الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿قالَتْ رُسُلُهم أفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَماواتِ والأرْضِ يَدْعُوكم لِيَغْفِرَ لَكم مِن ذُنُوبِكم ويُؤَخِّرَكم إلى أجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إنْ أنْتُمْ إلا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿قالَتْ لَهم رُسُلُهم إنْ نَحْنُ إلا بَشَرٌ مِثْلُكم ولَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَن يَشاءُ مَن عِبادِهِ وما كانَ لَنا أنْ نَأْتِيَكم بِسُلْطانٍ إلا بِإذْنِ اللهَ وعَلى اللهَ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وَما لَنا ألا نَتَوَكَّلَ عَلى اللهِ وقَدْ هَدانا سُبُلَنا ولَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وعَلى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ﴾
قَوْلُهُ: ﴿أفِي اللهِ﴾ مُقَدَّرٌ فِيهِ ضَمِيرٌ، تَقْدِيرُهُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَحْوِيِّينَ: أفِي إلاهِيَّتِهِ شَكٌّ؟ وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: أفِي وحْدانِيِّتِهِ شَكٌّ؟
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وزَعَمَ بَعْضُ الناسِ أنَّ أبا عَلِيٍّ إنَّما فَزِعَ إلى هَذِهِ العِبارَةِ حِفْظًا لِلِاعْتِزالِ، وزَوالًا عَمّا تَحْتَمِلُهُ لَفْظَةُ "الإلاهِيَّةِ" مِنَ الصِفاتِ بِحَسْبِ عُمُومِها، ولَفْظَةُ الوَحْدانِيَّةِ مُخَلِّصَةٌ مِن ذَلِكَ الِاحْتِمالِ.
و"الفاطِرُ": المُخْتَرِعُ المُبْتَدِئُ، وسَوْقُ هَذِهِ الصِفَةِ احْتِجاجٌ عَلى الشاكِّينَ، أيِ الشَكِّ فِيمَن هَذِهِ صِفَتُهُ، فَساقَ الصِفَةَ الَّتِي هي مَنصُوبَةٌ لِرَفْعِ الشَكِّ، وقَوْلُهُ: ﴿مِن ذُنُوبِكُمْ﴾، ذَهَبَ بَعْضُ النُحاةِ إلى أنَّها زائِدَةٌ، وسِيبَوَيْهِ يَأْبى أنْ تَكُونَ زائِدَةً، ويَراها لِلتَّبْعِيضِ، وهو مَعْنًى صَحِيحٌ، وذَلِكَ أنَّ الوَعْدَ وقَعَ بِغُفْرانِ الشِرْكِ وما مَعَهُ مِنَ المَعاصِي، وبَقِيَ ما يَسْتَأْنِفُهُ أحَدُهم بَعْدَ إيمانِهِ مِنَ المَعاصِي مَسْكُوتًا عنهُ لِيَبْقى مَعَهُ في مَشِيئَةِ اللهِ تَعالى، فالغُفْرانُ إنَّما يُقَدِّمُهُ الوَعْدُ في البَعْضِ، فَصَحَّ مَعْنى "مِن".
(p-٢٣٠)وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُؤَخِّرَكم إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾، قَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِيهِ في سُورَةِ الأعْرافِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أجَلٌ﴾ [الأعراف: ٣٤] الآيَةُ، وجَلَبْتُ هَذِهِ هُناكَ بِسَبَبِ ما يَظْهَرُ بَيْنَ الآيَتَيْنِ مِنَ التَعارُضِ، ويَلِيقُ هُنا أنْ نَذْكُرَ مَسْألَةَ المَقْتُولِ: هَلْ قُطِعَ أجَلُهُ أمْ ذَلِكَ هو أجْلُهُ المَحْتُومُ عَلَيْهِ؟ فالأوَّلُ هو قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ، والثانِي قَوْلُ أهْلِ السُنَّةِ، فَتَقُولُ المُعْتَزِلَةُ: "إنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ لَعاشَ، وهَذا سَبَبُ القَوَدِ"، وقالَتْ فَرِقَّةٌ مِن أهْلِ السُنَّةِ: "لَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ لَماتَ حَتْفَ أنْفِهِ"، قالَ أبُو المَعالِي: "وَهَذا كُلُّهُ تَخَبُّطٌ، وإنَّما هو أجْلُهُ الَّذِي سَبَقَ في القَضاءِ أنَّهُ يَمُوتُ فِيهِ عَلى تِلْكَ الصِفَةِ، فَمُحالٌ أنْ يَقَعَ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإنْ فَرَضْنا أنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ، وفَرَضْنا مَعَ ذَلِكَ أنَّ عِلْمَ اللهِ تَعالى سَبَقَ بِأنَّهُ لا يَقْتُلُهُ بَقِيَ أمْرُهُ في حَيِّزِ الجَوازِ في أنْ يَعِيشَ أو يُقْتَلَ أو كَيْفَ ما كانَ عِلْمُ اللهِ تَعالى يَسْبِقُ فِيهِ.
وقَوْلُ الكَفَرَةِ: ﴿إنْ أنْتُمْ إلا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ فِيهِ اسْتِبْعادٌ لِبِعْثَةِ البَشَرِ، وقالَ بَعْضُ الناسِ: بَلْ أرادُوا إحالَتَهُ، وذَهَبُوا مَذْهَبَ البَراهِمَةِ أو مَن يَقُولُ مِنَ الفَلاسِفَةِ: إنَّ الأجْناسَ لا يَقَعُ فِيها هَذا التَبايُنُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وظاهِرُ كَلامِهِمْ لا يَقْتَضِي أنَّهم أغْمَضُوا هَذا الإغْماضَ، ويَدُلُّ عَلى ما ذَكَرْتُ أنَّهم طَلَبُوا مِنهُمُ الإتْيانَ بِآيَةٍ وسُلْطانٍ مُبِينٍ، ولَوْ كانَتْ بَعْثَتُهم عِنْدَهم مُحالًا لَما طَلَبُوا مِنهم حُجَّةً، ويُحْتَمَلُ أنَّ طَلَبَهم مِنهُمُ السُلْطانَ إنَّما هو عَلى جِهَةِ التَعْجِيزِ، أيْ: بِعْثَتُكم مُحالٌ وإلّا فَأْتُوا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، أيْ: إنَّكم لا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ أبَدًا، فَيَتَقَوّى بِهَذا الِاحْتِمالِ مَنَحاهم إلى مَذْهَبِ الفَلاسِفَةِ.
قوله عزّ وجلّ:
﴿قالَتْ لَهم رُسُلُهم إنْ نَحْنُ إلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾، المَعْنى: صَدَقْتُمْ في قَوْلِكُمْ: "إنّا بَشَرٌ" في الأشْخاصِ والخِلْقَةِ، لَكِنْ تَبايَنّا بِفَضْلِ اللهِ تَعالى ومَنِّهِ الَّذِي (p-٢٣١)يَخْتَصُّ بِهِ مَن يَشاءُ، فَفارَقُوهم بِالمَعْنى، بِخِلافِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَأنَّهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ﴾ [المدثر: ٥٠] فَإنَّ ذَلِكَ في المَعْنى لا في الهَيْئَةِ.
وقَوْلُهُ: ﴿وَما كانَ لَنا أنْ نَأْتِيَكم بِسُلْطانٍ إلا بِإذْنِ اللهِ﴾، هَذِهِ العِبارَةُ إذا قالَها الإنْسانُ مِن نَفْسِهِ، أو قِيلَتْ لَهُ فِيما يَقَعُ تَحْتَ مَقْدُورِهِ فَمَعْناها النَهْيُ والحَظْرُ، وإنْ كانَ ذَلِكَ فِيما لا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَمَعْناها نَفْيُ ذَلِكَ الأمْرِ جُمْلَةً، وكَذَلِكَ هَذِهِ الآيَةُ. وقالَ المَهْدَوِيُّ: لَفْظُها لَفْظُ الحَظْرِ ومَعْناها النَفْيُ. واللامُ في قَوْلِهِ: "فَلْيَتَوَكَّلْ" لامُ الأمْرِ، وقَرَأها الجُمْهُورُ ساكِنَةً، وقَرَأها الحَسَنُ مَكْسُورَةً، وتَحْرِيكُها بِالكَسْرِ هو أصْلُها، وتَسْكِينُها طَلَبٌ لِلتَّخْفِيفِ، ولِكَثْرَةِ اسْتِعْمالِها، ولِلْفَرْقِ بَيْنَها وبَيْنَ لامِ كَيِ الَّتِي أُلْزِمَتِ الحَرَكَةُ إجْماعًا.
وقَوْلُهُ: ﴿وَما لَنا ألا نَتَوَكَّلَ عَلى اللهِ﴾ الآيَةُ، وقَفَهُمُ الرُسُلُ عَلى جِهَةِ التَوْبِيخِ عَلى تَعْلِيلٍ في أنْ لا يَتَوَكَّلُوا عَلى اللهِ وهو قَدْ أنْعَمَ عَلَيْهِمْ، وهَداهم طَرِيقَ النَجاةِ، وفَضَّلَهم عَلى خَلْقِهِ، ثُمَّ أقْسَمُوا أنْ يَقَعَ مِنهُمُ الصَبْرُ عَلى الإذايَةِ في ذاتِ اللهِ تَعالى. و"ما" في قَوْلِهِ: ﴿ما آذَيْتُمُونا﴾ مَصْدَرِيَّةٌ، وهي حَرْفٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِانْفِرادِها، إلّا أنَّها اسْمٌ مَعَ ما اتَّصَلَ بِها مِنَ المَصْدَرِ، وقالَ بَعْضُ النَحْوِيِّينَ: "ما" المَصْدَرِيَّةُ بِانْفِرادِها اسْمٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "ما" في هَذا المَوْضِعِ بِمَعْنى الَّذِي، فَيَكُونُ في "آذَيْتُمُونا" ضَمِيرٌ عائِدٌ تَقْدِيرُهُ: آذَيْتُمُوناهُ، ولا يَجُوزُ أنْ يُضَمَّ بِهِ بِسَبَبِ إضْمارِ حَرْفِ الجَرِّ، هَذا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، والأخْفَشُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ.
{"ayahs_start":10,"ayahs":["۞ قَالَتۡ رُسُلُهُمۡ أَفِی ٱللَّهِ شَكࣱّ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ یَدۡعُوكُمۡ لِیَغۡفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَیُؤَخِّرَكُمۡ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۚ قَالُوۤا۟ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرࣱ مِّثۡلُنَا تُرِیدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ یَعۡبُدُ ءَابَاۤؤُنَا فَأۡتُونَا بِسُلۡطَـٰنࣲ مُّبِینࣲ","قَالَتۡ لَهُمۡ رُسُلُهُمۡ إِن نَّحۡنُ إِلَّا بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یَمُنُّ عَلَىٰ مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَمَا كَانَ لَنَاۤ أَن نَّأۡتِیَكُم بِسُلۡطَـٰنٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ","وَمَا لَنَاۤ أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنَا سُبُلَنَاۚ وَلَنَصۡبِرَنَّ عَلَىٰ مَاۤ ءَاذَیۡتُمُونَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ"],"ayah":"قَالَتۡ لَهُمۡ رُسُلُهُمۡ إِن نَّحۡنُ إِلَّا بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یَمُنُّ عَلَىٰ مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَمَا كَانَ لَنَاۤ أَن نَّأۡتِیَكُم بِسُلۡطَـٰنٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق