الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكم مِن أرْضِنا أو لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا فَأوحى إلَيْهِمْ رَبُّهم لَنُهْلِكَنَّ الظالِمِينَ﴾ ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَن خافَ مَقامِي وخافَ وعِيدِ﴾ ﴿واسْتَفْتَحُوا وخابَ كُلُّ جَبّارٍ عَنِيدٍ﴾ ﴿مِن ورائِهِ جَهَنَّمُ ويُسْقى مِن ماءٍ صَدِيدٍ﴾ (p-٢٣٢)﴿يَتَجَرَّعُهُ ولا يَكادُ يُسِيغُهُ ويَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكانٍ وما هو بِمَيِّتٍ ومِن ورائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ﴾
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أو لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا﴾، قالَتْ فِرْقَةٌ: "أو" هُنا بِمَعْنى: "إلّا أنْ"، كَما هي في قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ:
؎ فَقُلْتُ لَهُ لا تَبْكِ عَيْناكَ إنَّما ∗∗∗ نُحاوِلُ مُلْكًا أو نَمُوتَ فَنُعْذَرا
وتَحْتَمِلُ "أو" في الآيَةِ أنْ تَكُونَ عَلى بابِها لِوُقُوعِ أحَدِ الأمْرَيْنِ، لِأنَّهم حَمَلُوا رُسُلَهم عَلى أحَدِ الوَجْهَيْنِ، ولا يَحْتَمِلُ بَيْتُ امْرِئِ القَيْسِ ذَلِكَ لِأنَّهُ لَمْ يُحاوِلْ أنْ يَمُوتَ فَيُعْذَرَ، فَتَخَلَّصَتْ بِمَعْنى "إلّا أنْ" ولِذَلِكَ نُصِبَ الفِعْلُ بَعْدَها. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي بِمَعْنى "حَتّى" في الآيَةِ، وهَذا ضَعِيفٌ، وإنَّما يَتَرَتَّبُ ذَلِكَ في قَوْلِهِ: "لَألْزَمَنَّكَ أو تَقْضِيَنِي حَقِّي"، وفي قَوْلِهِ: "لا يَقُومُ زَيْدٌ أو يَقُومَ عَمْرٌو"، وفي هَذِهِ المُثُلِ كُلِّها يَحْسُنُ تَقْدِيرُ "إلّا أنَّ". والعَوْدَةُ أبَدًا إنَّما هي إلى حالَةٍ قَدْ كانَتْ، والرُسُلِ ما كانُوا قَطُّ في مِلَّةِ الكُفْرِ، فَإنَّما المَعْنى: أو لَتَعُودُنَّ في سُكُوتِكم عَنّا إغْفالًا، وذَلِكَ عِنْدَ الكُفّارِ كَوْنٌ في مِلَّتِهِمْ، وخَصَّصَ تَعالى الظالِمِينَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا إذْ جائِزٌ أنْ يُؤْمِنَ مِنَ الكَفَرَةِ الَّذِينَ قالُوا المَقالَةَ ناسٌ، فَإنَّما تَوَعَّدَ بِالإهْلاكِ مَن خَلَصَ لِلظُّلْمِ.
وقَوْلُهُ: "وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ" الخُطّابُ لِلْحاضِرِينَ والمُرادُ هم وذَرِّيَّتُهُمْ، ويَتَرَتَّبُ هَذا (p-٢٣٣)المَعْنى في قَوْلِهِ: "وَيُؤَخِّرْكم إلى أجَلٍ مُسَمًّى"، أيْ: يُؤَخِّرْكم وأعْقابَكُمْ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "لَيُهْلِكَنَّ" و"لَيُسْكِنَنَّكُمْ" بِالياءِ فِيهِما، وقَوْلُهُ: "مَقامِي" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ المَصْدَرَ مِنَ القِيامِ عَلى الشَيْءِ بِالقُدْرَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ الظَرْفَ لِقِيامِ العَبْدِ بَيْنَ يَدَيْهِ في الآخِرَةِ، فَإضافَتُهُ إذا كانَ مَصْدَرًا إضافَةُ المَصَدَرِ إلى الفاعِلِ، وإضافَتُهُ إذا كانَ ظَرْفًا إضافَةُ الظَرْفِ إلى حاضِرِهِ، أيْ: مَقامَ حِسابِي، فَجائِزٌ قَوْلُهُ: "مَقامِي"، وجائِزٌ لَوْ قالَ: "مَقامِهِ"، وجائِزٌ لَوْ قالَ: "مَقامَ العَرْضِ والحِسابِ"، وهَذا كَما تَقُولُ: "دارُ الحاكِمِ، ودارُ الحُكْمِ، ودارُ المَحْكُومِ عَلَيْهِ"، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: "مَقامِي" مَجازٌ، حَيْثُ أُقِيمُهُ بَيْنَ يَدَيَّ لِلْحِسابِ.
و"الِاسْتِفْتاحُ": طَلَبُ الحُكْمِ، والفَتّاحُ: الحاكِمُ، والمَعْنى: إنَّ الرُسُلَ اسْتَفْتَحُوا، أيْ: سَألُوا اللهَ تَعالى إنْفاذَ الحُكْمِ بِنَصْرِهِمْ وتَعْذِيبِ الكَفَرَةِ، وقِيلَ: بَلِ اسْتَفْتَحَ الكُفّارُ، عَلى نَحْوِ قَوْلِ قُرَيْشٍ: ﴿عَجِّلْ لَنا قِطَّنا﴾ [ص: ١٦]، وعَلى نَحْوِ قَوْلِ أبِي جَهْلٍ في بَدْرٍ: "اللهُمَّ أقْطَعُنا لِلرَّحِمِ، وأتانا بِما لا يُعْرَفُ فَأحِنْهُ الغَداةَ" هَذا قَوْلُ أبِي دُرَيْدٍ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "واسْتَفْتِحُوا" بِكَسْرِ التاءِ عَلى مَعْنى الأمْرِ لِلرُّسُلِ، قَرَأها ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ. و"خابَ" مَعْناهُ: خَسِرَ ولَمْ يَنْجَحْ، و"الجَبّارُ": المُتَعَظِّمُ في نَفْسِهِ الَّذِي لا يَرى لِأحَدٍ عَلَيْهِ حَقًّا، وقِيلَ: مَعْناهُ: يُجْبِرُ الناسَ عَلى ما يَكْرَهُونَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا هو المَفْهُومُ مِنَ اللَفْظِ. وعَبَّرَ قَتادَةُ وغَيْرُهُ عَنِ "الجَبّارِ" بِأنَّهُ الَّذِي يَأْبى أنْ يَقُولَ: "لا إلَهَ إلّا اللهُ"، و"العَنِيدُ": الَّذِي يُعانِدُ ولا يَنْقادُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن ورائِهِ﴾، ذَكَرَ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ مِنَ المُفَسِّرِينَ أنَّ مَعْناهُ: "مِن أمامِهِ"، وعَلى ذَلِكَ حَمَلُوا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَكانَ وراءَهم مَلِكٌ﴾ [الكهف: ٧٩]، وأنْشَدَ الطَبَرِيُّ:
(p-٢٣٤)أتُوعِدُونِي وراءَ بَنِي رِياحٍ... كَذَبْتَ لَتَقْصُرَنَّ يَداكَ دُونِي
ولَيْسَ الأمْرُ كَما ذَكَرَ، و"الوَراءُ" ها هُنا عَلى بابِهِ، أيْ: هو ما يَأْتِي بَعْدُ في الزَمانِ، وذَلِكَ أنَّ التَقْدِيرَ في هَذِهِ الحَوادِثِ بِالأمامِ والوَراءِ إنَّما هو بِالزَمانِ، وما تَقَدَّمَ فَهو أمامٌ، وهو بَيْنَ اليَدِ، كَما تَقُولُ في التَوْراةِ والإنْجِيلِ: إنَّهُما بَيْنَ يَدَيِ القُرْآنِ، والقُرْآنُ وراءَهُما عَلى هَذا، وما تَأخَّرَ في الزَمانِ هو وراءَ المُتَقَدِّمِ، ومِنهُ قَوْلُهم لِوَلَدِ الوَلَدِ: الوَراءُ، وهَذا الجَبّارُ العَنِيدُ وُجُودُهُ وكُفْرُهُ وأعْمالُهُ في وقْتٍ ما، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ في الزَمانِ يَأْتِيهِ أمْرُ جَهَنَّمَ، قالَ وتَلْخِيصُ هَذا أنْ يُشَبَّهَ الزَمانُ بِطَرِيقٍ تَأْتِي الحَوادِثُ مِن جِهَتِهِ الواحِدَةِ مُتَتابِعَةً، فَما تَقَدَّمَ فَهو أمامٌ، وما تَأخَّرَ فَهو وراءُ المُتَقَدِّمِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَكانَ وراءَهُمْ﴾ [الكهف: ٧٩] أيْ غَصْبُهُ وتَغَلُّبُهُ يَأْتِي بَعْدَ حَذَرِهِمْ وتَحَفُّظِهِمْ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيُسْقى مِن ماءٍ﴾، ولَيْسَ بِماءٍ، لَكِنْ لَمّا كانَ بَدَلَ الماءِ في العُرْفِ عِنْدَنا. ثُمَّ نَعَتْهُ بِـ "صَدِيدٍ"، كَما تَقُولُ: هَذا خاتَمُ حَدِيدٍ. و"الصَدِيدُ": القَيْحُ والدَمُ، وهو ما يَسِيلُ مِن أجْسادِ أهْلِ النارِ، قالَهُ مُجاهِدٌ والضَحّاكُ.
(p-٢٣٥)وَقَوْلُهُ: ﴿يَتَجَرَّعُهُ ولا يَكادُ يُسِيغُهُ﴾ عِبارَةٌ عن صُعُوبَةِ أمْرِهِ عَلَيْهِمْ، ويُرْوى أنَّ الكافِرَ يُؤْتى بِالشَرْبَةِ مِن شَرابِ أهْلِ النارِ فَيَتَكَرَّهُها، فَإذا أُدْنِيَتْ مِنهُ شَوَتْ وجْهَهُ وسَقَطَتْ فِيها فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإذا شَرِبَها قَطَّعَتْ أمْعاءَهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا الخَبَرُ مُفَرَّقٌ في آياتٍ مِن كِتابِ اللهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكانٍ﴾ أيْ مِن كُلِّ شَعْرَةٍ في بَدَنِهِ، قالَهُ إبْراهِيمُ التَيْمِيُّ، وقِيلَ: مِن جَمِيعِ جِهاتِهِ السِتِّ، وقَوْلُهُ: ﴿وَما هو بِمَيِّتٍ﴾، أيْ: لا يُراحُ بِالمَوْتِ. وباقِي الآيَةِ كَأوَّلِها، ووَصْفُ العَذابِ بِالغَلِيظِ مُبالَغَةٌ، وقالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِياضٍ: العَذابُ الغَلِيظُ: حَبْسُ الأنْفاسِ في الأجْسادِ، وقِيلَ: إنَّ الضَمِيرَ في "وَرائِهِ" هُنا هو لِلْعَذابِ المُتَقَدِّمِ.
{"ayahs_start":13,"ayahs":["وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَاۤ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰۤ إِلَیۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ","وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَ ٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِی وَخَافَ وَعِیدِ","وَٱسۡتَفۡتَحُوا۟ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِیدࣲ","مِّن وَرَاۤىِٕهِۦ جَهَنَّمُ وَیُسۡقَىٰ مِن مَّاۤءࣲ صَدِیدࣲ","یَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا یَكَادُ یُسِیغُهُۥ وَیَأۡتِیهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانࣲ وَمَا هُوَ بِمَیِّتࣲۖ وَمِن وَرَاۤىِٕهِۦ عَذَابٌ غَلِیظࣱ"],"ayah":"وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَاۤ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰۤ إِلَیۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق