الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالُوا يا أيُّها العَزِيزُ إنَّ لَهُ أبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أحَدَنا مَكانَهُ إنّا نَراكَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ ﴿قالَ مَعاذَ اللهِ أنْ نَأْخُذَ إلا مَن وجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إنّا إذًا لَظالِمُونَ﴾ ﴿فَلَمّا اسْتَيْأسُوا مِنهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهم ألَمْ تَعْلَمُوا أنَّ أباكم قَدْ أخَذَ عَلَيْكم مَوْثِقًا مِنَ اللهِ ومِن قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ في يُوسُفَ فَلَنْ أبْرَحَ الأرْضَ حَتّى يَأْذَنَ لِي أبِي أو يَحْكُمَ اللهِ لِي وهو خَيْرُ الحاكِمِينَ﴾ (p-١٢٨)خاطَبُوهُ بِاسْمِ العَزِيزِ إذْ كانَ في تِلْكَ اللَحْظَةِ بِعَزْلِ الأوَّلِ أو مَوْتِهِ، عَلى ما رُوِيَ في ذَلِكَ. وقَوْلُهُمْ: ﴿فَخُذْ أحَدَنا مَكانَهُ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَجازًا وهم يَعْلَمُونَ أنَّهُ لا يَصِحُّ أخْذُ حُرٍّ لِيُسْتَرَقَّ بَدَلَ مَن أحْكَمَتِ السُنَّةُ رِقَّهُ، وإنَّما هَذا كَما تَقُولُ لِمَن تَكْرَهُ فِعْلَهُ: "اقْتُلْنِي ولا تَفْعَلْ كَذا وكَذا"، وأنْتَ لا تُرِيدُ أنْ يَقْتُلَكَ ولَكِنْ تُبالِغُ في اسْتِنْزالِهِ، وعَلى هَذا يَتَّجِهُ قَوْلُ يُوسُفَ: "مَعاذَ اللهِ" لِأنَّهُ تَعَوُّذٌ مِن غَيْرِ جائِزٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: ﴿فَخُذْ أحَدَنا مَكانَهُ﴾ حَقِيقَةً، وبَعِيدٌ عَلَيْهِمْ -وَهم أنْبِياءُ- أنْ يُرِيدُوا اسْتِرْقاقَ حُرٍّ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ طَرِيقَ الحَمالَةِ، أيْ: خُذْ أحَدَنا حَتّى يَنْصَرِفَ إلَيْكَ صاحِبُكَ، ومَقْصِدُهم بِذَلِكَ أنْ يَصِلَ بِنْيامِينُ إلى أبِيهِ، ويَعْرِفَ يَعْقُوبُ جَلِيَّةَ الأمْرِ، فَمَنَعَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَلامُ مِن ذَلِكَ؛ إذِ الحَمالَةُ في الحُدُودِ ونَحْوِها بِمَعْنى إحْضارُ المَضْمُونِ جائِزَةٌ مَعَ التَراضِي غَيْرَ لازِمَةٍ إذا أبى الطالِبُ، وأمّا الحَمالَةُ في مِثْلِ هَذا -عَلى أنْ يَلْزَمَ الحَمِيلَ ما كانَ يَلْزَمُ المَضْمُونَ مِن عُقُوبَةٍ- فَلا يَجُوزُ ذَلِكَ إجْماعًا، وفي "الواضِحَةِ" أنَّ الحَمالَةَ بِالوَجْهِ فَقَطْ في جَمِيعِ الحُدُودِ جائِزَةٌ إلّا في النَفْسِ. وقَوْلُهُمْ: ﴿إنّا نَراكَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدُوا وصْفَهُ بِما رَأوهُ مِن إحْسانِهِ في جَمِيعِ أفْعالِهِ مَعَهم ومَعَ غَيْرِهِمْ، ويَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدُوا: إنّا نَرى لَكَ إحْسانًا عَلَيْنا في هَذِهِ اليَدِ إنْ أسْدَيْتَها إلَيْنا، وهَذا تَأْوِيلُ ابْنِ إسْحاقَ. و"مَعاذَ" نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ، ولا يَجُوزُ إظْهارُ الفِعْلِ مَعَهُ، والظُلْمُ في قَوْلِهِ: "لَظالِمُونَ" عَلى حَقِيقَتِهِ؛ إذْ هو وضْعُ الشَيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وذَكَرَ الطَبَرِيُّ أنَّهُ رُوِيَ أنَّ يُوسُفَ لَمّا أيْأسَهم بِلَفْظِهِ هَذا قالَ لَهُمْ: إذا أتَيْتُمْ أباكم فاقْرَؤُوا عَلَيْهِ السَلامَ، وقُولُوا لَهُ: إنَّ مَلِكَ مِصْرَ يَدْعُو لَكَ ألّا تَمُوتَ حَتّى تَرى ولَدَكَ يُوسُفَ، لِيَعْلَمَ أنَّ في أرْضِ مِصْرَ صِدِّيقِينَ مِثْلَهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا اسْتَيْأسُوا مِنهُ﴾ الآيَةُ. يُقالُ: يَئِسَ واسْتَيْأسَ بِمَعْنًى واحِدٍ، كَما يُقالُ: سَخِرَ واسْتَسْخَرَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: "يَسْتَسْخِرُونَ"، وكَما يُقالُ: عَجِبَ واسْتَعْجَبَ، ومِنهُ قَوْلُ أوسِ بْنِ حَجَرٍ:(p-١٢٩) ؎ ومُسْتَعْجِبٍ مِمّا يَرى مِن أناتِنا ∗∗∗ ولَوْ زَبَنَتْهُ الحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ ومِنهُ: نَوِكَ واسْتَنْوَكَ، وعَلى هَذا يَجِيءُ قَوْلُ الشاعِرِ في بَعْضِ التَأْوِيلاتِ: ............................. ؎ واسْتَنْوَكَتْ ولِلشَّبابِ نُوكُ. وهَذِهِ قِراءَةُ الجُمْهُورِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "اسْتايَسُوا" و"لا تايَسُوا" و"لا يايَسُ" و"حَتّى إذا اسْتايَسَ الرُسُلُ"، أصْلُهُ: اسْتَأْيَسُوا "اسْتَفْعَلُوا" مِن "أيِسَ" عَلى قَلْبِ الفِعْلِ مَن "يَئِسَ" إلى "أيِسَ"، ولَيْسَ هَذا كَجَذَبَ وجَبَذَ، بَلْ هَذانِ أصْلانِ والأوَّلُ قَلْبٌ، دَلَّ عَلى ذَلِكَ أنَّ المَصْدَرَ مِن "يَئِسَ وأيِسَ" واحِدٌ وهو "اليَأْسُ"، ولِجَذَبَ وجَبَذَ مَصْدَرانِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ مَعْناهُ: انْفَرَدُوا عن غَيْرِهِمْ يُناجِي بَعْضُهم بَعْضًا، والنَجِيُّ لَفَظٌ يُوصَفُ بِهِ مَن لَهُ نَجْوى، واحِدًا أو جَماعَةً، أو مُؤَنَّثًا أو مُذَكَّرًا، فَهو مِثْلُ عَدُوٍّ وعَدْلٍ، وجَمْعُهُ أنْجِيَةٌ، قالَ لَبِيَدُ:(p-١٣٠) ؎ وشَهِدْتُ أنْجِيَةَ الأفاقَةِ عالِيًا ∗∗∗ ∗∗∗ كَعْبِي وأرْدافُ المُلُوكِ شُهُودُ و"كَبِيرُهُمْ" قالَ مُجاهِدٌ: هو شَمْعُونُ؛ لِأنَّهُ كانَ كَبِيرُهم رَأْيًا وتَدْبِيرًا وعِلْمًا، وإنْ كانَ رُوبِيلُ أسَنَّهُمْ، وقالَ قَتادَةُ: هو رُوبِيلُ لِأنَّهُ أسَنُّهُمْ، وهَذا أظْهَرُ ورَجَّحَهُ الطَبَرِيُّ، وقالَ السُدِّيُّ: مَعْنى الآيَةِ: وقالَ كَبِيرُهم في العِلْمِ، وذَكَّرَهم أخُوهُمُ المِيثاقَ في قَوْلِ يَعْقُوبَ: ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إلا أنْ يُحاطَ بِكُمْ﴾ [يوسف: ٦٦]. وقَوْلُهُ: ﴿ما فَرَّطْتُمْ﴾، يَصِحُّ أنْ تَكُونَ "ما" صِلَةً في الكَلامِ لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، والخَبَرِ قَوْلُهُ: ﴿فِي يُوسُفَ ﴾، كَذا قالَ أبُو عَلِيٌّ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٧٧] مُتَعَلِّقًا بِـ ﴿ما فَرَّطْتُمْ﴾، وإنَّما تَكُونُ -عَلى هَذا- مَصْدَرِيَّةً، التَقْدِيرُ: "مِن قَبْلِ تَفْرِيطِكم في يُوسُفَ واقِعٌ أو مُسْتَقِرٌّ"، وبِهَذا المُقَدَّرِ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: ﴿مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٧٧]. ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا، عَلى أنَّ التَقْدِيرَ: "وَتَعْلَمُوا تَفْرِيطَكُمْ" أو "وَتَعْلَمُوا الَّذِي فَرَّطْتُمْ"، فَيَصِحُّ -عَلى هَذا الوَجْهِ- أنْ تَكُونَ بِمَعْنى الَّذِي، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَنْ أبْرَحَ الأرْضَ﴾، أرادَ أرْضَ القُطْرِ والمَوْضِعِ الَّذِي نالَهُ فِيهِ المَكْرُوهُ المُؤَدِّي إلى سُخْطِ أبِيهِ، والمَقْصِدُ بِهَذا اللَفْظِ التَحْرِيجُ عَلى نَفْسِهِ والتِزامُ التَضْيِيقِ، كَأنَّهُ سَجَنَ نَفْسَهُ في ذَلِكَ القُطْرِ لِيُبْلِيَ عُذْرًا. وقَوْلُهُ: ﴿أو يَحْكُمَ اللهُ لِي﴾ لَفْظٌ عامٌّ بِجَمِيعِ ما يُمْكِنُ أنْ يَرُدَّهُ مِنَ القَدَرِ كالمَوْتِ أوِ (p-١٣١)النُصْرَةِ وبُلُوغِ الأمَلِ، وغَيْرُ ذَلِكَ، وقالَ أبُو صالِحٍ: أو يَحْكُمُ اللهُ لِي بِالسَيْفِ، ونُصِبَ "يَحْكُمَ" بِالعَطْفِ عَلى "يَأْذَنَ"، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ "أو" في هَذا المَوْضِعِ بِمَعْنى "إلّا أنْ"، كَما تَقُولُ: "لَألْزَمْنَّكَ أو تَقْضِيَنِي حَقِّي"، فَتَنْصِبُ عَلى هَذا "يَحْكُمَ" بِـ"أو". ورُوِيَ أنَّهم لَمّا وصَلُوا إلى يَعْقُوبَ بَكى وقالَ: "يا بَنِيَّ، ما تَذْهَبُونَ عَنِّي مَرَّةً إلّا نَقَصْتُمْ، ذَهَبْتُمْ فَنَقَصْتُمْ يُوسُفَ، ثُمَّ ذَهَبْتُمْ فَنَقَصْتُمْ شَمْعُونَ حَيْثُ ارْتَهَنَ، ثُمَّ ذَهَبْتُمْ فَنَقَصْتُمْ بِنْيامِينَ ورُوبِيلَ ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب