الباحث القرآني
(p-٢١٨)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
تَفْسِيرُ سُورَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ
هَذِهِ السُورَةُ مَكِّيَّةٌ إلّا آيَتَيْنِ، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا﴾ [إبراهيم: ٢٨] إلى آخَرَ الآيَتَيْنِ، ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ، والنَقّاشٌ.
قوله عزّ وجلّ:
﴿الر كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناسَ مِنَ الظُلُماتِ إلى النُورِ بِإذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ ﴿اللهِ الَّذِي لَهُ ما في السَماواتِ وما في الأرْضِ ووَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِن عَذابٍ شَدِيدٍ﴾ ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَياةَ الدُنْيا عَلى الآخِرَةِ ويَصُدُّونَ عن سَبِيلِ اللهِ ويَبْغُونَها عِوَجًا أُولَئِكَ في ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾
تَقَدَّمَ القَوْلُ في الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ في أوائِلِ السُوَرِ، و"كِتابٌ" رُفِعَ عَلى خَبَرِ ابْتِداءٍ مُضْمَرٍ، تَقْدِيرُهُ: هَذا كِتابٌ، وهَذا عَلى أكْثَرِ الأقْوالِ في الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ، وأمّا مَن قالَ فِيها: "إنَّها كِنايَةٌ عن حُرُوفِ المُعْجَمِ"، فَـ "كِتابٌ" مَرْفُوعٌ بِقَوْلِهِ: "الر"، أيْ: هَذِهِ الحُرُوفُ كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ. وقَوْلُهُ: "أنْزَلْناهُ" في مَوْضِعِ الصِفَةِ لِـ "الكِتابِ"، قالَ القاضِي ابْنُ الطَيِّبِ، وأبُو المَعالِي، وغَيْرُهُما: إنَّ الإنْزالَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالكَلامِ القَدِيمِ الَّذِي هو صِفَةُ الذاتِ، لَكِنْ بِالمَعانِي الَّتِي أفْهَمَها اللهُ تَعالى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ مِنَ الكَلامِ.
(p-٢١٩)وَقَوْلُهُ تَعالى: "لِتُخْرِجَ" أسْنَدَ الإخْراجَ إلى النَبِيِّ ﷺ مِن حَيْثُ لَهُ فِيهِ المُشارِكَةُ بِالدُعاءِ والإنْذارِ، وحَقِيقَتُهُ إنَّما هي لِلَّهِ تَعالى بِالِاخْتِراعِ والهِدايَةِ، وفي هَذِهِ اللَفْظَةِ تَشْرِيفٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وعَمَّ "الناسَ" إذْ هو مَبْعُوثٌ إلى جَمِيعِ الخَلْقِ، ثَبَتَ ذَلِكَ بِآياتِ القُرْآنِ الَّتِي اقْتَرَنَ بِها ما نُقِلَ تَواتُرًا مِن دَعَوْتِهِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ العالَمَ كُلَّهُ، ومِن بَعْثَتِهِ إلى الأحْمَرِ والأسْوَدِ، عَلِمَ ذَلِكَ الصَحابَةُ مُشاهَدَةً، ونُقِلَ عنهم تَواتَرًا، فَعُلِمَ قَطْعًا والحَمْدُ لِلَّهِ. واسْتُعِيرَ الظُلُماتُ لِلْكَفْرِ والنُورُ لِلْإيمانِ تَشْبِيهًا، وقَوْلُهُ: ﴿بِإذْنِ رَبِّهِمْ﴾ أيْ بِعِلْمِهِ وقَضائِهِ بِهِ وتَمْكِينِهِ لَهم. و"إلى" في قَوْلِهِ: ﴿إلى صِراطِ﴾ بَدَلٌ مِنَ الأوَّلِ في قَوْلِهِ: ﴿إلى النُورِ﴾، أيْ إلى المَحَجَّةِ المُؤَدِّيَةِ إلى طاعَةِ اللهِ والإيمانِ بِهِ ورَحْمَتِهِ، فَأضافَها إلى اللهِ بِهَذِهِ المُتَعَلِّقاتِ، و﴿العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ صِفَتانِ لائِقَتانِ بِهَذا المَوْضِعِ، فالعِزَّةُ مِن حَيْثُ الإنْزالِ لِلْكُتُبِ، وما في ضِمْنِ ذَلِكَ مِنَ القُدْرَةِ، واسْتِيجابِ الحَمْدِ مِن جِهَةِ بَثِّ هَذِهِ النِعَمِ عَلى العالَمِ في نَصْبِ هِدايَتِهِمْ.
وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ: "اللهُ الَّذِي" بِرَفْعِ اسْمِ اللهِ عَلى القَطْعِ والِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ "الَّذِي"، ويَصِحُّ رَفْعُهُ عَلى تَقْدِيرِ: "هُوَ اللهُ الَّذِي"، وقَرَأ الباقُونَ بِكَسْرِ الهاءِ عَلى البَدَلِ مِن قَوْلِهِ: ﴿العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾، ورَوى الأصْمَعِيُّ وحْدَهُ هَذِهِ القِراءَةَ عن نافِعٍ، وعَبَّرَ بَعْضُ الناسِ عن هَذا بِأنْ قالَ: التَقْدِيرُ: "إلى صِراطِ اللهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ"، ثُمَّ قَدَّمَ الصِفاتِ وأبْدَلَ مِنها المَوْصُوفَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وإذا كانَتْ هَكَذا فَلَيْسَتْ بَعْدُ بِصِفاتٍ عَلى طَرِيقَةِ صِناعَةِ النَحْوِ، وإنْ كانَتْ بِالمَعْنى صِفاتَهُ ذُكِرَ مَعَها أو لَمْ يُذْكَرْ.
(p-٢٢٠)وَقَوْلُهُ: "وَوَيْلٌ" مَعْناهُ: وشِدَّةٌ وبَلاءٌ ونَحْوُهُ، أيْ يَلْقُونَهُ مِن عَذابٍ شَدِيدٍ يَنالُهُمُ اللهُ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: في الدُنْيا، هَذا مَعْنى قَوْلِهِ: "وَوَيْلٌ"، وقالَ بَعْضٌ: "وَيْلٌ" اسْمُ وادٍ في جَهَنَّمَ يَسِيلُ مِن صَدِيدِ أهْلِ النارِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا خَبَرٌ يَحْتاجُ إلى سَنَدٍ يَقْطَعُ العُذْرَ، ثُمَّ لَوْ كانَ هَذا لَقَلِقَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الآيَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿مِن عَذابٍ﴾، وإنَّما يَحْسُنُ تَأوَّلَهُ في قَوْلِهِ: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ [المطففين: ١] وما أشْبَهَهُ، وأمّا هُنا فَإنَّما يَحْسُنُ في "وَيْلٌ" أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، ورَفْعُهُ عَلى نَحْوِ رَفْعِهِمْ "سَلامٌ عَلَيْكَ" وشَبَهَهُ.
و"الَّذِينَ" بَدَلٌ مِنَ "الكافِرِينَ"، وقَوْلُهُ: "يَسْتَحِبُّونَ" مِن صِفَةِ الكافِرِينَ الَّذِينَ تَوَعَّدَهم قَبْلُ، والمَعْنى: يُؤْثِرُونَ دُنْياهم وكَفْرَهم وتَرْكَ الإذْعانِ لِلشَّرْعِ عَلى رَحْمَةِ اللهِ تَعالى وسُكْنى جَنَّتِهِ. وقَوْلُهُ: "يَصُدُّونَ" يُحْتَمَلُ أنْ يَتَعَدّى وأنْ يَقِفَ، والمَعْنى عَلى كِلا الوَجْهَيْنِ مُسْتَقِلُّ، تَقُولُ: "صَدَّ زَيْدٌ" و"صَدَّ غَيْرَهُ"، ومِن تَعْدِيَتِهِ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ صَدَدْتِ الكَأْسَ عَنّا أُمَّ عَمْرٍو ∗∗∗ وكانَ الكَأْسُ مَجْراها اليَمِينا
و﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ طَرِيقَةُ هُداهُ وشَرْعُهُ الَّذِي جاءَ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ.
وقَوْلُهُ: ﴿وَيَبْغُونَها عِوَجًا﴾ يَحْتَمِلُ ثَلاثَةَ أوجُهٍ مِنَ التَأْوِيلِ: أظْهَرُها أنْ يُرِيدَ: ويَطْلُبُونَها في حالَةِ عِوَجٍ مِنهم. ولا يُراعى إنْ كانُوا بِزَعْمِهِمْ عَلى طَرِيقِ نَظَرٍ وبِسَبِيلِ (p-٢٢١)اجْتِهادٍ واتِّباعِ الأحْسَنِ، فَقَدْ وصَفَ اللهُ تَعالى حالَهم تِلْكَ بِالعِوَجِ، وكَأنَّهُ قالَ: ويَصُدُّونَ عن سَبِيلِ اللهِ الَّتِي هي بِالحَقِيقَةِ نَبِيلَةٌ، ويَطْلُبُونَها عَلى عِوَجٍ في النَظَرِ.
والتَأْوِيلُ الثانِي أنْ يَكُونَ المَعْنى: ويَطْلُبُنَّ لَها عِوَجًا يَظْهَرُ فِيها، أيْ: يَسْعَوْنَ عَلى الشَرِيعَةِ بِأقْوالِهِمْ وأفْعالِهِمْ، فَـ "عِوَجًا" مَفْعُولٌ.
والتَأْوِيلُ الثالِثُ أنْ تَكُونَ اللَفْظَةُ مِنَ البَغْيِ عَلى مَعْنى: ويَبْغُونَ عَلَيْها أو فِيها عِوَجًا، ثُمَّ حُذِفَ الجارُ، وفي هَذا بَعْضُ القَلَقِ.
وقالَ كَثِيرٌ مِن أهْلِ اللُغَةِ: العِوَجُ -بِكَسْرِ العَيْنِ- في الدِينِ والأُمُورِ، وبِالجُمْلَةِ في المَعانِي، والعَوَجُ -بِفَتْحِ العَيْنِ في الأجْرامِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ويُعْتَرَضُ هَذا القانُونُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَيَذَرُها قاعًا صَفْصَفًا﴾ [طه: ١٠٦] ﴿لا تَرى فِيها عِوَجًا ولا أمْتًا﴾ [طه: ١٠٧]، وقَدْ تَتَداخَلُ اللَفْظَةُ مَعَ الأُخْرى، ووَصْفُ الضَلالِ بِالبُعْدِ عِبارَةٌ عن تَعَمُّقِهِمْ فِيهِ وصُعُوبَةِ خُرُوجِهِمْ مِنهُ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["الۤرۚ كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ إِلَیۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَ ٰطِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَمِیدِ","ٱللَّهِ ٱلَّذِی لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَوَیۡلࣱ لِّلۡكَـٰفِرِینَ مِنۡ عَذَابࣲ شَدِیدٍ","ٱلَّذِینَ یَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا عَلَى ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَیَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَیَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ فِی ضَلَـٰلِۭ بَعِیدࣲ"],"ayah":"الۤرۚ كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ إِلَیۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَ ٰطِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَمِیدِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق