِلُّوا" بِفَتْحِ الياءِ، أيْ هم أنْفُسُهُمْ، فاللامُ -عَلى هَذا- لامُ عاقِبَةٍ وصَيْرُورَةٍ، وقَرَأ الباقُونَ بِضَمِّها، أيْ: يُضِلُّوا غَيْرَهم. وأمْرُهم بِالتَمَتُّعِ هو وعِيدٌ وتَهْدِيدٌ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ: ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب