الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ثُمَّ بَدا لَهم مِن بَعْدِ ما رَأوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّى حِينٍ﴾ ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِجْنَ فَتَيانِ قالَ أحَدُهُما إنِّي أرانِي أعْصِرُ خَمْرًا وقالَ الآخَرُ إنِّي أرانِي أحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَيْرُ مِنهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إنّا نَراكَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ لَمّا أبى يُوسُفُ المَعْصِيَةَ ويَئِسَتْ مِنهُ امْرَأةُ العَزِيزِ طالَبَتْهُ بِأنْ قالَتْ لِزَوْجِها: إنَّ هَذا الغُلامَ العِبْرانِيَّ قَدْ فَضَحَنِي في الناسِ، وهو يَعْتَذِرُ إلَيْهِمْ ويَصِفُ الأمْرَ بِحَسْبَ اخْتِيارِهِ، وأنا مَحْبُوسَةٌ مَحْجُوبَةٌ، فَإمّا أذِنْتَ لِي فَخَرَجْتُ إلى الناسِ فاعْتَذَرْتُ (p-٨٥)وَكَذَّبْتُهُ، وإمّا حَبَسْتَهُ كَما أنا مَحْبُوسَةٌ، فَحِينَئِذٍ بَدا لَهم سِجْنُهُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: فَأمَرَ بِهِ فَحُمِلَ عَلى حِمارٍ، وضُرِبَ بِالطَبْلِ، ونُودِيَ عَلَيْهِ في أسْواقِ مِصْرَ: إنْ يُوسُفَ العِبْرانِيَّ أرادَ سَيِّدَتَهُ، فَهَذا جَزاؤُهُ أنْ يُسْجَنُ، قالَ أبُو صالِحٍ: ما ذَكَرَ ابْنُ عَبّاسٍ هَذا الحَدِيثَ إلّا بَكى. و"بَدا" مَعْناهُ: ظَهَرَ، والفاعِلُ بِـ"بَدا" مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: بَدْوٌ، أو رَأْيٌ، وجَمْعُ الضَمِيرِ في "لَهُمْ" والساجِنُ المَلِكُ وحْدَهُ مِن حَيْثُ كانَ في الأمْرِ تَشاوُرٌ، و"لَيَسْجُنُنَّهُ" جُمْلَةٌ دَخَلَتْ عَلَيْها لامُ القَسَمِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ بِـ"بَدا" "لَيَسْجُنُنَّهُ" لِأنَّ الفاعِلَ لا يَكُونُ جُمْلَةً بِوَجْهٍ، هَذا صَرِيحُ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهَ، وقِيلَ: الفاعِلُ: "لَيَسْجُنُنَّهُ"، وهو خَطَأٌ، وإنَّما هو مُفَسِّرٌ لِلْفاعِلِ. و"الآياتِ" ذَكَرَ فِيها أهْلُ التَفْسِيرِ أنَّها قَدُّ القَمِيصِ -قالَهُ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ- وخَمْشُ الوَجْهِ الَّذِي كانَ مَعَ قَدِّ القَمِيصِ -قالَهُ عِكْرِمَةُ - وحَزُّ النِساءِ أيْدِيَهُنَّ، قالَهُ السُدِّيُّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ومَقْصِدُ الكَلامِ إنَّما هو أنَّهم رَأوا سِجْنَهُ بَعْدَ بَدْوِ الآياتِ المُبَرِّئَةِ لَهُ مِنَ التُهْمَةِ، فَهَكَذا يُبَيِّنُ ظُلْمَهم لَهُ، وخَمْشُ الوَجْهِ وحَزُّ النِساءِ أيْدِيَهُنَّ لَيْسَ فِيهِما تَبْرِيَةٌ لِيُوسُفَ، ولا تُتَصَوَّرُ تَبْرِيَةٌ إلّا في خَبَرِ القَمِيصِ، فَإنْ كانَ المُتَكَلِّمُ طِفْلًا -عَلى ما رُوِيَ- فَهي آيَةٌ عَظِيمَةٌ، وإنْ كانَ رَجُلًا فَهي آيَةٌ فِيها اسْتِدْلالٌ ما، والعادَةُ أنَّهُ لا يُعَبَّرُ بِآيَةٍ إلّا فِيما ظُهُورُهُ في غايَةِ الوُضُوحِ، وقَدْ تَقَعُ (الآياتُ) أيْضًا عَلى (المُبَيِّناتُ) كانَتْ في أيِّ حَدٍّ اتُّفِقَ مِنَ الوُضُوحِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ ما رَأوُا الآياتِ﴾ أيْ: مِن بَعْدِ ما ظَهَرَ لَهم مِن وُجُوهِ الأمْرِ وقَرائِنِهِ أنَّ يُوسُفَ بَرِيءٌ، فَلَمْ يُرِدْ تَعْيِينَ آيَةٍ، بَلْ قَرائِنِ جَمِيعِ القِصَّةِ. و(الحِينُ) في كَلامِ العَرَبِ وفي هَذِهِ الآيَةِ: الوَقْتُ مِنَ الزَمَنِ غَيْرَ مَحْدُودٍ، يَقَعُ (p-٨٦)لِلْقَلِيلِ والكَثِيرِ، وذَلِكَ بَيْنَ مَوارِدِهِ في القُرْآنِ، وقالَ عِكْرِمَةُ: الحِينُ هُنا يُرادُ بِهِ سَبْعَةُ أعْوامٍ وقِيلَ: بَلْ يُرادُ بِذَلِكَ سَنَةٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا بِحَسْبَ ما كَشَفَ الغَيْبُ في سَجْنِ يُوسُفَ - وسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ رَجُلًا يَقْرَأُ "عَتّى حِينٍ" بِالعَيْنِ -وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ- فَقالَ لَهُ: مَن أقْرَأكَ؟ قالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ، فَكَتَبَ عُمْرُ إلى ابْنِ مَسْعُودٍ: "إنَّ اللهَ أنْزَلَ القُرْآنَ عَرَبِيًّا بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، فَبِها أقْرِئِ الناسَ، ولا تُقْرِئْهم بِلُغَةِ هُذَيْلٍ ". ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: "عَثَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَلامُ ثَلاثَ عَثَراتٍ: هَمَّ فَسُجِنَ، وقالَ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأنْساهُ الشَيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَطُوِّلَ سِجْنِهِ، وقالَ: إنَّكم لَسارِقُونَ، فَرُوجِعَ: إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِجْنَ﴾ الآيَةُ. المَعْنى: فَسَجَنُوهُ فَدَخَلَ مَعَهُ السِجْنَ غُلامانِ سُجِنا أيْضًا، وهَذِهِ (مَعَ) تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ بِاقْتِرانِ وقْتِ الدُخُولِ، وألّا تَكُونَ بَلْ دَخَلُوا أفْذاذًا، ورُوِيَ أنَّهُما كانا لِلْمَلِكِ الأعْظَمِ، الوَلِيدِ بْنِ الرَيّانِ، أحَدُهُما: خَبّازُهُ، والآخَرُ: ساقِيهِ. والفَتى: الشابُّ، وقَدْ تَقَعُ اللَفْظَةُ عَلى المَمْلُوكِ وعَلى الخادِمِ الحُرِّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَتَّصِفَ هَذانِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، واللَفْظَةُ مِن ذَواتِ الياءِ، وقَوْلُهُمُ: (الفُتُوَّةُ): شاذٌّ، ورُوِيَ أنَّ المَلِكَ اتَّهَمَهُما بِأنَّ الخابِزَ مِنهُما أرادَ سُمَّهُ، ووافَقَهُ عَلى ذَلِكَ الساقِي، فَسَجَنَهُما، قالَهُ السُدِّيُّ، فَلَمّا دَخَلَ يُوسُفُ السِجْنَ اسْتَمالَ الناسَ فِيهِ بِحُسْنِ حَدِيثِهِ وفَضْلِهِ ونُبْلِهِ، وكانَ يُسَلِّي حَزِينَهُمْ، ويَعُودُ مَرِيضَهُمْ، ويَسْألُ لِفَقِيرِهِمْ، ويَنْدُبُهم إلى الخَيْرِ، فَأحَبَّهُ الفَتَيانِ ولَزِماهُ، وأحَبَّهُ صاحِبُ السَجْنِ والقَيِّمُ عَلَيْهِ، وقالَ لَهُ: كُنْ في أيِّ البُيُوتِ شِئْتَ، فَقالَ لَهُ يُوسُفُ: لا تُحِبُّنِي يَرْحَمُكَ اللهُ، فَلَقَدْ أدْخَلَتْ عَلَيَّ المَحَبَّةُ مَضَرّاتٍ: أحَبَّتْنِي عَمَّتِي فامْتُحِنْتُ لِمَحَبَّتِها، وأحَبَّنِي أبِي فامْتُحِنْتُ لِمَحَبَّتِهِ لِي، وأحَبَّتْنِي امْرَأةُ العَزِيزِ فامْتُحِنْتُ لِمَحَبَّتِها بِما تَرى، وكانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَلامُ قَدْ قالَ لِأهْلِ السِجْنِ: إنِّي أُعَبِّرُ الرُؤْيا وأُجِيدُ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ الفَتَيَيْنِ اسْتَعْمَلا هَذَيْنِ المَنامَيْنِ لِيُجَرِّباهُ، ورُوِيَ عن مُجاهِدٍ أنَّهُما رَأيا ذَلِكَ حَقِيقَةً فَأرادا سُؤالَهُ، فَقالَ أحَدُهُما واسْمُهُ (نبو) فِيما (p-٨٧)رُوِيَ: إنِّي رَأيْتُ حَبَلَةً مَن كَرْمٍ لَها ثَلاثَةُ أغْصانٍ حِسانٍ، فِيها عَناقِيدُ عِنَبٍ حِسانٍ، فَكُنْتُ أعْصِرُها وأسْقِي المَلِكَ، وقالَ الآخَرُ واسْمُهُ (مجلث): كُنْتُ أرى أنِّي أخْرُجُ مِن مُطَبَّخَةِ المَلِكِ وعَلى رَأْسِي ثَلاثُ سِلالٍ فِيها خُبْزٌ والطَيْرُ تَأْكُلُ مِن أعْلاهُ. وقَوْلُهُ: ﴿أعْصِرُ خَمْرًا﴾ قِيلَ: إنَّهُ سَمّى العِنَبَ خَمْرًا بِالمَآلِ، وقِيلَ: هي لُغَةُ أزْدِ عُمانَ، يُسَمُّونَ العِنَبَ خَمْرًا، وقالَ الأصْمَعِيُّ: حَدَّثَنِي المُعْتَمِرُ قالَ: لَقِيتُ أعْرابِيًّا يَحْمِلُ عِنَبًا في وِعاءٍ، فَقُلْتُ: ما تَحَمِلُ؟ قالَ: خَمْرًا، أرادَ العِنَبَ. وفي قِراءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ "إنِّي أرانِي أعْصِرُ عِنَبًا"، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ وصْفُ الخَمْرِ بِأنَّها مَعْصُورَةٌ؛، إذِ العَصْرُ لَها ومِن أجْلِها. وقَوْلُهُ: "خُبْزًا" يُرْوى أنَّهُ رَأى ثَرِيدًا فَوْقَ رَأْسِهِ، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "فَوْقَ رَأْسِي ثَرِيدًا تَأْكُلُ الطَيْرُ مِنهُ". وقَوْلُهُ: ﴿إنّا نَراكَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ قالَ الجُمْهُورُ: يُرِيدانِ: في العِلْمِ، وقالَ الضَحّاكُ وقَتادَةُ: المَعْنى مِنَ المُحْسِنِينَ في عِشْرَتِهِ مَعَ أهْلِ السِجْنِ وإجْمالِهِ مَعَهُمْ، وقِيلَ: أرادا إخْبارَهُ أنَّهُما يَرَيانِ لَهُ إحْسانًا عَلَيْهِما ويَدًا إذا تَأوَّلَ لَهُما ما رَأياهُ، ونَحا إلَيْهِ ابْنُ إسْحاقَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب