الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَمّا دَخَلُوا مِن حَيْثُ أمَرَهم أبُوهم ما كانَ يُغْنِي عنهم مِن اللهِ مِن شَيْءٍ إلا حاجَةً في نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وإنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ولَكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إلَيْهِ أخاهُ قالَ إنِّي أنا أخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ رُوِيَ أنَّهُ لَمّا ودَّعُوا أباهم قالَ لَهُمْ: "بَلِّغُوا مَلِكَ مِصْرَ سَلامِي، وقُولُوا لَهُ: إنَّ أبانا يُصَلِّي عَلَيْكَ، ويَدْعُو لَكَ ويَشْكُرُ صَنِيعَكَ مَعَنا". وفي كِتابِ أبِي مَنصُورٍ المِهْرانِيِّ: أنَّهُ خاطَبَهُ بِكِتابٍ قُرِئَ عَلى يُوسُفَ فَبَكى. وقَوْلُهُ: ﴿ما كانَ يُغْنِي عنهم مِنَ اللهِ مِنَ شَيْءٍ إلا حاجَةً في نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها﴾ بِمَثابَةِ قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ دَفْعُ قَدَرِ اللهِ، بَلْ كانَ أرَبًا لِيَعْقُوبَ قَضاهُ، وطَيِّبًا لِنَفْسِهِ تَمَسَّكَ بِهِ وأمَرَ بِحَبْسِهِ، فَجَوابُ "لَمّا" في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ما كانَ يُغْنِي عنهم مِنَ اللهِ مِنَ شَيْءٍ﴾، (p-١١٨)وَ ﴿إلا حاجَةً﴾ اسْتِثْناءٌ لَيْسَ مِنَ الأوَّلِ، والحاجَةُ هي أنْ يَكُونَ طَيِّبَ النَفْسِ بِدُخُولِهِمْ مِن أبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ خَوْفَ العَيْنِ، قالَ مُجاهِدٌ: الحاجَةُ: خِيفَةُ العَيْنِ، وقالَهُ ابْنُ إسْحاقَ، وفي عِبارَتِهِما تَجَوُّزٌ، ونَظِيرُ هَذا الفِعْلِ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ سَدَّ كُوَّةً في قَبْرٍ بِحَجَرٍ وقالَ: "إنَّ هَذا لا يُغْنِي شَيْئًا ولَكِنَّهُ تَطَيُّبٌ لِنَفْسِ الحَيِّ".» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَوْلُهُ -عِنْدِي-: ﴿ما كانَ يُغْنِي عنهم مِنَ اللهِ مِنَ شَيْءٍ﴾ مَعْناهُ: ما يَرُدُّ عنهم قَدَرًا، لِأنَّهُ لَوْ قُضِيَ أنْ تُصِيبَهم عَيْنٌ لَأصابَتْهم مُفْتَرِقِينَ أو مُجْتَمِعِينَ، وإنَّما طَمِعَ يَعْقُوبُ أنْ تُصادِفَ وصِيَّتُهُ قَدْرَ السَلامَةِ فَوَصّى، وقَضى -بِذَلِكَ- حاجَةَ نَفْسِهِ في أنْ يَتَنَعَّمَ بِرَجائِهِ أنْ تُصادِفَ وصِيَّتُهُ القَدَرَ في سَلامَتِهِمْ. ثُمَّ أثْنى اللهُ عَزَّ وجَلَّ عَلى يَعْقُوبَ بِأنَّهُ لُقِّنَ ما عَلَّمَهُ اللهُ مِن هَذا المَعْنى، وانْدَرَجَ غَيْرُ ذَلِكَ في العُمُومِ، وقالَ: إنَّ أكْثَرَ الناسِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وقِيلَ: مَعْناهُ: إنَّهُ لِعامِلٌ بِما عَلِمْناهُ، قالَهُ قَتادَةُ. وقالَ سُفْيانٌ: مَن لا يَعْمَلُ لا يَكُونُ عالِمًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا لا يُعْطِيهِ اللَفْظُ، أمّا إنَّهُ صَحِيحٌ في نَفْسِهِ فَيُرَجِّحُهُ المَعْنى وما تَقْتَضِيهِ مَنزِلَةُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَلامُ، قالَ أبُو حاتِمٍ: قَرَأ الأعْمَشُ: "لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ". ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ جَوابُ "لَمّا" في هَذِهِ الآيَةِ مَحْذُوفًا مُقَدَّرًا، ثُمَّ يُخْبِرُ عن دُخُولِهِمْ أنَّهُ ﴿ما كانَ يُغْنِي﴾ الآيَةُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ ﴾ الآيَةُ. المَعْنى أنَّهُ لَمّا دَخَلَ إخْوَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ ورَأى أخاهُ شُكْرَ ذَلِكَ لَهم -عَلى ما رُوِيَ- وضَمَّ إلَيْهِ أخاهُ وآواهُ إلى نَفْسِهِ، ومِن هَذِهِ الكَلِمَةِ: المَأْوى، وكانَيامِينُ شَقِيقَ يُوسُفَ فَآواهُ. وصُورَةُ ذَلِكَ -فِيما رُوِيَ عَنِ ابْنِ إسْحاقَ وغَيْرِهِ- أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ أمَرَ صاحِبَ ضِيافَتِهِ أنْ يُنْزِلَهم رَجُلَيْنِ رَجُلَيْنِ، فَبَقِيَ يامِينُ وحْدَهُ، فَقالَ يُوسُفُ: أنا أُنْزِلُ هَذا مَعَ نَفْسِي، فَفَعَلَ وباتَ عِنْدَهُ، وقالَ لَهُ: ﴿إنِّي أنا أخُوكَ﴾، واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في هَذا اللَفْظِ -فَقالَ ابْنُ إسْحاقَ (p-١١٩)وَغَيْرُهُ: أخْبَرَهُ بِأنَّهُ أخُوهُ حَقِيقَةً واسْتَكْتَمَهُ، وقالَ لَهُ: لا تُبالِ بِكُلِّ ما تَراهُ مِنَ المَكْرُوهِ في تَحَيُّلِي في أخْذِكَ مِنهُمْ، وعَلى هَذا التَأْوِيلِ يُحْتَمَلُ أنْ يُشِيرَ بِقَوْلِهِ: ﴿بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ إلى ما يَعْمَلُهُ فِتْيانُ يُوسُفَ مِن أمْرِ السِقايَةِ ونَحْوِ ذَلِكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُشِيرَ إلى ما عَمِلَهُ الإخْوَةُ قَدِيمًا. وقالَ وهَبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إنَّما أخْبَرَهُ أنَّهُ أخُوهُ في الوُدِّ مَقامَ أخِيهِ الذاهِبِ، ولَمْ يَكْشِفْ لَهُ الأمْرَ بَلْ تَرَكَهُ تَجُوزُ عَلَيْهِ الحِيلَةُ كَسائِرِ إخْوَتِهِ. و”تَبْتَئِسْ" تَفْتَعِلْ، مِنَ البُؤْسِ، أيْ: لا تَحْزَنْ ولا تَهْتَمَّ، وهَكَذا عَبَّرَ المُفَسِّرُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب