الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا صاحِبَيِ السِجْنِ أأرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أمِ اللهُ الواحِدُ القَهّارُ﴾ ﴿ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلا أسْماءً سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكم ما أنْزَلَ اللهُ بِها مِن سُلْطانٍ إنِ الحُكْمُ إلا لِلَّهِ أمَرَ ألا تَعْبُدُوا إلا إيّاهُ ذَلِكَ الدِينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿يا صاحِبَيِ السِجْنِ أمّا أحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وأمّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَيْرُ مِن رَأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ﴾ ﴿وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أنَّهُ ناجٍ مِنهُما اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأنْساهُ الشَيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ في السِجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ وصْفُهُ لَهُما بِـ ﴿يا صاحِبَيِ السِجْنِ﴾ هُوَ: إمّا عَلى أنَّ نَسَبَهُما بِصُحْبَتِهِما لِلسِّجْنِ مِن حَيْثُ سَكَناهُ، كَما قالَ تَعالى: " أصْحابُ الجَنَّةِ "، و " أصْحابِ الجَحِيمِ "، ونَحْوَ هَذا، وإمّا أنْ يُرِيدَ صُحْبَتَهُما لَهُ في السِجْنِ، فَأضافَهُما إلى السَجْنِ بِذَلِكَ، كَأنَّهُ قالَ: يا صاحِبَيَّ في السِجْنِ، وهَذا كَما قِيلَ في الكُفّارِ: إنَّ الأصْنامَ شُرَكاؤُهم. وعَرَضَهُ عَلَيْهِما بِطُولِ أمْرِ الأوثانِ بِأنْ وصَفَها بِالتَفَرُّقِ، ووَصَفَ اللهَ تَعالى بِالوَحْدَةِ والقَهْرِ (p-٩٠)تَلَطُّفٌ حَسَنٌ وأخْذٌ بِيَسِيرِ الحُجَّةِ قَبْلَ كَثِيرِها الَّذِي رُبَّما نَفَرَتْ مِنهُ طِباعُ الجاهِلِ وعانَدَتْهُ، وهَكَذا الوَجْهُ في مُحاجَّةِ الجاهِلِ، أنْ يُؤْخَذَ بِدَرَجَةٍ يَسِيرَةٍ مِنَ الِاحْتِجاجِ يَقْبَلُها، فَإذا قَبِلَها لَزِمَتْهُ عنها دَرَجَةٌ أُخْرى فَوْقَها، ثُمَّ كَذَلِكَ أبَدًا حَتّى يَصِلَ إلى الحَقِّ، وإنَّ أخْذَ الجاهِلِ بِجَمِيعِ المَذْهَبِ الَّذِي يُساقُ إلَيْهِ دَفْعَةً أباهُ لِلْحِينِ وعانَدَهُ، وقَدِ ابْتُلِيَ بِأرْبابٍ مُتَفَرِّقِينَ مَن يَخْدِمُ أبْناءَ الدُنْيا ويُؤَمِّلُهم. وقَوْلُهُ: ﴿إلا أسْماءً﴾، ذَهَبَ بَعْضُ المُتَكَلِّمِينَ إلى أنَّهُ أوقَعَ في هَذِهِ الآيَةِ الأسْماءَ عَلى المُسَمَّياتِ وعَبَّرَ عنها بِها إذْ هي ذَواتُ أسْماءٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والِاسْمُ الَّذِي هُوَ: (ألِفٌ وسِينٌ ومِيمٌ) قَدْ يَجْرِي في اللُغَةِ مَجْرى النَفْسِ والذاتِ والعَيْنِ، فَإنْ حَمَلْتَ الآيَةَ عَلى ذَلِكَ صَحَّ المَعْنى، ولَيْسَ الِاسْمُ -عَلى هَذا- بِمَنزِلَةِ التَسْمِيَةِ الَّتِي هِيَ: رَجُلٌ وحَجَرٌ، وإنْ أُرِيدَ بِهَذِهِ الأسْماءِ الَّتِي في الآيَةِ أسْماءَ الأصْنامِ الَّتِي هي بِمَنزِلَةِ اللاتِ والعُزّى ونَحْوِ ذَلِكَ مِن تَسْمِيَتِها آلِهَةً، فَيُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: إلّا ذَواتَ أسْماءٍ، وحَذَفَ المُضافَ وأقامَ المُضافَ إلَيْهِ مَقامَهُ. ويُحْتَمَلُ -وَهُوَ الراجِحُ المُخْتارُ إنْ شاءَ اللهُ- أنْ يُرِيدَ: ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ أُلُوهِيَّةً، ولا لَكم تَعَلُّقٌ بِإلَهٍ إلّا بِحَسْبَ أنْ سَمَّيْتُمْ أصْنامَكم آلِهَةً، فَلَيْسَتْ عِبادَتُكم لِإلَهٍ إلّا بِاسْمٍ فَقَطْ لا بِالحَقِيقَةِ، وأمّا الحَقِيقَةُ فَهي وسائِرُ الحِجارَةِ والخَشَبِ سَواءٌ، فَإنَّما تَعَلَّقَتْ عِبادَتُكم بِحَسْبَ الِاسْمِ الَّذِي وضَعْتُمْ، فَذَلِكَ هو مَعْبُودُكم إذا حَصَلَ أمْرُكُمْ، فَعَبَّرَ عن هَذا المَعْنى بِاللَفْظِ المَسْرُودِ في الآيَةِ. ومِن هَذِهِ الآيَةِ وهِمَ مَن قالَ: (فِي قَوْلِنا: رَجُلٌ وحَجَرٌ) إنَّ الِاسْمَ هو المُسَمّى في كُلِّ حالٍ، وقَدْ بانَتْ هَذِهِ المَسْألَةُ في صَدْرِ التَعْلِيقِ. ومَفْعُولُ "سَمَّيْتُمْ" الثانِي مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: آلِهَةً، هَذا عَلى أنَّ الأسْماءَ يُرادُ بِها ذَواتُ الأصْنامِ، وأمّا عَلى المَعْنى المُخْتارِ مِن أنَّ عِبادَتَهم إنَّما هي لِمَعانٍ تُعْطِيها الأسْماءُ ولَيْسَتْ مَوْجُودَةً في الأصْنامِ- فَقَوْلُهُ "سَمَّيْتُمُوها" بِمَنزِلَةِ: وضَعْتُمُوها، فالضَمِيرُ لِلتَّسْمِياتِ، وأكَّدَ الضَمِيرَ لِيَعْطِفَ عَلَيْهِ. (p-٩١)والسُلْطانُ: الحُجَّةُ، وقَوْلُهُ: ﴿إنِ الحُكْمُ إلا لِلَّهِ﴾ أيْ: لَيْسَ لِأصْنامِكُمُ الَّتِي سَمَّيْتُمُوها آلِهَةً مِنَ الحُكْمِ والأقْدارِ والأرْزاقِ شَيْءٌ، أيْ: فَما بالُها إذَنْ؟ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ الرَدَّ عَلى حُكْمِهِمْ في نَصْبِهِمْ آلِهَةً دُونَ اللهِ تَعالى: ولَيْسَ لَهم تَعِدِّي أمْرِ اللهِ في ألّا يُعْبَدَ غَيْرُهُ. و"القَيِّمُ" مَعْناهُ: المُسْتَقِيمُ، و﴿وَلَكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ لِجَهالَتِهِمْ وغَلَبَةِ الكُفْرِ. ثُمَّ نادى ﴿يا صاحِبَيِ السِجْنِ﴾ ثانِيَةً لِتَجْتَمِعَ أنْفُسُهُما لِسَماعِ الجَوابِ، فَرُوِيَ أنَّهُ قالَ لِنَبْوَ: أمّا أنْتَ فَتَعُودُ إلى مَرْتَبَتِكَ وسِقايَةِ رَبِّكَ، وقالَ لِمِجْلَثَ: أمّا أنْتَ فَتُصْلَبُ، وذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ ثَلاثٍ، فَرُوِيَ أنَّهُما قالا لَهُ: ما رَأيْنا شَيْئًا وإنَّما تَحالَمْنا لِنُجَرِّبَكَ، ورُوِيَ أنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إلّا الَّذِي حَدَّثَهُ بِالصَلْبِ، وقِيلَ: كانا رَأيا ثُمَّ أنْكَرا. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "فَيَسْقِي رَبَّهُ" مِن سَقى، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "فَيُسْقى" مِن أسْقى، وهُما لُغَتانِ لِمَعْنًى واحِدٍ. وقَرَأ عِكْرِمَةُ، والجَحْدَرِيُّ، "فَيُسْقى" بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ القافِ، أيْ: ما يُرْوِيهِ. وأخْبَرَهُما يُوسُفُ عَلَيْهِ السَلامُ -عن غَيْبٍ عَلِمَهُ مِن قِبَلِ اللهِ تَعالى- أنَّ الأمْرَ قَدْ قُضِيَ ووافَقَ القَدَرَ. وقَوْلُهُ: ﴿وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أنَّهُ ناجٍ﴾ الآيَةُ. الظَنُّ هاهُنا بِمَعْنى اليَقِينِ؛ لِأنَّ ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿قُضِيَ الأمْرُ﴾ يَلْزَمُ ذَلِكَ، وهو يَقِينٌ فِيما لَمْ يَخْرُجْ بَعْدُ إلى الوُجُودِ، وقالَ قَتادَةُ: الظَنُّ هُنا عَلى بابِهِ لِأنَّ عِبارَةَ الرُؤْيا ظَنٌّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿قُضِيَ الأمْرُ﴾ دالٌّ عَلى وحْيٍ، ولا يَتَرَتَّبُ قَوْلُ قَتادَةَ إلّا بِأنْ يَكُونَ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿قُضِيَ الأمْرُ﴾، أيْ: قُضِيَ كَلامِي وقُلْتُ ما عِنْدِي واللهُ أعْلَمُ بِما يَكُونُ بَعْدُ. (p-٩٢)وَفِي الآيَةِ تَأْوِيلٌ آخَرُ، وهُوَ: أنْ يَكُونَ "ظَنَّ" مُسْنَدًا إلى الَّذِي قِيلَ لَهُ: إنَّهُ يَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا، لِأنَّهُ دَخَلَتْهُ أُبَّهَةُ السُرُورِ بِما بُشِّرَ بِهِ، وصارَ في رُتْبَةِ مَن يُؤَمَّلُ حِينَ ظَنَّ وغَلَبَ عَلى مُعْتَقَدِهِ أنَّهُ ناجٍ وذَلِكَ بِخِلافِ ما نَزَلَ بِالآخَرِ المُعَرَّفِ بِالصَلْبِ. ومَعْنى الآيَةِ: قالَ يُوسُفُ لِساقِي المَلِكِ حِينَ عَلِمَ أنَّهُ سَيَعُودُ إلى حالَتِهِ الأُولى مَعَ المَلِكِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ المَلِكِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ أنْ يُذَكِّرَهُ بِعِلْمِهِ ومَكانَتِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُذَكِّرَهُ بِمَظْلَمَتِهِ وما امْتُحِنَ بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أو يُذَكِّرَهُ بِهِما. والضَمِيرُ في "فَأنْساهُ" قِيلَ: هو عائِدٌ عَلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ، أيْ: نَسِيَ في ذَلِكَ الوَقْتِ أنْ يَشْتَكِيَ إلى اللهِ، وجَنَحَ إلى الِاعْتِصامِ بِمَخْلُوقٍ، فَرُوِيَ أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ جاءَهُ فَعاتَبَهُ عَنِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في ذَلِكَ، وطُوِّلَ سِجْنُهُ عُقُوبَةً عَلى ذَلِكَ، وقِيلَ: أُوحِيَ إلَيْهِ: يا يُوسُفُ اتَّخَذَتْ مِن دُونِي وكِيلًا لَأُطِيلَنَّ حَبْسَكَ، وقِيلَ: إنِ الضَمِيرَ في "فَأنْساهُ" عائِدٌ عَلى الساقِي، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ، أيْ: نَسِيَ ذِكْرَ يُوسُفَ عِنْدَ رَبِّهِ، فَأضافَ الذَكَرُ إلى رَبِّهِ إذْ هو عِنْدَهُ، والرَبُّ - عَلى هَذا التَأْوِيلِ: المَلِكُ. والبِضْعُ في كَلامِ العَرَبِ اخْتُلِفَ فِيهِ -فالأكْثَرُ عَلى أنَّهُ مِنَ الثَلاثَةِ إلى العَشَرَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وعَلى هَذا هو فِقْهُ مالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ في الدَعاوِي والأيْمانِ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: البِضْعُ لا يَبْلُغُ العَقْدَ ولا نِصْفَ العَقْدِ، وإنَّما هو مِنَ الواحِدِ إلى الأرْبَعَةِ، وقالَ الأخْفَشُ: البِضْعُ مِنَ الواحِدِ إلى العَشَرَةِ، وقالَ قَتادَةُ: البِضْعُ مِنَ الثَلاثَةِ إلى التِسْعَةِ، ويُقَوِّي هَذا ما رُوِيَ مِن «أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ لِأبِي بَكْرٍ الصِدِّيقِ في قِصَّةِ خَطَرِهِ مَعَ قُرَيْشٍ في غَلَبَةِ الرُومِ لِفارِسَ: "أما عَلِمْتَ أنَّ البِضْعَ مِنَ الثَلاثِ إلى التِسْعِ؟!"،» وقالَ مُجاهِدٌ: (p-٩٣)مِنَ الثَلاثَةِ إلى السَبْعَةِ. قالَ الفَرّاءُ: ولا يُذْكَرُ البِضْعُ إلّا مَعَ العَشَراتِ، لا يُذْكَرُ مَعَ مِائَةٍ ولا مَعَ ألْفٍ، والَّذِي رُوِيَ في هَذِهِ الآيَةِ أنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ سُجِنَ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ نَزَلَتْ لَهُ قِصَّةُ الفَتَيَيْنِ، وعُوقِبَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ بِالبَقاءِ في السِجْنِ سَبْعَ سِنِينَ، فَكانَتْ مُدَّةُ سِجْنِهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وقِيلَ: عُوقِبَ بِبَقاءِ سَنَتَيْنِ، وقالَ الحَسَنُ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "لَوْلا كَلِمَتُهُ ما لَبِثَ في السِجْنِ طُولَ ما لَبِثَ"،» ثُمَّ بَكى الحَسَنُ وقالَ: نَحْنُ إذا نَزَلَ بِنا أمْرٌ فَزِعْنا إلى الناسِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب