الباحث القرآني

(p-١١٤)قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ هَلْ آمَنُكم عَلَيْهِ إلا كَما أمِنتُكم عَلى أخِيهِ مِن قَبْلُ فاللهُ خَيْرٌ حافِظًا وهو أرْحَمُ الراحِمِينَ﴾ ﴿وَلَمّا فَتَحُوا مَتاعَهم وجَدُوا بِضاعَتَهم رُدَّتْ إلَيْهِمْ قالُوا يا أبانا ما نَبْغِي هَذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إلَيْنا ونَمِيرُ أهْلَنا ونَحْفَظُ أخانا ونَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلَ يَسِيرٌ﴾ قَوْلُهُ: "هَلْ" تَوْقِيفٌ وتَقْرِيرٌ، وتَألُّمُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَلامُ مِن فُرْقَةِ يامِينَ، ولَمْ يُصَرِّحْ بِمَنعِهِمْ مِن حَمْلِهِ لِما رَأى في ذَلِكَ مِنَ المَصْلَحَةِ، لَكِنَّهُ أعْلَمَهم بِقِلَّةِ طُمَأْنِينَتِهِ إلَيْهِمْ، وأنَّهُ يَخافُ عَلَيْهِ مِن كَيْدِهِمْ، ولَكِنْ ظاهِرُ أمْرِهِمْ أنَّهم كانُوا أنابُوا إلى اللهِ وانْتَقَلَتْ حالُهم فَلَمْ يَخَفْ كَمِثْلِ ما خافَ عَلى يُوسُفَ مِن قَبْلُ، لَكِنْ أعْلَمَ بِأنَّ في نَفْسِهِ شَيْئًا ثُمَّ اسْتَسْلَمَ لِلَّهِ تَعالى، بِخِلافِ عِبارَتِهِ في قِصَّةِ يُوسُفَ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ -فِي رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ -: "خَيْرٌ حِفْظًا"، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ وحَفْصَةُ -عن عاصِمٍ - "خَيْرٌ حافِظًا"، ونَصْبُ ذَلِكَ -فِي القِراءَتَيْنِ- عَلى التَمْيِيزِ، وقالَ الزَجّاجُ: يَجُوزُ أنْ يُنْصَبَ "حافِظًا" عَلى الحالِ، وضَعَّفَ ذَلِكَ أبُو عَلِيٌّ الفارِسِيُّ؛ لِأنَّها حالٌ لا بُدَّ لِلْكَلامِ والمَعْنى مِنها، وذَلِكَ بِخِلافِ شَرْطِ الحالِ، وإنَّما المَعْنى أنَّ حافِظَ اللهِ خَيْرٌ مِن حافِظِكم. ومَن قَرَأ: "حِفْظًا" فَهو مَعَ قَوْلِهِمْ: ﴿وَنَحْفَظُ أخانا﴾، ومَن قَرَأ: "حافِظًا" فَهو مَعَ قَوْلِهِمْ: ﴿وَإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ [يوسف: ٦٣]. فاسْتَسْلَمَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَلامُ لِلَّهِ وتَوَكَّلَ عَلَيْهِ. قالَ أبُو عَمْرٍو الدانِي: قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "فاللهُ خَيْرُ حافِظٍ وهو خَيْرُ الحافِظِينَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي هَذا بُعْدٌ. وقَوْلُهُ: ﴿فَتَحُوا مَتاعَهُمْ﴾ سَمّى المَشْدُودَ المَرْبُوطَ بِجُمْلَتِهِ مَتاعًا فَلِذَلِكَ حَسُنَ الفَتْحُ فِيهِ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "رُدَّتْ" بِضَمِّ الراءِ عَلى اللُغَةِ الفاشِيَةِ عِنْدَ العَرَبِ، وتَلِيها لُغَةُ مَن يُشِمُّ، وتَلِيها لُغَةُ مَن يَكْسِرُ، وقَرَأ عَلْقَمَةُ، ويَحْيى بْنُ وثّابِ: "رِدَّتْ" (p-١١٥)بِكَسْرِ الراءِ عَلى لُغَةِ مَن يَكْسِرُ، وهي في بَنِي ضَبَّةَ، قالَ أبُو الفَتْحِ: وأمّا المُعْتَلُّ نَحْوَ قِيلَ وبِيعَ فالفاشِي فِيهِ الكَسْرُ، ثُمَّ الإشْمامُ، ثُمَّ الضَمُّ، فَيَقُولُونَ: قُولَ وبُوعَ، وأنْشَدَ ثَعْلَبُ: .................. ؎ وقُولَ لا أهْلَ لَهُ ولا مال قالَ الزَجّاجُ: مَن قَرَأ: "رِدَّتْ" بِكَسْرِ الراءِ جَعَلَها مَنقُولَةً مِنَ الدالِ، كَما فَعَلَ في قِيلَ وبِيعَ لِتَدُلَّ عَلى أنَّ أصْلَ الدالِ الكَسْرَةُ. وقَوْلُهُ: ﴿ما نَبْغِي﴾ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "ما" اسْتِفْهامًا، قالَهُ قَتادَةُ، و"نَبْغِي" مِنَ البُغْيَةِ، أيْ: ما نَطْلُبُ بَعْدَ هَذِهِ التَكْرِمَةِ؟ هَذا مالُنا رُدَّ إلَيْنا مَعَ مِيرَتِنا. قالَ الزَجّاجُ: ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "ما" نافِيَةً، أيْ: ما بَقِيَ لَنا ما نَطْلُبُ، ويَحْتَمِلُ أيْضًا أنْ تَكُونَ نافِيَةً و"نَبْغِي" مِنَ البَغْيِ، أيْ: ما تَعَدَّيْنا فَكَذَبْنا عَلى هَذا المَلِكِ ولا في وصْفِ إجْمالِهِ وإكْرامِهِ، هَذِهِ البِضاعَةُ مَرْدُودَةٌ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "ما تَبْغِي" بِالتاءِ عَلى مُخاطَبَةِ يَعْقُوبَ، وهي بِمَعْنى: ما تُرِيدُ؟ وما تَطْلُبُ؟ قالَ المَهْدَوِيُّ: ورَوَتْها عائِشَةُ عَنِ النَبِيِّ ﷺ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "وَنَمِيرُ" بِفَتْحِ النُونِ، مِن: مارَ يَمِيرُ إذا جَلَبَ الخَيْرَ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ بِعَثْتُكَ مائِرًا فَمَكَثْتَ حَوْلًا ∗∗∗ ∗∗∗ مَتى يَأْتِي غِياثُكَ يا مَن تُغِيثُ؟ وقَرَأتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: "وَنُمِيرُ" بِضَمِّ النُونِ، وهي مِن قِراءَةِ أبِي عَبْدِ الرَحْمَنِ السُلَمِيِّ، وعَلى هَذا يُقالُ: مارَ وأمارَ بِمَعْنًى. وقَوْلُهُمْ: ﴿وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ﴾ يُرِيدُونَ بَعِيرِ أخِيهِمْ، إذْ كانَ يُوسُفُ إنَّما حَمَلَ لَهم عَشَرَةُ أبْعِرَةٍ ولَمْ يَحْمِلِ الحادِي عَشَرَ لِغَيْبَةِ صاحِبِهِ، وقالَ مُجاهِدٌ: "كَيْلَ بَعِيرٍ" أرادَ: كَيْلَ حِمارٍ، قالَ: وبَعْضُ العَرَبِ يَقُولُ لِلْحِمارِ: بَعِيرٌ. وهَذا شاذٌّ. (p-١١٦)وَقَوْلُهُمْ: ﴿ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ تَقْرِيرٌ بِغَيْرِ ألِفٍ، أيْ: أذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ في مِثْلِ هَذا العامِ فَيُهْمَلُ أمْرُهُ؟ وقِيلَ: مَعْناهُ: يَسِيرٌ عَلى يُوسُفَ أنْ يُعْطِيَهُ، وقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: وقَدْ كانَ يُوسُفُ وعَدَهم أنْ يَزِيدَهم حِمْلُ بَعِيرٍ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وقالَ السُدِّيُّ: مَعْنى ذَلِكَ: كَيْلٌ يَسِيرٌ أيْ سَرِيعٌ لا نُحْبَسُ فِيهِ ولا نُمْطَلُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَكَأنَّهم -عَلى هَذا- آنَسُوهُ بِقُرْبِ العَوْدَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب